النص الشعري الشعبي مؤسسة ثقافية متجددة*
بقلم: عبد القادر شرشار **
تعرف الثقافة الشعبية الجزائرية مرحلة موسومة بمجموعة من التحديات والإرهاصات؛ فهي، نظراً لما عرفه المجتمع الجزائري من تحولات متسارعة ومن تحديات كبرى تعيش مرحلة تستدعي الوقوف المتأني والعميق أمام الإشكاليات التي تطرحها، نذكر هنا بعض ما تعرضت له من تحولات منذ العهد الاستعماري حتى اليوم وما يطرح حول مسائل العناية بها وجمعها ودراستها وإشاعة مفاهيمها بين القراء والباحثين.
ولا شك أن المؤسسة الجامعية هي الأولى من غيرها لطرح مثل هذه الإشكاليات وتهيئة الفرصة أمام المعنيين من الباحثين من أجل إثارة نقاش ثري حول واقعها وآفاقها خصوصاً أن الثقافة الشعبية الجزائرية تمثل رصيدا معرفيا ثرياً حاملاً لمكونات الهوية الوطنية الجزائرية وهي في صيرورتها تعبير عن مجموع التناقضات المجتمعية.
ترجع بدايات الاهتمام بالمواد الثقافية الشعبية في الجزائر في العصر الحديث إلى طلائع الاحتلال الفرنسي في الربع الثاني من القرن التاسع عشر(1). وكانت الغاية من هذه الدراسات والبحوث تدخل ضمن الاستراتيجيات العامة للحركة الاستعمارية في تلك الفترة من تاريخ الجزائر، لأن من بين أهداف هذه الأعمال العلمية، كان السعي وراء معرفة الحياة الشعبية من خلال منتوجها الثقافي/المعرفي ذي الصبغة الشعبية، وقد اتخذته السلطات العسكرية الفرنسية رصيدا معرفيا يساعدها في توجيه السكان للتكيف مع نظمها، فكانت الثقافة الشعبية هي الرصيد المعرفي المعتمد في الاستكشاف العلمي للمجتمع الجزائري (2).
ومن أشهر البحوث العلمية التي تناولت هذه الظاهرة وكشفت عن توجهاتها العلمية وأغراضها الاستراتيجية، مؤلف للكاتبين فيليب لوكاتش وجون كلود Philippe Lucas et Jean-Claude Vatin والموسوم بـ: L_Algérie des Anthropologues" جزائر الأنتربولوجيين"، حلل فيه الباحثان المناهج المتبعة في ضبط المادة المدروسة (Corpus)، وتحدثا عن خصائص كل منهج، وتحويل النتائج المتوصل إليها على شكل خلاصات مركزة إلى السلطات العسكرية والسياسية، والتي كانت بدورها تستثمرها في بناء خططها، وتعزيز موقعها في البلاد(3).
وإن كنا لا نعدم وجود جوانب علمية-في بعض تلك المؤلفات- خدمت الموروث الثقافي الشعبي، لكننا وإلى حد الساعة لم نوجه البحث نحوها لقراءتها قراءة علمية موضوعية لاستجلاء ما ينفعنا في كشف تاريخنا وتراثنا الشعبي، وإن كان ما يسم بعض هذه الأعمال الطابع الاستعماري الذي يفتعل في كثير من الأحيان بعض العلل غير الموضوعية، لكن القراءة الواعية من شأنها تشذيب وتهذيب هذه الجوانب، وبالتالي إبعادها وتجنبها في البحث، وفي ما يصدر عنه من نتائج.
مكانة النص الشعري الشعبي في صيرورة الفعل الثقافي:
يأخذ النص الشعبي- في منظورنا-مكانة الوثيقة الرسمية، والتي لا يطالها أي التباس قد يلحق غيرها من الوثائق، ولذلك وجب أن تحظى باهتمام بالغ في دراسة تاريخ الشعب، وأدب الشعب، باعتبارها رصيدا تاريخيا ومعرفيا يزخر بجزء هام من التراث الوطني، لا تختلف الدراسة فيه عن دراسة الشعر الفصيح، سواء من حيث موضوعاته، أم من حيث مضامينه. ونعتقد أن دراسة الشعر الشعبي متممة للدراسات الأدبية في الشعر العربي عامة،بل إننا نعتبر كل دراسة علمية للتراث لا تعير هذا الرصيد الهام اهتماما ناقصة.
وبعيداً عن كل جدل يثار حول مكانة هذا التراث الفنية، والاهتمام به، بخاصة عندما ينظر إليه من زاوية المضمون، ويربط بزمانه ومكانه، إذ يبدو أنه في الوقت الذي كانت فيه الثقافة الأدبية «الرسمية» الفصيحة محجوبة بفعل التغييب الذي مورس عليها من قبل الاستعمار، كانت الثقافة الشعبية في مأمن من هذا الفعل الاستيلابي/التعسفي، حيث لم يكن ممكنا أن يطالها القرار الرسمي، ولا أن يبلغها فعله القهري، ولم يكن باستطاعة الأجهزة الاستعمارية رغم كثرتها، وتخصص بعضها في متابعة الوضع الذي كان يرسمه الفعل الثقافي وما كان ينسج من شعر في أعماق المجتمع، أن يحد من صيرورتها، وهذا حال كل الشعوب في الظروف المماثلة(4).
لقد كان رد فعل الأدب الشعبي ومنه الشعري مبكرا،فقد واكب الحملات الأسبانية، قبل الفرنسية،في حين كان حضور الأدب الرسمي «الفصيح» متأخرا جدا،يمكن إرجاعه إلى عهد الأمير عبد القادر(5).
إن حضور النص الشعبي كان أكثر شمولية من حيث تنوع موضوعاته، وثرائه الشعري، وواقعيته، واهتمامه بالأحداث مفصلة، كما كان أكثر مرونة في رصدها والتعامل معها. فقد تفاعل مع الأحداث عبر المحطات التاريخية التي عرفتها أمتنا، حيث تكشف مقاربة النصوص الشعرية الشعبية عن انتقال الصورة والفكرة والمعنى عبر ما يدعى اليوم بالتناص، وهكذا تطور نموذج التواصل بين شعوب الأمة العربية والإسلامية، حتى إن تأثير الظروف السياسية، والتاريخية، والدينية التي مر بها الوطن العربي كان فيها باديا للعيان. ويمكن التمثيل لذلك ببعض النماذج الشعرية ذات الحمولة الثقافية العربية كمفهوم البطل الشجاع، المثالي، الكريم المتسامح، الأصيل التي ظلت في النص اللاحق، مستمدة أصولها من النص السابق، تذكرنا بما نسجته الروايات حول شخصية عنترة بن شداد العبسي، وقصة السموأل في الكرم والوفاء، وشجاعة علي بن أبي طالب(6).
وتأسيساً على ما سقناه، فإن دور الأدب الشعبي ،لا يتمثل في التعبير عن عواطف وأحاسيس الطبقات الشعبية المحرومة، وتصوير حياتها الاجتماعية فقط، وإنما يتجلى أيضا في الحفاظ على اللغة والثقافة، وإيصالها إلى الجماهير التي حرمت من التعليم المنظم، وانفصلت عن وسائل المعرفة الإنسانية، ومن هنا فإن الأدب الشعبي يمثل مؤسسة ثقافية متجددة، تتجاوز الحدود السياسية، والإقليمية، وهو أقدر على التواصل والتبليغ من الأدب الرسمي العالم، وهو بهذه الصفة استطاع أن يخلد مآثر الفكر العربي الإسلامي باعتماده على الرواية الشفهية في الوقت الذي كانت فيه الطباعة ووسائل النشر عزيزة المنال، على الرغم من انتشار ظاهرة الزهد في دراسة الآداب الشعبية من قبل العلماء، والنقاد، بحيث انصرف أغلبهم عن نصوصه نظراً للخلفية الفكرية التي كانت تطبع المجتمعات العربية قبل عصر النهضة، والقائمة على أسس طبقية، تفاضل بين أنماط التعبير حسب الوضع الاجتماعي، وقد كان العالم والناقد والمفكر متأثرا بهذا الواقع، لذلك أضحى من البديهي ألاّ تحلل ظاهرة الأدب الشعبي بمعزل عن الإطار العام لاتجاه الثقافة العربية والعالمية(7).
ولعل ما أتينا على ذكره لا ينسينا خصوصية الشعر الشعبي، وارتباطه بتطور المقاومة الشعبية في الجزائر حيث يستشف من بعض نصوصه أن أصحابه دعوا إلى ضرورة ربط الواقع المؤلم بالماضي المجيد، كما دعوا إلى ضرورة المحافظة على مقومات الشخصية القومية، لأنها كانت تشكل المناعة ضد محاولات الذوبان التي عمل الاحتلال الفرنسي لفرضها على الشعب الجزائري(8).
وقد انقسم شعراء الأدب الشعبي إلى اتجاهين نتيجة الوضع السياسي: اتجاه قبل الوضع تحت حكم الاستعمار، فأعطاه ظهره، وانزوى في القرى والمداشر، مقدما مبدأ التفكير والانعزال عن المواجهة، وكان مصدر هذا الاتجاه حساً جمعياً، ذي رؤى محدودة، وذوق بدائي عفوي تغذيه عصبيات اجتماعية ودينية. واتجاه آخر، ناضل، وصمد، وصارع، فخلده التاريخ.
وإذا وضعنا هذه الأعمال في سياقها الزماني والمكاني فإننا نلاحظ أنها لم تواجه النقد الأدبي بالمعنى الجمالي، وإنما واجهت نظاما عسيرا من الأحكام الجاهزة، التي تركت النصوص وانهالت على أصحابها، بل على أصولهم، وعروشهم، وقبائلهم، فلم تفد في شيء، بل ظل صوتها في قاع عميق لا يسمع صداه.
--------------------------------
* نقلاً عن مجلة النور العدد 172
**استاذ في جامعة وهران