موقع القصة في القرآن الكريم:
ورد ذكر القصة في سورة يوسف
قال تعالى :
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشّيْطان لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
القصة:
كان ليعقوب من البنين اثنا عشر ولداً ذكراً ، وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره، وباقي اخوته لم يَوْحَ إليهم.
وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.
ومن استدل على نبوتهم بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} وزعم أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوى، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم.
ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين اخوته بالرسالة والنبوة - أنه ما نص على واحد من اخوته سواه فدل على ما ذكرناه.
ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حَدَّثَنا عبد الصمد، حَدَّثَنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
انفرد به البُخَاريّ. فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد والمنة.
قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم، كأن أحد عشر كوكباً، وهم إشارة إلى بقية إخوته، والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه، قد سجدوا له فهاله ذلك.
فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وأخوته فيها. فأمره بكتمانها وألا يقصها على أخوته؛ كي لا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر.
وهذا يدل على ما ذكرناه.
ولهذا جاء في بعض الآثار: "استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود".
وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وأخوته معاً. وهو غلط منهم.
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي وكما أراك هذه الرؤية العظيمة، فإذا كتمتها {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة، {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي بالوحي إليك {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي بسببك، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة. {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة، كما أعطاها أباك يعقوب، وجدك اسحاق، ووالد جدك إبراهيم الخليل، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم؟ قال: "يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله".
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وأبو يعلى والبزار في مسنديهما، من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الأئمة - على السُّدِّي عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له: بستانة اليهودي، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماءها؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها، قال: فبعث إليه رسول الله فقال: "هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسماءها؟" قال: نعم. فقال: هي جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع. والضياء، والنور".
فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه.
قال تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَاخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ، إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم، والدلالات والمواعظ والبينات. ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه - يعنون شقيقه لأمه بنيامين - أكثر منهم، وهم عصبة أي جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي بتقديمه حبهما علينا.
ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم، وأضمروا التوبة بعد ذلك.
فلما تمالأوا على ذلك وتوافقوا عليه {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} قال مجاهد: هو شمعون، وقال السُّدِّي: هو يهوذا، وقال قتادة ومُحَمْد بن إسحاق: هو أكبرهم روبيل: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي المارة من المسافرين {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذي أقول لكم، فهو أقرب حالاً من قتله أو نفيه وتغريبه.
فأجمعوا رأيهم على هذا، فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ، قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ}. طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم.
فأجابهم الشيخ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بني يشق عليَّ أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه.
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة، إنا إذن لخاسرون، أي عاجزون هالكون.
وعند أهل الكتاب: أنه أرسله وراءهم يتبعهم، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم. وهذا أيضاً من غلطهم وخطئهم في التعريب؛ فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم، فكيف يبعثه وحده.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب، أي في قعره على راعونته، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح، وهو الذي ينزل ليملي الدّلاء، إذا قلَّ الماء، والذي يرفعها بالحبل يسمّى الماتح.
فلمّا ألقوه فيه أوحى الله إليه: أنه لا بدّ لك من فرجٍ ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها، ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا، في حالٍ أنت فيها عزيز، وهم محتاجون إليك خائفون منك {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
قال مجاهد وقتادة: وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك. وعن ابن عبَّاس {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها. رواه ابن جرير عنه.
فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطّخوه بشيءْ من دمٍ ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون، أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف: لا يغرّنك بكاء المتظلم فربَّ ظالم وهو باك، وذكر بكاء إخوة يوسف، وقد جاءوا أباهم عشاءً يبكون، أي في ظلمه الليل ليكون أمشي لغدرهم لا لعذرهم.
{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي في غيبتنا عنه في استباقنا، وقولهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له، ولو كنّا غير متهمين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في هذا؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب، وضمّنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه. {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب مفتعل، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموه أنه أكله الذئب، قالوا: ونسوا أن يخرّقوه، وآفة الكذب النسيان. ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يَرُجْ صنيعهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسّم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته. ولما راودوه عن أخذه، فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه وجاؤوا وهم يتباكون، وعلى ما تملأوا يتواطؤن ولهذا {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون، ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده فصاح وشق ثيابه. وعمد أولئك إلى جَدْيٍ فذبحوه ولطّخوا من دمه جبةَ يوسف. فلّما علم يعقوب شقَ ثيابه ولبس مئزراً أسود، وحزن على ابنه أياماً كثيرة.
وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ، وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به فجاءت سيّارة، أي مسافرون.قال أهل الكتاب كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم، قاصدين ديار مصر، من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدُهم دلوه، تعلَّق فيه يوسف.
فلما رآه ذلك الرجل: {قَالَ يَا بُشْرَى} أي يا بشارتي {هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي اوهموا انه معهم غلام من جملة متجرهم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي هو عالم بما تمالأ عليه اخوته وبما يُسِرُّهُ واجدوه، من انه بضاعةٌ لهم، ومع هذا لا يغيّره تعالى، لماله في ذلك من الحكمة العظيمة، والقَدَر السابق، والرحمة بأهل مصر، بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملّكُه أزمة الأمورِ، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يُحَدّ ولا يوصف.
ولما استشعر أخوة يوسف بأخذ السيارة له، لحقوهم وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه منهم بثمن بخس، أي قليل نزر، وقيل: هو الزَّيف {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ}.
قال ابن مسعود وابن عبَّاس ونوف البكالي والسُّدِّي وقتادة وعطية العوفي: باعوه بعشرين درهماً اقتسموها درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهماً. وقال عكرمة ومُحَمْد بن إسحاق: أربعون درهماً، فالله أعلم.
عزيز مصر:
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي أحسني إليه {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له، ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة.
قالوا: وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها، وهو الوزير بها الذي {تكون} الخزائن مسلمة إليه. قال ابن إسحاق: واسمه أطفير بن روحيب، قال: وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد، رجل من العماليق، قال: واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال غيره: كان اسمها زليخا، والظاهر أنه لقبها. وقيل: "فكا" بنت ينوس، رواه الثعلبي عن ابن هشام الرفاعي.
وقال مُحَمْد بن إسحاق، عن مُحَمْد بن السائب، عن أبي الصالح، عن ابن عبَّاس: كان اسم الذي باعه بمصر، يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.
وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته اكرمي مثواه، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً. وقيل: بوزنه مسكاً، ووزنه حريراً، ووزنه وَرِقاً. فالله أعلم.
وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه، ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي فهمها. وتعبير الرؤيا من ذلك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، أي إذا أراد شيئاً فإنه يقيض له أسباباً وأموراً لا يهتدي إليها العباد، ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد، وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.
وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد، فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشَّعبي: هو الحلم، وقال سعيد بن جبير، ثماني عشرة سنة، وقال الضحاك: عشرون سنة، وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة، وقال السُّدِّي: ثلاثون سنة. وقال ابن عبَّاس ومجاهد وقتادة، ثلاث وثلاثون سنة، وقال الحسن أربعون سنة. ويشهد له قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.