أبو ذر الغفاري
رضي الله
عنه
"ماأقلت الغبراء ،
ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر000 " حديث شريف
من
هو؟
هو جندب بن جنادة من غفار ، قبيلة لها باع طويل في قطع
الطريق ، فأهلها
مضرب الأمثال في السطو غير المشروع ، انهم حلفاء الليل ،
والويل لمن يقع
في أيدي أحد من غفار000ولكن شاء المولى أن ينير لهذه القبيلة
دربها بدأ
من أبي ذر -رضي الله عنه- ، فهو ذو بصيرة ، و ممن يتألهون في
الجاهلية
ويتمردون على عبادة الأصنام ، ويذهبون الى الايمان باله خالق عظيم ،
فما
أن سمع عن الدين الجديد حتى شد الرحال الى مكة000
اسلامه
ودخل أبو ذر -رضي الله
عنه- مكة متنكرا ، يتسمع الى أخبار أهلها والدين الجديد ، حتى وجد الرسول -صلى الله
عليه وسلم- في صباح أحد الأيام جالسا ، فاقترب منه وقال ( نعمت صباحا يا أخا العرب
)000فأجاب الرسول ( وعليك السلام يا أخاه )000قال أبوذر ( أنشدني مما تقول
)000فأجاب الرسول ( ما هو بشعر فأنشدك ، ولكنه قرآن كريم )000قال أبوذر ( اقرأ علي
)000فقرأ عليه وهو يصغي، ولم يمض غير وقت قليل حتى هتف أبو ذر ( أشهد أن لا اله الا
الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )000
وسأله النبي -صلى الله عليه وسلم-
( ممن أنت يا أخا العرب )000فأجابه أبوذر ( من غفار )000 وتألقت ابتسامة واسعة على
فم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، واكتسى وجهه بالدهشة والعجب ، وضحك أبو ذر فهو
يعرف سر العجب في وجه الرسول الكريم ، فهو من قبيلة غفار000أفيجيء منهم اليوم من
يسلم ؟!000 وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( ان الله يهدي من يشاء )000أسلم أبو
ذر من فوره ، وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس ، فقد أسلم في الساعات
الأولى للاسلام000
تمرده على
الباطل
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يحمل طبيعة متمردة ، فتوجه
للرسول -صلى الله عليه وسلم- فور اسلامه بسؤال ( يا رسول الله ، بم تأمرني
؟)000فأجابه الرسول ( ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري )000فقال أبو ذر ( والذي نفسي
بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد )000هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى
صوته ( أشهد أن لا اله الا الله000وأشهد أن محمدا رسول الله )000كانت هذه الصيحة
أول صيحة تهز قريشا ، من رجل غريب ليس له في مكة نسبا ولا حمى ، فأحاط به الكافرون
وضربوه حتى صرعوه ، وأنقذه العباس عم النبي بالحيلة فقد حذر الكافرين من قبيلته اذا
علمت ، فقد تقطع عليهم طريق تجارتهم ، لذا تركه المشركين ، ولا يكاد يمضي يوما آخر
حتى يرى أبو ذر -رضي الله عنه- امرأتين تطوفان بالصنمين ( أساف ونائلة ) وتدعوانهما
، فيقف مسفها مهينا للصنمين ، فتصرخ المرأتان ، ويهرول الرجال اليهما ، فيضربونه
حتى يفقد وعيه ، ثم يفيق ليصيح -رضي الله عنه- مرة أخرى ( أشهد أن لا اله الا
الله000وأشهد أن محمدا رسول الله )000
اسلام غفار
ويعود -رضي الله عنه- الى قبيلته ، فيحدثهم
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن الدين الجديد ، وما يدعو له من مكارم
الأخلاق ، فيدخل قومه بالاسلام ، ثم يتوجه الى قبيلة ( أسلم ) فيرشدها الى الحق
وتسلم ، ومضت الأيام وهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى المدينة ، واذا بموكب
كبير يقبل على المدينة مكبرا ، فاذا هو أبو ذر -رضي الله عنه- أقبل ومعه قبيلتي
غفار و أسلم ، فازداد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عجبا ودهشة ، و نظر اليهم وقال (
غفار غفر الله لها000وأسلم سالمها الله )000وأبو ذر كان له تحية مباركة من الرسول
الكريم حيث قال ( ماأقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء ،أصدق لهجة من أبي ذر )000
غزوة تبوك
وفي
غزوة تبوك سنة 9 هجري ، كانت أيام عسرة وقيظ ، خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وصحبه ، وكلما مشوا ازدادوا تعبا ومشقة ، فتلفت الرسول الكريم فلم يجد أبا ذر فسأل
عنه ، فأجابوه ( لقد تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره )000فقال الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ( دعوه ، فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله
منه )000وفي الغداة ، وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا ، فأبصر أحدهم رجل يمشي وحده ،
فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فقال الرسول ( كن أبا ذر )000وأخذ الرجل
بالاقتراب فاذا هو أبو ذر -رضي الله عنه- يمشي صوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ،
فلم يكد يراه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى قال ( يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده
، ويموت وحده ، ويبعث وحده )000
وصية
الرسول له
ألقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أبا ذر في
يوم سؤال ( يا أبا ذر ، كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء )000فأجاب قائلا (
اذا والذي بعثك بالحق ، لأضربن بسيفي )000فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- (
أفلا أدلك على خير من ذلك ؟000اصبر حتى تلقاني )000وحفظ أبو ذر وصية الرسول الغالية
فلن يحمل السيف بوجوه الأمراء الذين يثرون من مال الأمة ، وانما سيحمل في الحق
لسانه البتار000
جهاده
بلسانه
ومضى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده عهد
أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ، في تفوق كامل على مغريات الحياة وفتنتها ، وجاء
عصر عثمان -رضي الله عنه- وبدأ يظهر التطلع الى مفاتن الدنيا ومغرياتها ، و تصبح
السلطة وسيلة للسيطرة والثراء والترف ، رأى أبو ذر ذلك فمد يده الى سيفه ليواجه
المجتمع الجديد ، لكن سرعان ما فطن الى وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " وما
كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ "000فكان لابد هنا من الكلمة الصادقة الأمينة ،
فليس هناك أصدق من أبي ذر لهجة ، وخرج أبو ذر الى معاقل السلطة والثروة معترضا على
ضلالها ، وأصبح الراية التي يلتف حولها الجماهير والكادحين ، وذاع صيته وهتافه
يردده الناس أجمعين ( بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى
بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة )000
وبدأ أبو ذر بالشام ، أكبر المعاقل سيطرة
ورهبة ، هناك حيث معاوية بن أبي سفيان وجد أبو ذر -رضي الله عنه- فقر وضيق في جانب
، وقصور وضياع في الجانب الآخر ، فصاح بأعلى صوته ( عجبت لمن لا يجد القوت في بيته
، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه )000ثم ذكر وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بوضع الأناة مكان الانقلاب ، فيعود الى منطق الاقناع والحجة ، ويعلم الناس بأنهم
جميعا سواسية كأسنان المشط ، جميعا شركاء بالرزق ، الى أن وقف أمام معاوية يسائله
كما أخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غير خوف ولا مداراة ، ويصيح به وبمن معه
( أفأنتم الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم ؟؟)000ويجيب عنهم ( نعم
أنتم الذين نزل فيكم القرآن ، وشهدتم مع الرسول المشاهد)، ويعود بالسؤال ( أولا
تجدون في كتاب الله هذه الآية "000
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم000يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها
جباههم ، وجنوبهم ، وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم ، فذوقوا ما كنتم تكنزون "000
فيقول معاوية (لقد أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب )000فيصيح أبو ذر ( لا000بل
أنزلت لنا ولهم )000 ويستشعر معاوية الخطر من أبي ذر فيرسل الى الخليفة عثمان -رضي
الله عنه- ( ان أبا ذر قد أفسد الناس بالشام )000فيكتب عثمان الى أبي ذر يستدعيه ،
فيودع الشام ويعود الى المدينة ، ويقول للخليفة بعد حوار طويل ( لا حاجة لي في
دنياكم )000وطلب الاذن بالخروج الى ( الربذة )000وهناك طالبه البعض برفع راية
الثورة ضد الخليفة ولكنه زجرهم قائلا ( والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة ، أو
جبل، لسمعت وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي )000
فأبو ذر لا يريد
الدنيا ، بل لا يتمنى الامارة لأصحاب رسول الله ليظلوا روادا للهدى 000لقيه يوما
أبو موسى الأشعري ففتح له ذراعيه يريد ضمه فقال له أبو ذر ( لست أخيك ، انما كنت
أخيك قبل أن تكون واليا وأميرا )000كما لقيه يوما أبو هريرة واحتضنه مرحبا ، فأزاحه
عنه وقال ( اليك عني ، ألست الذي وليت الامارة ، فتطاولت في البنيان ، واتخذت لك
ماشية وزرعا )000وعرضت عليه امارة العراق فقال ( لا والله000لن تميلوا علي بدنياكم
أبدا )000
اقتدائه بالرسول
عاش أبو ذر -رضي الله عنه- مقتديا بالرسول -صلى الله عليه
وسلم- فهو يقول ( أوصاني خليلي بسبع ، أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن
أنظر الى من هو دوني ولا أنظر الى من هو فوقي ، وأمرني ألا أسأل أحدا شيئا ، وأمرني
أن أصل الرحم ، وأمرني أن أقول الحق ولو كان مرا ، وأمرني ألا أخاف في الله لومة
لائم ، وأمرني أن أكثر من لاحول ولا قوة الا بالله )000وعاش على هذه الوصية ، ويقول
الامام علي - رضي الله عنه - ( لم يبق اليوم أحد لايبالي في الله لومة لائم غير أبي
ذر )000
وكان يقول أبو ذر لمانعيه عن الفتوى ( والذي نفسي بيده ، لو وضعتم
السيف فوق عنقي ، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قبل أن تحتزوا لأنفذتها )000ورآه صاحبه يوما يرتدي جلبابا قديما فقال له ( أليس لك
ثوب غير هذا ؟000لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين ؟)000فأجابه أبو ذر ( يا بن
أخي ، لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني )000قال له ( والله انك لمحتاج اليهما
)000فأجاب أبو ذر ( اللهم غفرا انك لمعظم للدنيا ، ألست ترى علي هذه البردة ، ولي
أخرى لصلاة الجمعة، ولي عنزة أحلبها، وأتان أركبها، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟)000
وفاته
في (
الربذة ) جاءت سكرات الموت لأبي ذر الغفاري ، وبجواره زوجته تبكي ، فيسألها ( فيم
البكاء والموت حق ؟)000فتجيبه بأنها تبكي ( لأنك تموت ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا
!)000فيبتسم ويطمئنها ويقول لها ( لا تبكي ، فاني سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول ( ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ،
تشهده عصابة من المؤمنين )000وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ،
ولم يبق منهم غيري ، وهأنذا بالفلاة أموت ، فراقبي الطريق فستطلع علينا عصابة من
المؤمنين ، فاني والله ما كذبت ولا كذبت )000وفاضت روحه الى الله ، وصدق000فهذه
جماعة مؤمنة تأتي وعلى رأسها عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فما أن يرى وجه أبي ذر حتى تفيض عيناه بالدمع ويقول ( صدق رسول الله ، تمشي
وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك )000وبدأ يقص على صحبه قصة هذه العبارة التي قيلت
في غزوة تبوك كما سبق ذكره000