صنع السفينة و الطوفان
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}
وذلك أن نوحاً عليه السلام، لما يئس من صلاحهم، وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته، وتكذيبه، بكل طريق من فعال، ومقال، دعا عليهم دعوة غضب، فلبى الله دعوته، وأجاب طلبته، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}.
وقال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}
فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم، وفجورهم، ودعوة نبيهم عليهم، فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك؛ وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها، ولا يكون بعدها مثلها. وقدم الله تعالى إليه أنه: إذا جاء أمره، وحلَّ بهم بأسه، الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أنه لا يعاوده فيهم، ولا يراجعه، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا قال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}.
أي: يستهزئون به استبعاد الوقوع ما توعدهم به. {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}.
أي: نحن الذين نسخر منكم، ونتعجب منكم، في استمراركم على كفركم، وعنادكم، الذي يقتضي وقوع العذاب بكم، وحلوله عليكم. {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحل عليه عذاب مقيم} وقد كانت سجاياهم: الكفر الغليظ، والعناد البالغ في الدنيا. وهكذا في الآخرة، فإنهم يجحدون أيضاً، أن يكون جاءهم رسول. عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجيء نوح عليه السلام وأمته، فيقول الله عز وجل: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهد أنه قد بلغ)) وهو قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}
وقد قال بعض علماء السلف: لما استجاب الله لنوح أمره، أن يغرس شجراً ليعمل منه السفينة، فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى، وقيل: في أربعين سنة، فالله أعلم. قال الثوري: وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً، وعرضها خمسين ذراعاَ، وأن يطلى ظاهرها وباطنها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤاً أزور يشق الماء. وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، في عرض خمسين ذراعاً، وهذا الذي في التوراة وقال الحسن البصري: ستمائة في عرض ثلاثمائة. وعن ابن عباس: ألف ومائتا ذراع، في عرض ستمائة ذراع. وقيل: كان طولها ألفي ذراع، وعرضها مائة ذراع. وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات، كل واحدة عشر أذرع؛ فالسفلى: للدواب، والوحوش والوسطى: للناس، والعليا: للطيور. وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها، مطبق عليها. قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}.
أي: بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب في صنعتها. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
فتقدم إليه بأمره العظيم العالي، أنه إذا جاء أمره، وحلَّ بأسه، أن يحمل في هذه السفينة، من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها، لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي أهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم: أي إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد، وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم، الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد . والمراد بالتنور عند الجمهور: وجه الأرض أي نبعت الأرض من سائر أرجائها، حتى نبعت التنانير التي هي محال النار. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}.
هذا أمر بأن عند حلول النقمة بهم، أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. وقوله {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أي: من استجيبت فيهم الدعوة النافذة، ممن كفر، فكان منهم ابنه يام الذي غرق، كما سيأتي بيانه. {وَمَنْ آمَنَ} أي: واحمل فيها من آمن بك من أمتك. قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة، ليلاً ونهاراً بضروب المقال، وفنون التلطفات، والتهديد والوعيد تارة، والترغيب والوعد أخرى. وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة؛ فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفساً معهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفساً. وقيل: كانوا عشرة. وأما امرأة نوح، قيل: إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها وهي أم أولاده كلهم وهم: حام، وسام، ويافث، ويام، وتسميه أهل الكتاب: كنعان، وهو الذي قد غرق، وعابر . قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}
أمره أن يحمد ربه، على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها، وفتح بينه وبين قومه، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه، كما قال تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور، أن يكون على الخير والبركة، وأن تكون عاقبتها محمودة، وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: على اسم الله ابتداء سيرها، وانتهاؤه. قال الله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطراً، لم تعهده الأرض قبله، ولا تمطره بعده، كان كأفواه القرب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها، وسائر أرجائها، كما قال تعالى: { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} والدسر: يعنى السائر و تجري بأعيننا، أي: بحفظنا، وكلاءتنا، وحراستنا، ومشاهدتنا لها جزاء لمن كان كفر. وقد ذكر ابن جرير، وغيره، أن الطوفان كان في ثالث عشر، شهر آب، في حساب القبط. وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي: السفينة.
{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}.
قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض، خمسة عشر ذراعاً، وهو الذي عند أهل الكتاب. وقيل: ثمانين ذراعاً، وعمَّ جميع الأرض طولها والعرض، سهلها، وحزنها، وجبالها، وقفارها، ورمالها، ولم يبق على وجه الأرض، ممن كان بها من الأحياء، عين تطرف، ولا صغير، ولا كبير. قال الإمام مالك، عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان، قد ملؤوا السهل، والجبل و لم تكن بقعة في الأرض، إلا ولها مالك، وحائز. {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} وهذا الابن هو: يام أخو سام، وقيل اسمه كنعان. وكان كافراً عمل عملاً غير صالح، فخالف أباه في دينه ومذهبه، فهلك مع من هلك. هذا وقد نجا مع أبيه، الأجانب في النسب، لما كانوا موافقين في الدين والمذهب. {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
أي: لما فرغ من أهل الأرض، ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عز وجل، أمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر. وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
ثم قال تعالى: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}. هذا أمر لنوح عليه السلام، لما نضب الماء عن وجه الأرض، وأمكن السعي فيها، والاستقرار عليها، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم، على ظهر جبل الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور. {بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ} أي: اهبط سالماً مباركاً عليك، وعلى أمم ممن سيولد بعد، أي من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلاً ولا عقباً سوى نوح عليه السلام. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} فكل من على وجه الأرض اليوم، من سائر أجناس بني آدم، ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم: سام، وحام، ويافث. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم)). ورواه الترمذي عن ابن عباس، قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوماً، وإن الله وجَّه السفينة إلى مكة، فدارت بالبيت أربعين يوماً، ثم وجَّهها إلى الجودي فاستقرت عليه. فبعث نوح عليه السلام الغراب، ليأتيه بخبر الأرض، فذهب فوقع علىالجيف فأبطأ عليه. فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، ولطخت رجليها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب، فهبط إلى أسفل الجودي، فابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصحبوا ذات يوم، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها العربي، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم. وقال قتادة وغيره: ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب، فساروا مائة وخمسين يوماً، واستقرت بهم على الجودي شهراً. وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم. عن أبي هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود، وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا الصوم؟)) فقالوا: هذا اليوم الذي نجا الله موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصام نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله عز وجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم، فأمن أصحابه بالصوم وقال لأصحابه: من كان منكم أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله، فليتم بقية يومه)). وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر، المستغرب ذكر نوح أيضاً، والله أعلم.