[size=16]بين فتح المدائن وغزوة الخندق
ذكرنا أنه بعد شهرين من الحصار توصل المسلمون إلى سلاح جديد يعينهم على فتح هذه المدينة الصعبة؛ فقد أشار بعض الفرس المسلمين على سعد بن أبي وقاص بأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب، وهو نوع من الأسلحة الثقيلة يشبه الدبابات في عصرنا؛ فالمنجنيق جهاز ضخم جدًّا مثل المقلاع يلقي بالأحجار الضخمة داخل الحصون)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق، ووضعوها جنبًا إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدءوا في جمع الحجارة الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير. صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدءوا يفكرون في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة، وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق دجلة.
وهذا -بلا شك- لأنهم لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامى لن تقف عند دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها. وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض، فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟! فبدأ المسلمون يستكملون الضرب بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسفانبر، وتركوا المدينة خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى خرج لهم أحد الفرس طالبًا الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة أصبحت خالية. وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛ فوجدوها -فعلاً- خالية وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد، كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمه نفسية شديدة أمام هؤلاء الأبطال المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعًا إلى منطقه أسفانبر.
دخل المسلمون بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر قرب منتصف الليل، وقد ذكرنا أن جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش سيدنا أبي عبيدة بن الجراح في موقعة اليرموك حيث كان 38 ألفًا، فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سيدنا سعد بن أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس، وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا السور تسلقًا ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيًّا واحدًا في المنطقة بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي، ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة أسفانبر، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر! هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ ورسولُه. فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 مترًا (أي نحو عشرة أدوار في هذا الوقت من الزمن حين كان العرب كلهم يسكنون في الخيام أو في بيت من دور واحد مبني من طوب لَبِن، لكن هذا البناء كان ارتفاعه من 28 إلى 29 مترًا)، وقبته البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئًا وسط الجهة الأخرى؛ فصاح ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله المسلمين في غزوة الخندق.
ونتذكر يوم الخندق:
وكان ضرار بن الخطاب هذا -وقتئذٍ- مشركًا، وكان في جيش قريش الذي يحاصر المدينة، ولكن ضرارًا علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم، ونتذكر جميعًا ما حدث يومَ الخندقِ، ونسترجع معًا أن الرسول r بعد أن وافق على اقتراح سيدنا سلمان الفارسيِّ بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعًا يحفرون في هذا الخندق حتى وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله r يستأذنه في تغيير اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول r ذهب بنفسه وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه r؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج منها وهج شديد أضاء -كما يقول سلمان الفارسي t- ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول r: "الله أكبر! أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر! أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى". وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر! أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء". وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك -في هذا الوقت- يبشرهم r أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت: هذا ما وعد اللهُ ورسولُه. ثم يكرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم، ويقول: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله. سبحان الله! تأتي هذه المقولة منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول r أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد فقط؛ ولكن المسلمين -لعذوبة هذه الكلمات- تعوّدوا أن يقولوها في العيد، وليس هذا هو الأصل.
بدأ ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشارًا بفتح المدائن، وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعبًا فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس رعبًا شديدًا، وقد نُصِرَ r ونُصِرَ أصحابُه بالرعب.[/size]