[size=16]مقدمة
بعد أن فتح سيدنا خالد بن الوليد قصر الخورنق توجه إلى "الحيرة"، وهي كما قلنا الحلم الذي يتسابق عليه المسلمون، وكانت الحيرة مدينة عظيمة من مدن العراق بل هي أكبر مدينة في جنوب العراق، وتقع هذه المدينة على نهر الفرات في مواجهة سواد العراق، أو في مواجهة الجزيرة بين نهري الفرات ودجلة على مسافة تكاد تكون قريبة من المدائن على مقدمة الصحراء، وعلى حدود تقترب من الشام ويمر عليها نهر الفرات الذي تأتيه السفن التجارية من السِّنْدِ والهِنْد والصِّين؛ فهذه المدينة من المدن المهمة جدًّا، وفيها من القصور والمباني الفاخرة الكثير، ويسكن معظمها نصارى العرب ولكن يحكمها الفرس كما قلنا، إذ كان يحكمها "آزاذبه" الذي كان أميرًا فارسيًّا عليها؛ لأنها كانت موالية للفرس منذ فترة طويلة منذ أن تملكها أو ترأس عليها النعمان بن المنذر وحتى هذه اللحظة، فهي مدينة قديمة وعظيمة في الفرس؛ ولذلك جعل سيدنا أبو بكر الصديق ملتقى الجيشين في الحيرة.
وصلت جيوش خالد بن الوليد ذات الثمانية عشر ألف مقاتل إلى الحيرة فوجدوا فيها أربعة حصون:
الحصن الأول: يُسمى القصر الأبيض، وكان فيه إياس بن قبيصة، وهو رجل نصراني، وكل أمراء الحصون من النصاري أيضًا، وحصن آخر يُسمى قصر العبسيين كان فيه رجل يسمى عدي بن عدي المقتول، وحصن ابن مازن فيه حيري بن أكان، وحصن ابن بقيلة وكان فيه عمرو بن عبد المسيح، وكان أكبر هؤلاء الأمراء، وفي بعض الروايات أنه تجاوز الأعوام المائة.
كانت هذه الحصون الأربعة من الشدة والمناعة، بحيث إن أهلها يستطيعون أن يمكثوا فيها أيامًا وشهورًا دون أن يكونوا بحاجة إلى الخروج منها.
وعندما وصل خالد بن الوليد t إلى الحيرة وجد جميع أهل الحيرة متحصنين داخل هذه الحصون الأربعة بعد أن تركهم (آزاذبه) بجيشه وانصرف إلى المدائن.
جعل خالد بن الوليد لنفسه قاعدة بعيدة عن القصور، وأرسل مجموعة من أمهر قواده لحصار هذه الحصون، فأرسل ضرار بن الأزور لحصار القصر الأبيض، وأرسل سيدنا ضرار بن الخطاب لحصار قصر العبسيين، وكان ضرار بن الخطاب هذا زميلاً لخالد بن الوليد منذ أيام "أُحُد" أيام الشِّرك، فقد كان ضرار في كتيبة خالد بن الوليد التي هزمت المسلمين في موقعة "أُحد"، وأسلم ضرار t في فتح مكة، وشهد مع خالد بن الوليد جميع الفتوح في حروب الردة، وفي مواقعه في العراق، وهو ليس أخًا لعمر بن الخطاب، ولا لزيد بن الخطاب، لكنه أخٌ لهما في الإسلام.
القصر الثالث قصر ابن مازن عليه ضِرَار بن مُقرِّن وهو أحد الإخوة العشرة، أولاد مقرن المزني، ثم جعل خالد بن الوليد t حصار القصر الرابع قصر ابن بقيلة إلى المثنى بن حارثة.
وتقدمت الجيوش الأربعة لحصار هذه الحصون، وأرسل خالد بن الوليد إلى أهل هذه القصور الأربعة رسالةً تدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، وأعطاهم مهلة يومًا يبدأ الضرب بعده.
بعد مرور المهلة بدأ المسلمون يرمون القصور بالأسهم والنبال، فسمعوا أهل القصور يقولون: عليكم بالخزازيف. وهذه الكلمة جديدة على المسلمين لا يعرفون معناها، ولكنهم ابتعدوا عن مرمى أهل هذه القصور، ثم ظهرت الخزازيف وهي عبارة عن مقاليع ضخمة تقذف كرات من الخزف، صُنِعَتْ هذه الكرات من الطين وأوقدت عليها النيران حتى أصبحت خزفًا فهي تشبه قنابل أو أحجارًا ضخمة تُقذَف بالمقاليع على جيش المسلمين، وكان من حُسْنِ تقدير المسلمين الابتعاد عن مرمى هذه القصور فلم تصبهم هذه الخزازيف بشيء، وكانت قوة الرمي عند المسلمين أقوى وأعظم، فكانت سهامهم تصل إلى داخل هذه القصور؛ فتصيب مَنْ بها من الناس ولا تفرِّق هذه الأسهم بين جندي وبين رجل غير مقاتل وبين راهب في معبد لا تفرق بين أحد؛ لأنها تسقط داخل القصور، فعندما كثرت الإصابات خرج الرهبان من ديارهم وقالوا: يا أهل القصور، والله ما يقتلنا إلا أنتم...، فليس لكم إلا الاستسلام. وبالفعل اجتمع أهل هذه القصور الأربعة على الاستسلام، وكان أولهم استسلامًا أكبرهم سنًَّا؛ عمرو بن عبد المسيح وأرسل إلى خالد بن الوليد رسالة يخبره فيها برغبته في التفاوض معه على الجزية.[/size]