فتح قُرْقُسْيَاء وهيت
ثارت مدينة قُرْقُسْيَاء الواقعة في شمال المدائن في أقصى الشمال على نهر الفرات ومدينة هيت الواقعة في شمال الفرات، وثار بثورتهم أهل الجزيرة وهم ما بين دجلة والفرات، وكان ذلك في الوقت الذي خرجت فيه الجيوش الإسلامية لفتح جلولاء وتكريت والأبلة، فيرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من المدائن جيشا على رأسه سيدنا عمر بن مالك رضي الله عنه لفتح هيت وقُرْقُسْيَاء، فيحاصر هيت وتستعصي عليه فيحيط هيت بجيش على رأسه الحارث بن يزيد ويتوجه هو إلى قرقيساء مارًّا بمنطقة الفرات التي فتحها خالد بن الوليد من قبل ويحاصر قُرْقُسْيَاء واستسلم أهلها بسرعة فقد هاجمهم سيدنا عمر بن مالك فجاء وأخذهم على حين غِرَّة، وبعد استسلام قرقسياء توجه سيدنا عمر بن مالك إلى هيت يطلب تسليمهم فرفض أهل هيت التسليم فعرض عليهم أن يتركوا هيت إلى داخل بلادهم ويتركوا هيت للمسلمين على أن يؤمِّنَهُم المسلمون على دمائهم، فوافق أهل هيت على ذلك وكانت هي المنطقة الوحيدة التي حدث فيها الخيار بين المسلمين والفرس على أن يترك الفرس هيت إلى داخل الأراضي الفارسية في مقابل عدم دفعهم للجزية، وعلى أن يؤمنهم المسلمون على دمائهم، وبذلك فتحت مدينة هيت.
وكانت الجيوش الإسلامية في ذلك الوقت مسيطرة على جلولاء وتكريت ونينوى والموصل وقُرْقُسْيَاء وهيت ومنطقة الأبلة في الجنوب في هذا الوقت وبعد فتح كل هذه المنطقة، وبعد كثرة الغنائم التي جُلِبَتْ من الفتوحات خشي سيدنا عمر بن الخطاب على المسلمين من فتنة المال ومن فتنة الدنيا التي فتحت على المسلمين في ذلك الوقت وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب لسيدنا عتبة بن غزوان :" وددتُ لو أن بيني وبين فارس سداً من نار لا أغزوهم ولا يغزونني بعد الآن . أَوْقِفوا الانسياح في بلاد فارس"
. رغم الانتصارات العظيمة التي حققها المسلمون فهم من نصر إلى نصر ومن فتح إلى فتح آخر، وكان سبب وقف الانسياح أن الدنيا قد فتحت على المسلمين أكثر مما توقع سيدنا عمر بن الخطاب ولم يكن يعرف ردَّ فعل المسلمين تجاه هذه النعمة التي فتحت عليهم فخاف عليهم من فتنة المال التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" ؛ فلهذا أوقف سيدنا عمر بن الخطاب الانسياح في بلاد فارس ليعرف حال المسلمين بعد تقلبهم في الأموال، وبهذا يمكن الرد على المستشرقين ومن سار على دربهم فيما ادعوا من أن غرض المسلمين من الفتح هو الغنائم ، وكان سيدنا عمر بنى الخطاب يوصي الجيوش الإسلامية بقوله : " أَرِدِ اللهَ ولا تُرِدِ الدنيا واتَّقِ مصارع الظالمين" .
وهذا القرار يوضح أن سيدنا عمر بن الخطاب هو والمسلمين لم يبغوا الدنيا أو الغنائم، وكان بإمكان الجيش الإسلامي التوغل في الأراضي الفارسية وبسهولة بعد فتح جلولاء فقد كُسِرَت شوكة الجيش الفارسي في القادسية ثم في المدائن ثم في جلولاء، وانهزم الجيش الفارسي في الأهواز وفي تكريت، وكانت فرصة بالنسبة للمسلمين , لكن سيدنا عمر بن الخطاب أوقف الفتوحات لخوفه على المسلمين من الغنائم ومن الدنيا .
فكان يخاف عليهم من النعمة أكثر من خوفه عليهم من المعصية, وكان يخاف عليهم من المعصية أكثر من خوفه عليهم من الجيش الفارسي. وكان وقف الفتوحات في ذي القعدة من العام السادس عشر الهجري.
وأَمَّرَ سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا سعد بن أبي وقاص على كل ما فتحه المسلمون، ويضع -وهو في المدينة - خمس حاميات رئيسية على حدود الجيش الإسلامي وعلى حدود المنطقة المسَيْطَر عليها من قِبَلِ المسلمين,ويحدد رؤساء الحاميات من قِبَلِه أيضا
الحامية الأولى :
وكانت الحامية الأولى في قرقسياء وعلى رأسها : سيدنا عمر بن مالك فاتح المدينة .
الحامية الثانية :
وكانت في الموصل و على رأسها :سيدنا عبد الله بن المعتم . .
الحامية الثالثة :
وكانت في حلوان وعلى رأسها : القعقاع بن عمرو التميمي. .
الحامية الرابعة :
وكانت في (ماسبذان) وعلى رأسها : سيدنا ضرار بن الخطاب، وهو فاتح (ماسبذان). , وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص قد وجهه إليها إثر ثورة قامت فيها , فما إن وصلها سيدنا ضرار حتى تطاير أهل ماسبذان في الجبال كما يقول الرواة، وسيطر المسلمون عليها , ودعوا أهلها إلى العودة إلى بلادهم على أن يدفعوا الجزية ؛ فقبل أهل ماسبذان ذلك وعادوا إلى بلادهم.
الحامية الخامسة:
وكانت في البصرة , وعلى رأسها سيدنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه وأرضاه. .
ووقفت الحروب الإسلامية في هذه الفترة.
وعاد المسلمون إلى سيدنا عمر بن الخطاب من بلاد الفرس بوجه آخر فيه من النعمة ما فيه، فقد خرجوا من الجزيرة العربية في حالة تقشف إلى المدائن حيث الأشجار الوارفة والظِّلِّ العظيم.
وأرسل سيدنا حذيفة بن اليمان -وكان من قواد جيش سيدنا سعد بن أبي وقاص في المدائن . - إلى سيدنا عمر بن الخطاب برسالة يقول له فيها: إن المسلمين قد أُتْرِفَتْ بطونُهُم, وخفَّت أعضادهم, وتغيرت ألوانهم؛ فانظر ماذا ترى.
وما إن وصلت الرسالة إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى اتخذ قراراً تغير به مسار الفتوحات الإسلامية.
وهذا ما نعرفه في الدرس القادم إن شاء الله.