[size=16]مقدمة
توقفنا في المقال السابق عند بنود معاهدة جرجان وماذا فعل فيها سويد بن مقرن من تغيير ليسقط الدولة الفارسية إسقاطًا كاملاً، وكانت معاهدة جرجان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، ونصها:
"هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وإلى أهل جرجان أن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عِوَضًا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومِلَلِهم وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين (أي أكرموهم)، ولم يبدُ منهم سَلٌّ لسيف، ولا غَلٌّ لمال، وعلى أن من سب مسلمًا بلغ جهده (أي عُوقِبَ)، ومن ضربه حلَّ دمه".
وهذه هي معاهدة جرجان، وتختلف عن المعاهدات السابقة في قوله: "ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه". وهي أول معاهدة من نوعها يقر فيها قائد المسلمين الفرس على ديانتهم المجوسية ولا يأخذ منهم جزية على أن يدافعوا عن البلد مع المسلمين، وكان ما يحدث قبل ذلك أن جيش المسلمين لم يكن يستعين بأهل البلد المفتوحة، بل يأخذ منهم الجزية مقابل أن يدافع المسلمون عن البلد، لكن هذه المرة عَرَض عليهم سيدنا سويد هذا العرض، فقبل أهل جرجان الدفاع عن البلد ضد أي هجوم خارجي، وهذا الهجوم سيكون -في الغالب- من الفرس نظيرَ إسقاط الجزية عنهم، وقد يجازيه المسلمون على هذا الدفاع الذي قام به.
انعكاسات التغيير في المعاهدات
أولاً: توغَّل جيش المسلمين لمسافات كبيرة داخل الأراضي الفارسية، فما بين الري وقُومِس -مثلاً- ثلاثمائة وخمسون كيلو مترًا كما ذكرنا، وقد أصبح تعداد الجيش الإسلامي قليلاً بحيث لا يستطيع حماية كل المدن التي فتحها، فكان لا بد من توظيف جزء من الفرس في الدفاع عن هذه الأراضي نظير جزء من المال لضعف الدولة الإسلامية عن الدفاع عن هذه الأراضي.
ثانيًا: أراد سيدنا سويد بهذه المعاهدة أن يفرق الفرس إلى طائفتين: إحدى الطائفتين تدافع عن المسلمين، وتأخذ أجرها منهم؛ وطائفة أخرى تحارب المسلمين ولا تريد أن تقبل الصلح معهم، بل تهاجمهم. وهذه المعاهدة أحدثت تفككًا بين الفرس؛ فأصبح الفارسي يقاتل أخاه الفارسي دفاعًا عن "جرجان" لصالح المسلمين، فانقسم الفرس إلى فرقتين: فرقة تتسارع لتأخذ أماكن الدفاع إرضاءً للمسلمين، وتحصل على الأموال منهم أو تُسْقَط عنهم الجزية ويدافعوا عن الأرض، والفرقة التي أخذتها العزة أن تتصالح مع المسلمين وتحاربهم، فستحارب الفرس -أيضًا- لأنَّ من بنود المعاهدة الدفاع عن جرجان ضد أي هجوم حتى ولو كان من الفرس.
ثالثًا: وهذا السبب في غاية الأهمية، وهو أنه طالما يشعر الفُرْسُ بالعداء فلن يتقبلوا الإسلام بنفس راضية؛ فالعدواة والكراهية من أهل الأرض لمن احتلهم هي الأصل في ذلك، وذلك يحول دون تقبلهم الأفكار الإسلامية، أما لو تحولت هذه العلاقة من علاقة عدو لعدو إلى علاقة صداقة أو تجارة أو علاقة يأخذ عليها أجرًا، فمع مرور الزمن تسقط هذه العداوة، وبالتالي يكون الجو أنسب للجيش الإسلامي لنشر الأفكار الإسلامية داخل الأراضي الفارسية.
وهذه المعاهدة التي عقدها سيدنا سويد بن مقرن، وما فكَّر فيه من نتائج لهذه المعاهدة، وما ذكرته كتب التاريخ آتت ثمارها بعد أشهر، فبعد أن علمت طبرستان بمعاهدة جرجان طلبت من المسلمين معاهدة على نهجها، أي على أن يشترك أهل طبرستان في الدفاع عنها نظير إسقاط الجزية وأخذ أجر من المال، ومعظم المعاهدات بعد ذلك كانت على ذلك النهج. ولما أرسل سويد بنود هذه المعاهدة إلى سيدنا عمر بن الخطاب استحسن ذلك الأمر، وهو دفاع الفرس عن الأراضي الفارسية لصالح المسلمين.
والمعاهدات مع اليهود في العصر الحديث صورة طبق الأصل من هذه المعاهدة، ولكن على العكس فالمسلمون أصبحوا مكان الفرس، واليهود أصبحوا مكان المسلمين، وكأن اليهود يقرءون كتب المسلمين ويستفيدون منها ويطبقونها عليهم، ونحن لا ننظر إلى تاريخنا، فقد قسموا البلاد الإسلامية الآن إلى أناس مسلمين يدافعون عن بلادهم، وآخرين يتسابقون ليأخذوا الأجر من اليهود وليأخذوا قطعة أرض كجرجان تاركين كل المملكة؛ لتكون لهم سلطة وحكومة تحت سلطان الاحتلال، وأصبح على الأخ المسلم الذي يريد قتال اليهود قتال أخيه الموالي لليهود والمتعاون معهم، كما نشأت صداقة بين هؤلاء واليهود، بعد أن كان اليهود أعداء أصبحوا أصدقاء، وبيننا وبينهم معاملات من تجارة وتبادل ثقافي وتبادل فني وتطبيع رياضي، وتسقط كل الحواجز وينتج عن ذلك أمران:
ذوبان الأفكار الإسلامية وانتشار الأفكار اليهودية، فكل الأفكار اليهودية الهدامة تأخذ طريقها في الانتشار في منتهى السهولة، بينما تنمحي الأفكار الإسلامية مع الوقت، ولن تقرأ في كتب التعليم أن اليهود أعداء، أو تدرس غزوة من غزوات النبي r مع اليهود في كتب التاريخ أو التربية الإسلامية، فلا بُدَّ -عندهم- أن يخرج الجيل القادم وقد تربى على أن اليهود أصدقاء يأخذ منهم الأموال، ويدافع عن أرض المسلمين لصالح اليهود، ولا توجد بينه وبينهم كراهية أو عداوة.
ومهما حاولت أن تربي ابنك على عداوة اليهود لن تفلح؛ لأن الواقع كله يقول إنهم أصدقاء، وبعد سنوات معدودة حسب نشاط اليهود وكسل المسلمين تحدث عملية امتزاج بين الأفكار اليهودية والأفكار الإسلامية، وساعتها لن تجد فرقًا بين المسلمين واليهود. والمسلمون يفعلون ذلك عن غفلة، أما اليهود فيفعلون ذلك عن نظر وتخطيط، فقد وصلوا إلى النظرة التي وصل إليها سيدنا سويد بن مقرن من قبلُ، وهؤلاء الفرس الذين قاموا بالمعاهدة مع سيدنا سويد بن مقرن إما أن تكون لديهم غفلة أو حب الرياسة وحب التملك لمنطقة جرجان وطبرستان، ولا يهمهم الدولة الفارسية التي تجمعهم، مع أن جرجان لا تساوي فيها شيئًا، ولكن حب التملك هو الذي جعلهم يدافعون عن هذه الأرض لصالح المسلمين ضد إخوانهم من الفرس.
ولكن كيف استفاد اليهود من تاريخ المسلمين؟ وكيف وقع المسلمون في أخطاء الفرس؟ أمر عجيب ولغز محيِّر، وهذا الأمر لا بد أن نستفيد منه لنعرف ما فُعِلَ بنا.
هذا هو نص معاهدة جرجان وطبرستان، وبعد ذلك ستأتي معاهدات شبيهة بهذه المعاهدة، تكررت في الحروب الفارسية.
وبعقد الصلح مع جرجان وطبرستان وتسليم الدولتين انتهت مهمة الجيش الثاني، وتمت مهمة سيدنا نعيم بن مقرن بفتح همذان والري كما خطط لها سيدنا عمر بن الخطاب تمامًا، وأيضًا تمت مهمة سيدنا سويد بن مقرن بفتح قُومِس وجرجان وطبرستان، وزاد على ذلك الشروط التي وضعها في المعاهدة مما كان لها الأثر الطيب على المسلمين، واستحسنها عمر بن الخطاب t.[/size]