*3*12 باب مِنْ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنْ الْفِتَنِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب من الدين الفرار من الفتن) عدل المصنف عن الترجمة بالإيمان - مع كونه ترجم لأبواب الإيمان - مراعاة للفظ الحديث، ولما كان الإيمان والإسلام مترادفين في عرف الشرع وقال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) صح إطلاق الدين في موضع الإيمان.
الحديث:
-19- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ."
الشرح:
قوله: (حدثنا عبد الله بن مسلمة) هو القعنبي أحد رواة الموطأ، نسب إلى جده قعنب، وهو بصري أقام بالمدينة مدة.
قوله: (عن أبيه) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة، فسقط الحارث من الرواية، واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري ثم المازني، هلك في الجاهلية، وشهد ابنه الحارث أحدا، واستشهد باليمامة.
قوله: (عن أبي سعيد) اسمه سعد على الصحيح - وقيل سنان - ابن مالك بن سنان، استشهد أبوه بأحد، وكان هو من المكثرين.
وهذا الإسناد كله مدنيون، وهو من أفراد البخاري عن مسلم.
نعم أخرج مسلم في الجهاد - وهو عند المصنف أيضا من وجه آخر - عن أبي سعيد حديث الأعرابي الذي سأل: أي الناس خير؟
قال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله.
قال: ثم من؟
قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره.
وليس فيه ذكر الفتن.
وهي زيادة من حافظ فيقيد بها المطـلق.
ولها شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم، ومن حديث أم مالك البهزية عند الترمذي، ويؤيده ما ورد من النهي عن سكنى البوادي والسياحة والعزلة، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الفتن.
قوله: (يوشك) بكسر الشين المعجمة أي: يقرب.
قوله: (خير) بالنصب على الخبر، وغنم الاسم، وللأصيلي برفع خير ونصب غنما على الخبرية، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر ويقدر في يكون ضمير الشأن قاله ابن مالك، لكن لم تجيء به الرواية.
قوله: (يتبع) تشديد التاء ويجوز إسكانها.
" وشعف " بفتح المعجمة والعين المهملة جمع شعفة كأكم وأكمة، وهي رؤوس الجبال.
قوله: (ومواقع القطر) بالنصب عطفا على شعف، أي بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى.
قوله: (يفر بدينه) أي: بسبب دينه.
و " من " ابتدائية، قال الشيخ النووي: في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينا، وإنما هو صيانة للدين.
قال: فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين.
وقال غيره: إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية أي الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر.(1/ 70)
وهذا الحديث قد ساقه المصنف أيضا في كتاب الفتن، وهو أليق المواضع به، والكلام عليه يستوفى هناك إن شاء الله تعالى.
*3*13 باب قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ" حذف التشكيل
وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)
الشرح:
قوله: (باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم -) هو مضاف بلا تردد.
قوله: (أنا أعلمكم) كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه.
وفي رواية الأصيلي " أعرفكم " وكأنه مذكور بالمعنى حملا على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل المصنف.
قوله: (وأن المعرفة) بفتح أن والتقدير: باب بيان أن المعرفة.
وورد بكسرها وتوجيهه ظاهر.
وقال الكرماني: هو خلاف الرواية والدراية.
قوله: (لقوله تعالى) مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل القلب.
و قوله: (بما كسبت قلوبكم) أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب.
وكأن المصنف لمح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه في قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) قال: هو كقول الرجل إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلا على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلا على زيادة الإيمان ونقصانه لأن قوله -صلى الله عليه وسلم -: " أنا أعلمكم بالله " ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم -منه في أعلى الدرجات.
والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقا.
(فائدة) : قال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب فقيل: المعرفة، وقيل: النظر.
وقال المقترح: لا اختلاف في أن أول واجب خطابا ومقصودا المعرفة، وأول واجب اشتغالا وأداء القصد إلى النظر.
وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جدا.
وأجاب الأولون عن ذلك: بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم.
ومقتضى هذا: أن المعرفة المذكورة يكتفي فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه.
ومع ذلك فقول الله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها. ((1/ 71)
وحديث " كل مولود يولد على الفطرة " ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها، وسيأتي مزيد بيان لهذا في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.
وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني - وهو من كبار الأشاعرة - أنه سمعه يقول:
إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب، والله المستعان.
وقال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم -:
" إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل " فمحمول على ما إذا لم تستقر.
قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: " أو تعمل " لأن الاعتقاد هو عمل القلب، ولهذه المسألة تكملة تذكر في كتاب الرقاق.
الحديث:
-20- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ.
قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.
فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا."
الشرح:
قوله: (حدثنا محمد بن سلام) هو بتخفيف اللام على الصحيح.
وقال صاحب المطالع: هو بتشديدها عند الأكثر، وتعقبه النووي بأن أكثر العلماء على أنه بالتخفيف، وقد روى ذلك عنه نفسه وهو أخبر بأبيه، فلعله أراد بالأكثر مشايخ بلده.
وقد صنف المنذري جزءا في ترجيح التشديد، ولكن المعتمد خلافه.
قوله: (أخبرنا عبده) هو ابن سليمان الكوفي، وفي رواية الأصيلي: حدثنا.
قوله: (عن هشام) و ابن عروة بن الزبير بن العوام.
قوله: (إذا أمرهم أمرهم) كذا في معظم الروايات، ووقع في بعضها أمرهم مرة واحدة، وعليه شرح القاضي أبو بكر بن العربي، وهو الذي وقع قي طرق هذا الحديث التي وقفت عليها من طريق عبده، وكذا من طريق ابن نمير وغيره عن هشام عند أحمد، وكذا ذكره الإسماعيلي من رواية أبي أسامة عن هشام ولفظه: " كان إذا أمر الناس بالشيء"
قالوا: والمعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون ما يشق خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه، وعمل هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف، طلبوا منه التكليف بما يشق، لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه، فيقولون: " لسنا كهيئتك"
فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير قي العمل، بل يوجب الازدياد شكرا للمنعم الوهاب، كما قال في الحديث الآخر:
" أفلا أكون عبدا شكورا".
وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه كما في الحديث الآخر:
" أحب العمل إلى الله أدومه"، وعلى مقتضى ما وقع في هذه الرواية من تكرير " أمرهم " يكون المعنى:
كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه، فأمرهم الثانية جواب الشرط، وقالوا جواب ثان.
قوله: (كهيئتك) أي ليس حالنا كحالك.
وعبر بالهيئة تأكيدا.
وفي هذا الحديث فوائد:
الأولى: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيئات، لأنه -صلى الله عليه وسلم -لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة، بل من الجهة الأخرى.
الثانية: أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها، كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة، واستزادة لها بالشكر عليها.
الثالثة: الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له.
الرابعة: أن الأولى في العبادة القصد والملازمة، لا المبالغة المفضية إلى الترك، كما جاء في الحديث الآخر: " المنبت - أي المجد في السير - لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى".
الخامسة: التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة وطلبهم الازدياد من الخير.
السادسة: مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي، والإنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم، تحريضا له على التيقظ.
السابعة: جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك عند الأمن من المباهاة والتعاظم.
الثامنة: بيان أن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -رتبة الكمال الإنساني لأنه منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وقد أشار إلى الأولى بقوله: " أعلمكم"، وإلى الثانية بقوله: " أتقاكم"، ووقع عند أبي نعيم " وأعلمكم بالله لأنا " بزيادة لام التأكيد. (1/72)
وفي رواية أبي أسامة عند الإسماعيلي: " والله إن أبركم وأتقاكم أنا"، ويستفاد منه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة إلا للضرورة وأولوا قول الشاعر:
"وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي"
بأن الاستثناء فيه مقدر، أي: وما يدافع عن أحسابهم إلا أنا.
قال بعض الشراح: والذي وقع في هذا الحديث، يشهد للجواز بلا ضرورة، وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، لا أعرفه إلا من هذا الوجه، فهو مشهور عن هشام، فرد مطلق من حديثه عن أبيه عن عائشة والله أعلم.
وقد أشرت إلى ما ورد في معناه من وجه آخر عن عائشة في باب من لم يواجه من كتاب الأدب، وذكرت فيه ما يؤخذ منه تعيين المأمور به.
ولله الحمد.