قبل الحديث عن المحاور الأساسية التي أرتكز عليها الجنرال شارل ديغول(1) في تنفيذ سياسته الرامية إلى خنق الثورة و القضاء عليها، فمن المفيد أن نقدم فكرة عن هذا الرجل و عن الأسباب التي دفعت بالضباط الفرنسيين و المعمرين في اللجوء إليه و عودته إلى الحكم عام 1958؟
فشارل ديغول هو من أبرز رجالات فرنسا في القرن العشرين استطاع أن يفرض نفسه كرئيس للجنة فرنسا الحرة التي لجأت إلى لندن بعد الاحتلال النازي لفرنسا 1940. و قد جمع ديغول حوله مجموعة من الضباط العسكريين و السياسيين و الجامعيين، و نتيجة لاتصالاته أنشء "المجلس الوطني للمقاومة" CNR، داخل فرنسا و الذي اعترف بديغول كرئيس لفرنسا.
و انضم ديغول إلى الحلفاء إلى أن تم القضاء على النازية فعاد إلى فرنسا بعد تحريرها عام 1945، بعدها ابتعد عن الحياة السياسية حتى سنة 1958، حيث استنجد به الفرنسيون لإنقاذ الوضع السياسي المتعفن داخل فرنسا، إذ وصل إلى الحكم بعد انقلاب 13 ماي 1958، في بداية شهر جوان تسلم ديغول بشكل رسمي الحكم في فرنسا و أعطى لفرنسا دستورا جديد أسس به الجمهورية الخامسة. فكيف سيعالج ديغول القضايا التي ورثها عن الجمهورية الرابعة.
لعل من أهم القضايا التي طرحت عليه خلال هذه الفترة هي القضية الجزائرية و تداعياتها على مختلف الأصعدة على السياسة الفرنسية فلابد من الإقرار منذ البداية أن الجنرال ديغول كان له تصور خاص في معالجة القضية الجزائرية(2)، يختلف هذا التصور على نظرة المجموعة التي جاءت به إلى السلطة أقصد (الضباط و غلاة المعمرين) المتمسكين بفكرة الجزائر فرنسية.
و من الدلائل التي تثبت أن الجنرال ديغول كان له تصور خاص في معالجة القضية الجزائرية من خلال اقتناعه بمجموعة من الحقائق المتعلقة بتطور القضية الجزائرية على المستوى الداخلي و الخارجي و يمكن رصد هذه الحقائق فيما يلي:
1. أن ديغول كان يعترف بحقيقة التأييد و الدعم الذي أصبحت تلقاه القضية الجزائرية في المحافل الدولية منذ مؤتمر باندونغ اندونيسيا عام 1955 و المؤتمرات الآفرو آسيوية و التفاعل الإيجابي من قبل الأمم المتحدة التي ناقشت القضية الجزائرية في العديد من جلساتها.
2. الحقيقة الثانية أن ديغول اقتنع بأن الجزائريين قد التفوا حول الثورة الجزائرية و حول قيادتها العسكرية و المدنية (جبهة التحرير و جيش التحرير) و اقتناعهم أيضا بضرورة الوصول إلى الاستقلال التام الغير المنقوص.
3. الحقيقة الثالثة أنه كان على دراية تامة بأن الثورة الجزائرية أصبحت محل تجاذب بين المعسكرين الشرقي و الغربي (الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة الأمريكية).
انطلاقا من هذه الحقائق التي كان يؤمن بها خلال هذه الفترة و لم يصرح بها إلا بعد استقلال الجزائر من خلال مذكراته، فإنه حاول أن يجد الحل المريح للقضية الجزائرية، فالحل الذي كان يراه مناسبا لحل القضية الجزائرية حسب تصوره، و قد عبر عنه منذ عام 1955 حيث أكد على "ضرورة استبدال السيادة في شمال إفريقيا بالشراكة"*(3) و هذا يعني منح الجزائر استقلال داخلي على شاكلة الاستقلال الذي منح لتونس و المغرب عام 1956.
غير أن الملفت للانتباه أن ديغول بالرغم من اقتناعه بتصوره الخاص في معالجة القضية الجزائرية إلى أنه لم يحاول منذ البداية تجسيد هذا التصور في الميدان و ما يفسر هذا هو أنه كان محاصرا من قبل غلاة العسكريين و المعمرين في آن واحد، و بالتالي سيرضخ في انتهاج سياسة كان هدفها القضاء على الثورة(4) و ارتكزت على ثلاثة محاور أساسية تمثلت في:
1- سياسة المرونة و التهدئة: من خلال إعلانه في 23 أكتوبر 1958 عن ما أسماه بسلم الشجعان: La paix des braves، حيث دعا الثوار إلى وضع السلاح دون شرط، و بهذه العملية أراد أن يحدث الشقاق بين الثوار و زرع الشك بينهم و عزل الداخل عن الخارج و إرغام الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA) على التفاوض مع فرنسا من موقع ضعيف (أي إيصالها إلى قبول الاستقلال الداخلي).
2- مشروع قسنطينة و قد جاء بناء على تصريح من ديغول في 03 أكتوبر 1958 – حاول ديغول من خلال هذا المشروع أن يبعد الجزائريين عن الثورة على أساس اعتقاده أن هذه المشاريع و الإصلاحات ستمكنه من دفع جيش و جبهة التحرير إلى الاستسلام(5).
3- مشروع شال العسكري: الذي بدأ تنفيذه منذ فيفري 1959 للقضاء على الثورة و من هذه العمليات العسكرية نذكر:
- عملية المجهر Jumelle ببلاد القبائل.
- عملية الشرارة ببلاد الحضنة نواحي ولاية المسيلة حاليا و تطهير الثوار منها.
- عملية الأحجار الكريمة بجبال في الشمال القسنطيني.
- عملية عسكرية بجبال الونشريس و الظهرة.
هذا بالإضافة إلى التفنن في وسائل التعذيب و التوسع في إقامة المحتشدات (6) و السجون زيادة على ذلك فإننا نسجل خلال عام 1960 أن فرنسا قامت بتجربتين نوويتين الأولى في الصحراء الجزائرية ي 13 فيفري 1960 بمنطقة رقان و الثانية في 30 أفريل 1960.(7)
في هذا الإطار يذكر أحد الباحثين الفرنسيين "برينو باريلو" أن السلطات الاستعمارية الفرنسية قد استخدمت 42 ألف جزائري "كفئران تجارب" و هم من السكان المحليين و أسرى جيش التحرير و هذا يمثل أقصى صور الإبادة الهمجية و لعل ما يفسر قيام فرنسا بهاتين التجربتين هو إصرار ديغول على أن تصبح فرنسا القوة النووية الرابعة في العالم خلال هده الفترة.
و عندما فشلت هذه المشاريع في القضاء على الثورة فإننا نجده ببحث عن الحلول لكسب الرأي العالمي المساند و المؤيد للثورة الجزائرية. فسارع إلى الإعلان عن منح حق الجزائريين في تقرير مصيرهم (8) و لكن حق تقرير المصير الذي تكلم عنه ديغول ضمنه شروط هي:
1- أن فرنسا هي التي تمنحه وفقا لمصالحها، و لن يفرض عليها من أحد على اعتبارها منهزمة (يقصد أمام الثورة) و لن تخضع لأي ضغط خارجي أو مساع حميدة أو غير ذلك و حتى من الأمم المتحدة.
2- إن على الفرنسيين الراغبين في البقاء بالجزائري أن يقرروا ذلك و أن الجيش الفرنسي هو الذي يتكفل بأمنهم و سلامتهم.
3- إنشاء معاهدات بين الطرفين تمنحها امتيازات متبادلة في مختلف الميادين الاستراتيجية.
4- بقاء الجزائر فرنسية من عدة أوجه بالحفاظ على الطابع الذي اكتسبه.
و من خلال هذه الأفكار التي وضعها ديغول و المحددة لمفهومه بحق تقرير مصير الجزائر، أعلن في 5 سبتمبر 1960 في ندوة عن أفكاره المتعلقة بمشروعه الذي حمل له شعار "الجزائر جزائرية".
و لتنفيذ هذا المشروع أعلن في 16 نوفمبر 1960 أمام مجلس الوزراء الفرنسي عن عزمه علي إجراء استفتاء تقرير المصير في الجزائر.
من دون شك أن هاته الأفكار و التصريحات التي أدلى بها ديغول بخصوص القضية الجزائرية لم تعجب الكثير من الفرنسيين خاصة من طرف غلاة "العسكريين و المعمرين" الرافضين لاستفتاء حول تقرير المصير و لفكرة "الجزائر جزائرية" حيث نجد أنه في الجزائر قد تجمع حوالي مائة ألف شخص من أنصار "جبهة الجزائر فرنسية" FAF و تجاوبت معها أيضا "الجبهة الوطنية الجزائرية الفرنسية" FNAF بباريس و أعربوا عن عدم موافقتهم و رفضهم لسياسة ديغول و من بن أبرز هؤلاء الجنرال جوان المولود بالجزائر و الجنرال سالان الذي لجأ إلى إسبانيا.
- موقف جبهة التحرير الوطني من مشروع ديغول حول تقرير المصير و حول "الجزائر جزائرية"
هذا الموقف يمكن رصده من خلال المظاهرات السلمية التي شهدتها الجزائر شهر ديسمبر1960والمعروفة عند عامة الشعب الجزائري بمظاهرات 11ديسمبر1960 حيث خرج الجزائريون لتأكيد حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره و مناهضا لسياسة ديغول الرامية إلى إبقاء الجزائر كجزء فرنسا في إطار فكرة "الجزائر جزائرية" من جهة و من جهة موقف المعمرين الفرنسي و العسكريين من جهة أخرى الذين كانوا يحلمون بفكرة بقاء الجزائر فرنسية.(9)
لقد عملت جبهة التحرير الوطني على التصدي لسياسة ديغول و المعمرين معا حيث ارتكز ديغول على الفرنسيين الجزائريين بمساندة سياسته و الخروج في مظاهرات و استقباله في عين تموشنت يوم 09 ديسمبر 1960، و عمل المعمرون على مناهضة ديغول و ذلك بالخروج في مظاهرات لرد على سياسة ديغول الداعية إلى اعتبار الجزائر للجميع في الإطار الفرنسي – و دخلت جبهة التحرير الوطني هي الأخرى في هذه المظاهرات بقوة شعبية كبيرة رفعت فيها شعار الجزائر مسلمة مستقلة ضد شعار ديغول "الجزائر جزائرية" و ضد شعار المعمرين "الجزائر فرنسية".
الهوامش
1. ولد شارل ماري جوزيف ديغول في 22 نوفمبر 1890، بمدينة ليل شمال فرنسا التحق عام 1908 بكلية سان سير العسكرية، شارك في الحرب العالمية الأولى، وصل إلى الحكم عن طريق قيام كبار الضباط في الجيش الفرنسي بعد حركة تمرد في 13 ماي 1958، وضع أسس الجمهورية الخامسة، توفي في شهر 1970 للمزيد من التفصيل أنظر: يحي بوعزيز، ثورات الجزائر في القرنين 19 و 20 ط 1، دار البعث الجزائر 1980.
2. الإطلاع أكثر على تصور ديغول لإيجاد مخرج للقضية الجزائرية راجع مذكرته: ديغول مذكرات "الأمل" – التجديد (1958 – 1963) (تر) سموحي فوق العادة – مراجعة أحمد عويدات، الطبعة الأولى، منشورات عويدات بيروت 1971.
3. سنلاحظ أن هذه الفكرة ستشكل جوهر الشعار الذي رفعه عام 1960 الداعي إلى "الجزائر جزائرية".
4. أكثر توضيح عن هذا الموضوع أنظر: حسن بومالي، استراتيجية الجنرال ديغول في خنق الثورة الجزائرية، مجلة أول نوفمبر، العدد 30، الجزائر 1988. ص 6
5. Charles robert agéron، histoire de l’Algérie contemporaine 1830 – 1976، 6ième édition. Presses universitaires de France 1977. p 105
6. Mohamed Teguia، l’Algérie en guerre، office des publications universitaires – Alger p 367.
7. عن التجارب النووية في الصحراء الجزائرية راجع: شيخي عبد المجيد، القنبلة الذرية الفرنسية الأولى جريمة ضد الإنسانية و الشعب الجزائري، العدد الأول، الجزائر 1996.
كان غرض فرنسا من تنفيذ هذه التجارب النووية هو تأكيدها على أنها أصبحت قوة نووية ثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفيتي، و في هذا الإطار يقول أحد الباحثين الفرنسيين في هذا المجال "برينو بار يلو" أن فرنسا أجرت حوالي 210 تجربة ما بين 1960 – 1996.
8. لأخذ فكرة عن تصور ديغول حول تقرير مصير الشعب الجزائري راجع: ديغول، مذكرات "الأمل"، المصدر السابق.
9. أنظر محمد قطاري: مظاهرات ديسمبر 1960 أسبابها، وقائعها و نتائجها، المصادر. العدد 3 الجزائر 2000 ص 30 – 32.
--------------------------------------------------------------------------------
* - محاضرة ألقيت بقسم التاريخ بمناسبة الذكرى السادسة و الأربعين لمظاهرات ديسمبر 1960 بقسم التاريخ، جامعة تلمسان، ديسمبر2007.
* - سنلاحظ أن هذه الفكرة ستشكل جوهر الشعار الذي رفعه عام 1960 الداعي إلى "الجزائر جزائرية".