الخامس عشر: رخص السفر:
من قواعد الشريعة: "المشقة تجلب التيسير" ولما كان السفر قطعة من العذاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه، ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله"، رتب الشارع ما رتب من الرخص، حتى ولو فُرِض خلوُّه من المشاق؛ لأن الأحكام تعلَّق بعللها العامة، وإن تخلفت في بعض الصور والأفراد، فالحكم الفرد يُلحق بالأعم، ولا يفرد بالحكم، وهذا معنى قول الفقهاء رحمهم الله: "النادر لا حكم له" يعني لا ينقص القاعدة ولا يخالف حكمه حكمها، فهذا أصل يجب اعتباره، فأعظم رخص الصفر وأكثرها حاجة ما يلي:
1ـ القصر؛ ولذلك ليس للقصر من الأسباب غير السفر؛ ولهذا أضيف السفر إلى القصر لاختصاصه به، فتقصر الرباعية من أربع إلى ركعتين.
2ـ الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما، والجمع أوسع من القصر، ولهذا له أسباب أُخر غير السفر: كالمرض، والاستحاضة، والمطر، والوحل، والريح الشديدة الباردة، ونحوها من الحاجات، والقصر أفضل من الإتمام، بل يكره الإتمام لغير سبب، وأما الجمع في السفر فالأفضل تركه إلا عند الحاجة إليه، أو إدراك الجماعة، فإذا اقترن به مصلحة جاز.
3ـ الفطر في رمضان من رخص السفر.
4ـ الصلاة النافلة على الراحلة أو وسيلة النقل إلى جهة سيره.
5ـ وكذلك المتنفل الماشي.
6ـ المسح على الخفين، والعمامة، والخمار، ونحوها، ثلاثة أيام بلياليها؛ لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم". وأما التيمم فليس سببه السفر، وإن كان الغالب أن الحاجة إليه في السفر أكثر منه في الحضر، وكذلك أكل الميتة للمضطر عام في السفر والحضر، ولكن في الغالب وجود الضرورة في السفر.
7ـ ترك الرواتب في السفر، ولا يكره له ذلك، مع أنه يكره تركها في الحضر، أما راتبة الفجر وصلاة الوتر، والصلوات المطلقة فتصلى حضرًا وسفرًا.
8 ـ من رخص السفر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا". فالأعمال التي يعلها في حضره: من الأعمال القاصرة على نفسه، والمتعدية يجري له أجرها إذا سافر، وكذلك إذا مرض، فيا لها من نعمة ما أجلها وأعظمها.
وأما صلاة الخسوف فليس سببه السفر، ولكنه فيه أكثر.
السادس عشر: الجمع وأنواعه ودرجاته:
1ـ الجمع بعرفة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السُّنّة"، "وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته الصلاة مع الإمام جمع بينهما". وعن جابر رضي الله عنه في حديثه في حجة الوداع، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا". ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين حديث أنس رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة". وفي لفظ لمسلم: "خرجنا من المدينة إلى الحج..
2ـ الجمع بمزدلفة؛ لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أفاض من عرفة: "أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا. ولحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، ولم يصل بينهما شيئًا"؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بِجَمْع، ليس بينهما سجدة، وصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين".
3ـ الجمع في الأسفار الأخرى أثناء السير في وقت الأولى أو الثانية أو بينهما؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدَّ به السير وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أورد فيه ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر وهو مقيد بما إذا جد السير، وحديث ابن عباس، وهو مقيد بما إذا كان سائرًا، وحديث أنس وهو مطلق، واستعمل المصنف الترجمة مطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق؛ لأن القيد فرد من أفراده، وكأنه رأى جواز الجمع بالسفر: سواء كان سائرًا، أم لا، وسواء كان سيره مجدًا أم لا" وعلى ذلك كثير من الصحابة رضي الله عنهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وفي رواية للحاكم في الأربعين: "صلى الظهر والعصر، ثم ركب"؛ ولأبي نعيم في مستخرج مسلم: "كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل.
وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: "هذا يدل على أن الجمع يراعى فيه الرحيل قبل الوقت وبعد الوقت، فإن كان الرحيل قبل الوقت جمع جمع تأخير، وإن كان بعد الوقت جمع جمع تقديم، هذا هو الأفضل، وكيفما جمع جاز؛ لأن الوقتين صارا وقتًا واحدًا، فلو صلى أول الوقت، أو آخره، فلا بأس، ففي حالة السفر والمرض يكون وقت الظهر والعصر وقتًا واحدًا، والمغرب والعشاء وقتًا واحدًا، ولكن الأفضل ما تقدم".
ومما يدل على مشروعية جمع التقديم حديث معاذ رضي الله عنه قال: "خرجنا مع سول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا. وقد فصل هذا الإجمال رواية الترمذي وأبي داود عن معاذ رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر، وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب.