hchelahi
عدد المساهمات : 1368 نقاط : 3862 التميز : 52 تاريخ التسجيل : 26/07/2009 العمر : 64 الموقع : بسكرة
| موضوع: أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:30 pm | |
| ]أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة
الدكتور سيدرضا نجفي
استاذ مساعد في قسم اللغة العربية بجامعة اصفهان
المقدمة
العلوم والفنون في القرن الثاني لم تكن قد تحددت بعد أو دخلت في دور التنسيق والتصنيف، والتقسيم، ووضع المصطلحات هنا وهناك عنوانا على كل قسم، وتمييزا له عن سائر الأقسام، وإنما كانت العلوم والفنون وقتئذ متداخلة يصب بعضها في بعض ويثري بعضها بعضا، فاللغة، والنحو، والبلاغة كلها كانت بمثابة روافد متعددة تصب في مجرى واحد هو أثراء اللغة والمحافظة على سلامتها، وابراز جمالها وسيبويه في كتابه لم يكن متناولاً لفن واحدٍ من هذه الفنون، بل كان متناولاً لها جميعا، ومنظما لها في عقد واحد، فلم يطف بخاطره أو بأذهان المعاصرين له أن يفصلوا بين هذا العلم أو ذاك،أو يضعوا مصطلحا لهذه الفنون أو تلك، ولذلك فان سيبويه في إدراكه لتداخل العلوم قد اهتدى الى ربط النحو بالمعاني، فنفث في النحو روحا مشعة لها جلالها وقيمتها حتى تطور هذا الربط إلى أقصى درجاته على يد عبدالقاهر الجرجاني، غيرأنه ـ وأسفاه ـ لم يكتب لهذه الروح العمر المديد، بل أزهقت في قضبة السكاكي حين فصل بعضها عن بعض فوضع المصطلحات لم يكن يعني العلماء في القرن الثاني الهجري، وانما الذي كان يعنيهم حقا هو نبش تلك المناجم العلمية والفنية واستخراج ما في جوفها من كنوز، وازاحة الأتربة العالقة بها حتى تتلألأُ أمام العيون ويتكشف ما فيها من بريق يجذب أنظار العالم، و يسترعي انتباهم، فاستخراج الكنوز هي المهمة الأولى التي تعنيهم وليس وضع الأسماء لمحتويات هذه الكنوز ثم بعد أن يبدأ كل شيء ويستقر في موضعه فإن الزمن في خدمة العلماء، والتطور العلمي كفيل بوضع الاسم المناسب لكل نوع من هذه الأنواع ولا يحق لمنصف أن يتنكر لجهود سيبويه التي قدمها لخدمة البلاغة العربية،بدعوى أنه لم يذكر لها مصطلحات، أو لأنه لم يضع لها قوانين، كالمصطلحات والقوانين التي عرفناها فيما بعد، وأنما يحق لنا أن نقول دون ادعاء أو مبالغة ان سيبويه كان حجر الأساس في بناء البلاغة العربية بما ذكره من موضوعات تدخل في علم المعاني كالحذف والزيادة، والذكر والإضمار، والتقديم والتأخير، والاستفهام والقصر، والفصل والوصل، والمجاز العقلي، والتعريف والتنكير ومقتضى الحال، القلب، كما تعرض لصور من خروج الكلام على مقتضى الظاهر، ولم يفته أن يتناول أسرار التراكيب وتأليف الكلمات، وصوغ العبارات، وابراز الفرق بين تعبير وآخر،أن اهتمامه لم يكن قاصرا على أواخر الكلمات، و بيان إعرابها و بنائها وإنما تجاوز ذلك إلى نظم الجملة والجمل.
نشأة علم النحو
ان النحو قبل سيبويه لم تكن له صورة العلم ذي الابواب والفصول والقواعد العامة وانما كان مسائل متفرقة لا تجمعها قاعدة ولا يضمها باب جامع بل كانت ممتزجة بغيرها من مسائل اللغة والادب لتفسير القران وفهم أشعار العرب فاستطاع كتاب سيبويه أن يجمع القواعد ويرتبها ويعقد أبوابا يجمع فيها أشقاءها من المسائل النحوية فاعتبر بذلك أول كتاب لتدوين النحو وصل الينا بهذه الصورة الكاملة.
قد أطنب كثير من العلماء في مدح سيبويه وتقريظ كتابه بكلمات نلمح فيها الاعجاب العظيم لعمله الرائع الكبير يقول المازني من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي مما أقدم عليه.(1)ابنُ جنّي يقول عنه: وقد حطب (جمع) بكتابه و هو ألف ورقة علما مبتكرا ووصفا متجاوزا لما يسمع ويرى. (2)واذا أردنا آن نستقصي آراء العلماء في ثنائهم على سيبويه واعجابهم بكتابه لضاق بنا المجال ويكفي أن نذكر أنهم أطلقوا اسم (الكتاب) علما اختصَّ به هذا المصنف دون بقية المصنفات الاخرى فاذا أطلقت كلمة الكتاب فهم أن المراد هو كتاب سيبويه دون غيره بل ان سيبويه نفسه من فرط اعجابه بالكتاب وقيمته أسماه قرآن النحو فالسيوطي يقول عن سيبويه: هو أعلم الناس بالنحو بعد الخليل وألف كتابه الذي سماه قرآن النحو وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل.(3)
لاشك أن النحو قد تطور بعد سيبويه فزادت عليه مسائل ودخل عليه تنظيم أحسن و تبويب أقوم وتقعيد أدق لكنه مع ذلك لم يخرج عن المنهج الذي رسمه سيبويه في استنباط الاحكام واستخراج المسائل وتوضيح العلل فالاجيالُ المتعاقبة لم تغير أسسه وقواعده وان غيرت صوره وقوالبه وجعلته فضفاضا يتسع لمختلف النواحي كما نرى في كتاب المقتضب للمبرد و شرح الكافية للرضي والاول من الكتب المتقدمة والثاني من الكتب المتأخرة ولذلك مضى الناس يأخذون عن الكتاب جيلاً بعد جيل وعصرا وراء عصر حتى ملأ أسماع الدنيا وشغل بقواعده التي ظلت نجوما قطبية تجذبهم وتهديهم في مؤلفاتهم ومباحثهم وقيل فرق مابينه و بين الكتب التي جاءت بعد عصره كفرق ما بين كتاب في التقوى و كتاب في القانون ذلك يجمع جزئيات يدرسها و يصنفها ويصدر أحكامها فيها والآخر يجمع كليات يصنفها و يشققها على الجزئيات.(4)
دور النحاة في نشأة علوم البلاغة وتطويرها:
النحاة هم أصحاب الفضل الاول في نشأة علم البلاغة على الرغم من أنها كانت في البداية نظرات متناثرة هنا وهناك ضمن مباحثهم النحوية ثم أتيح لمن أعابهم أن يصوغ من هذه النظريات العابرة قواعد بلاغية ذات صبغة علمية وقد رسخ أذهان الباحثين عن نشأة البلاغة وتطورهاأن أبا عبيدة هو أول من تناول البلاغة بالحديث.
واذا كان كتاب سيبويه ترجع أهميته العظمي عند الاقدمين لما حواه من قواعد نحوية نحتاج لتعلمها علي مر العصور حفاظا على اللغة العربية و سلامتها فانه في نظرنا يجري بجوار ذلك تحليلاً رائعا واحساسا دقيقا بفقه اللغة وأساليبها وأسرار تراكيبها فهو لا يسجل أصول النحو وقواعده فحسب وانما يلاحظ العبارات ويتأملها ويستنبط خواصها ومعانيها بما وهب من حس دقيق مرهف كما يعد الكتاب ايضا شاملاً لدراسة بعض الظواهر المنسوبة الى لهجات القبائل المختلفة وما يتعلق منها بالاصوات وبناء الكلمة وبناء الجملة وغير ذلك مما يجده الباحث في أصول اللغة واللهجات والأصوات وقد كان الباحثون تجاه سيبويه فريقين:
الفريق الاول كان من المهتمين بالدراسات البلاغية فنظر الى سيبويه من خلال كتب عبدالقاهر فحسب عندما يشير اليه في بعض المواضع من دلائل الاعجاز ويرون في هذه الاشارة أثرا من آثار سيبويه في البلاغة بصفة عامة وفي عبد القاهر بصفة خاصة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر والفحص في كتاب سيبويه واستنباط ما نثر فيه من لمحات بلاغية عابرة حينا ومركزة أحيانا فظل الكتاب لوقتنا هذا غابة مجهولة وسرا مغلقا لكثير منالدارسين الذين يتوقون لاجتلاء معانيه وكشف اللثام عما فيه من نظرات ثاقبة لها أثرها الكبير في بناء صرح البلاغة العربية، فكان لزام على من يتصدى لهذا العلم أن يعرض لجذوره الضارية في أعماق التاريخ لكي يصبح البحث مجديا و النتائج دقيقة.
والفريق الآخر كان من المهتمين بالدراسات النحوية فبحث كتاب سيبويه بحثا دقيقا لاستنباط ما يحلو له من قواعد في النحو و التصريف واللغة دون أن يمس آراءه البلاغية الا مسا خفيفا وبالتالي لم يضع بين أيدينا آراء سيبويه البلاغية جملة ومن أجل هذا كان بحث سيبويه حتى الان كرجل بلاغي يعد بحثا قاصرا و غير شامل وظل سيبويه كما هو مفتقر الي دراسة جادة مستفيضة تنفض عن آرائه البلاغية ما علق بها من ركام العلوم الاخرى التي غلبت عليها و أخفتها عن العيون طيلة هذه القرون
عدل سابقا من قبل hchelahi في الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:45 pm عدل 1 مرات | |
|
hchelahi
عدد المساهمات : 1368 نقاط : 3862 التميز : 52 تاريخ التسجيل : 26/07/2009 العمر : 64 الموقع : بسكرة
| موضوع: رد: أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:33 pm | |
| البلاغة في كتاب سيبويه تعريف المسند اليه وتنكيره
ومن الألوان البلاغية المعروفة تعريف المسند اليه، هذا هو الأصل، لأنه المحكوم عليه والحكم على المجهول لا يفيد، وهذه الحالة من أحوال المسند إليه، وتعليلها مشهورة في كتب المتأخرين ونرى سيبويه لم يغفل هذا الموضع وبيان علته، و لكنه لم يقف عند ذلك، بل تعداه إلى نفسية المخاطب الذي يريد أن يفهم عن المتكلم، فإذا بقي الكلام مجهولاً عند المخاطب، أو مازال ملتبسا بغيره فهو ضرب من الألغاز والأحاجي، وسيبويه يوضح ذلك وضوحا شديدا، وفي فصاحة بيان يندر أن نجدها في ثنايا الكتاب ومتاهاته يقول في باب كان "واعلم أنه إذا وقع في هذا الباب نكرة ومعرفة فالذي تشغل به كان المعرفة، لأنه حد الكلام، لأنهما شىء¨ واحد، وليس بمنزلة قولك ضرب رجل زيدا، لأنهما شيئان مختلفان وهما في كان بمنزلتها في الإبتداء إذا قلت عبداللّه منطلق تبتدى بالأعراف ثم تذكر الخبر، وذلك قولك كانَ زيدٌ حليما، وكانَ حليما زيدٌ، لا عليك أقدمت أم أخرت، الا أنه على ما وصفت لك في قولك ضرب زيدا عبداللّه، فإذا قلت كانِ زيدٌ فقد ابتدأت بما هو معروف عنه، مثله عندك فإنما ينتظر أن تعرف صاحب الصفة، فهو مبدوء به في الفعل وإن كان مؤخرا في اللفظ، فان قلت كان حليما أو رجلٌ فقد بدأت بنكرة ولا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور... فالمعروف هو المبدوء به، ولا يبدا بنكرة بما يكون فيه اللبس " (5)فسيبوية يحدد لنا أن اسم كانَ ـ وهو المبتدأ ـ لابد أن يكون معرفة، وبالتالي لابد أن يتقدم حتى يبنى المتكلم عليه الخبر، لأنه لا يصح البناء على مجهول، واسم كان رتبته التقديم وان تأخر في وضعه من الجملة، والمخاطب تتشوف نفسه الى معرفة الوصف إذا تقدم اسم كان، أو إلي صاحب الوصف اذا تأخر فمدار الأمر أن المخاطب يريد أن يفهم وأن يعرف شيئا جديدا كان مجهولاً لديه وعلي المتكلم أن يراعي هذه الحاجة ويلبيها له، ولن يتحقق للكلام أن يكون مدخل من البلاغة، و مراعاة لمقتضى حال المخاطب إلا إذا ابتدأ بالمعرفة، و لو أنه بدا بنكرة لخرج من دائرة الحسن فضلاً عن أن يكون كلاما مستقيما. ولكن المسند إليه قد يأتي نكرة لأسباب أحصاها البلاغيون، فأحيانا ينكر للدلالة على الوحدة، وأن المراد شخص واحد لا شخصين كقوله تعالى:"وجاء رجل من أقصي المدينة يسعي" أي رجل، وليس أكثر، وأحيانا يأتي التنكير للدلالة علي الجنس كأن تقول جاءني رجل وأنت تريد أن تنفي أن الجايىء امراة، وقد يأتي التنكير للتعظيم،أو التحقير، ومثل له البلاغيون بالبيت المشهور لمروان بن أبي حفصة: له حاجب عن كل شىء يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب
فذكرت كلمة (حاجب) في البيت مرتين الأولى للتعظيم والثانية للتحقير، وغير ذلك من الأغراض التي يلم بها كل دارس للبلاغة، وقد رأينا عند سيبويه اهتماما بذكر أغراض التنكير، حيث أدلى فيها بدلوه، ففي الباب الذي عقده تحت عنوان (هذا باب تخير فيه عن النكرة بنكرة) يذكر فيه أغراض التنكير، وإنه يأتي للوحدة أو الجنس أو التعظيم فيقول "يقولُ الرجلُ أتاني رجلٌ يريدُ واحدا في العددِ لا اثنين، فتقول ما أتاك رجلٌ:أي امراةٌ أتتك، ويقول أتاني اليومَ رجلٌ أي في قوته ونفاذة فتقول ما أتاك رجلٌ: أي أتاك الضعفاء" (6)وواضح من هذا أن سيبويه قد طرق باب التنكير وبين بعض أعراضه، كما طرق باب التعريف، وغيره من الأبواب البلاغية.
الحذف
من يتصفح كتاب سيبويه يجده ينص في مواضع كثيرة على ضرورة الحذف لاسباب نراها تدخل في فن البلاغة مثل التخفيف والايجاز والسعة ويبين لنا أن العرب قد جرت عادتها على الحذف وحبذته من غير موضع ولغتها تشهد بذلك يذكر سيبويه أن الحذف لا يكون مطلقا حيث أردنا الحذف وانما يكون اذا كان المخاطبُ عالما به فيعتمد المتكلم على بديهة السامع في فهم المحذوف.
في موضع يذكر لنا أن الحذف قد يكون لسعة الكلام والاختصار وذلك قولك متى سير عليه فيقول مقدم الحاج وخفوق النجم فانما هو زمن مقدم الحاج وحين خفوق النجم ولكنه على سعة الكلام والاختصار(7)فسيبويه هنا يتحدث عن الحذف بصفة عامة ويبين السبب الذي ألجأ العرب اليه وأن الذي دفعهم الى ذلك أما طلب الخفة على اللسان واما اتساع الكلام والاختصار ولابد في هذا الحذف أن يكون المحذوف معلوما لدى السامع وأنه سيفطن اليه لدلالة الكلام عليه. ويتحدث عن حروف الجر وحذفها وسبب الحذف ومن ذلك اخترت الرجال عبداللّه ومثل ذلك قوله تعالى: واختار موسى قومه سبعين رجلاً. وسميته زيدا فهذه الافعال توصل بحروف الاضافة ـ يعني حروف الجر فتقول اخترت فلانا من الرجال وسيمته بفلان فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل (8)ويبين أن حذف الجار كثير في كلام العرب من ذلك قولهم أكلت بلدة كذا وكذا انما يريد أنه أكل من ذلك وهذا أكثر من أن تحصي.(9)
ويتحدث عن حذف المضاف اذا لم يلتبس على المخاطب وكان الكلام مفهوما فهو في قول ابن داود: أَكلُ امريء تحسبينَ امرءا ونارٌ تُوقَّدُ بالليلِ نَارا
يقول فاستغنيت عن تثنيته بذكرك اياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب(10)ولكن عبدالقاهر يعترض على مافهم عن سيبويه من أن الحذف مجاز اذا لا يصح أن توصف الكملة بالمجاز الا اذا نقلت عن معناها الى معنى آخر والحذف لا يجري فيه نقل الكلمة من معناها الأصلي الى معنى جديد بل ان ما يحدث فيها هو تغيير الحكم الاعرابي فقط فقوله تعالى واسأل القرية أصلها واسألْ أهلَ القرية فقد كانت القرية مجرورة ثم صارت منصوبةً والقرية لم تستعمل في غير ما وضعت له.(11)
وسيبويه يخبرنا بأن الفعل انما يحذف ايجازا واستغناء بما يري من دلالة الحال عليه حين تقول العرب: حدث فلان بكذا وكذا فتقول صادقا واللّهِ أو انشدك شعرا فتقول صادقا واللّه أي قال صادقا:(12)
ويري أن من الفصاحة حذف خبر إنَّ واخواتها فقال: هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الاحرف الخمسة لاضمارك ما يكون مستقرا لها وموضعا لو أظهرته وليس هذا المضمر بنفس المظهر وذلك ان مالاً وان ولدا أي ان لهم مالاً وقال الاعشي:(13) ان مِحِلَّا وان مُرْتَحِلاً وان في السفر ما مضىمَهْلَا
وهو يتحدث عن حذف الصفة وما فيها من بلاغة لا تتوافر مع وجودها وأن هذه البلاغة يستشعرها المخاطب بل القائل نفسه اذا تأملها يقول الزجاج: وحكي سيبويه سير عيه ليل وهم يريدون ليل طويل وكأن هذا انما حذفت فيه الصفة بما دل من الحاح على موضعها وذلك أنك تحسن في كلام القائل لذلك التطويح والتطريح والتعظيم ما يقوم في مقامه قوله طويل ونحو ذلك وأنت تحسن هذا من نفسك اذا تاملته كأن تقول مقام المدح كان واللّه رجلا فتطيل الصوت أي رجلاً فاضلاً شجاعا أو كريما.(14)
وهكذا نجد سيبويه يعرض للحذف بجميع الوانه من حذف حرف الجر والاسم سواء كان مضافا او مضافا اليه والمبتدأ والخبر والصفة والموصوف وحذف الفعل سواء كان للاغراء أو التحذير أو التعجب الى غير ذلك مراعيا في هذا الحذف التخفيف على اللسان ووجود القرينة التى نلمحها في علم المخاطب وملاحظته في هذا الحذف شيئا من الفصاحة يخلو الكلام منها اذا كان تاما لا حذف فيه وكلما ذكره سيبويه من الوان الحذف اعتبرها البلاغيون من بعده مشتملة على الفصاحة والبلاغة.
| |
|
hchelahi
عدد المساهمات : 1368 نقاط : 3862 التميز : 52 تاريخ التسجيل : 26/07/2009 العمر : 64 الموقع : بسكرة
| موضوع: رد: أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:35 pm | |
| الذكر
كما وجد سيبويه للحذف أسبابا بلاغية وجد أَيضا للذكر دواعي يحسن بها الكلام ومن ثم فلا يجوز الحذف بحال من الاحوال: فالفعل عنده لا يحذف اذا كان لا يخطر على بال المخاطب بان يكون غافلاً عنه او ان الحال لا تلفت اليه او اذا كان داعي النظم يقضيه ويحتميه كأن يأتي بعد حرف يستدعي ذكره بعده مثل ان وقد فيقول: اما الفعل الذي لا يحسن أخباره فانه ان تنتهي الى رجل لم يكن في ذكر ضرب لم يخطر بباله فتقول زيدا فلابد له من أن يقول اضرب زيدا وتقول له قد ضربت زيدا او يكون موضعا يقبح أن يعري من الفعل نحو ان وقد وماأشبه ذلك(15)
الزيادة
ويتحدث سيبويه أيضا عن الزيادة فيذكر زيادة الحروف وأثرها في الكلام و يتعرض لشتي الحروف التي تأتي زائدة في الكلام مثل الكاف والباء ومن وما ولا وان وغير ذلك فيقول عن الكاف في قولهم: النجاءك أنها جاءت توكيدا وتخصيصا ولم تجى للاضافة لان الاسم المقرون بأل لا يضاف.(16)وانما أحيانا تأتي زائدة بمعني مثل للتشبيه والمبالغة فيقول: وان ناسا من العرب اذا اضطروا في الشعر جعلوا الكاف بمنزلة مثل يقول حميد الارقط: فصيروا مثل كعصف المأكول وقول خطام المجاشعي و صاليات ككما يؤثفين.
ويعقب الاعلم على قول سيبويه فيقول: و جاز الجمع بين مثل والكاف جوازا حسنا لاختلاف لفظهما مع ما قصده من المبالغة والتشبيه ولو كرر المثل لم يحسن(17)و يتحدث أيضا ليس ما معنى سوى ما كان قبل أن تجي الا التوكيد و من ثم جاز ذلك اذا لم ترد به أكثر من هذا.(18)
التقديم والتأخير
سيبويه في صدر كتابه يحدثنا عن التقديم والتاخير وربما كان أول من طرق سرهذا اللون البلاغي من العلماء فنحن نلحظ أن العلماء قبله ـ كيونس بن حبيب ـ كانوا يعرفون التقديم والتاخير ولكهنم لم يقفوا على اسراره البلاغية أما سيبويه حين يعالج التقديم والتأخير في الكلام فانه يلفت النظر الي سر بلاغي هام تلقفه علماء النحو و البلاغة فناقشوه مؤيدين ومعارضين فأثرى بهذه اللفتة الطيبة كثيرا من المباحث البلاغية فيقول في باب الفاعل الذي يتعداه فعله الى مفعول: فان قدمت المفعول وأخرت الفاعل كقولك ضرب زيدا عبداللّه وكان حد اللفظ فيه أن يكون الفاعل مقدما وهو عربي جيد كثيركأنهم انما يقدمون الذي بيانه أهم لهم و هو ببيانه أعني وان كانا جميعا يهمانهم و يعنيانهم.(19) فمن شان المفعول أن يتاخر عن الفاعل ولكنه اذا تقدم فذلك لعلة قصد اليها المتكلم وهي العناية والاهتمام بشانه واذا كان تقديم المفعول عن الفاعل للعناية و الاهتمام فان تقديم المفعول على الفعل ياتي لهذ الغرض البلاغي نفسه يقول: وان قدمت الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك عربيا جيدا و ذلك قولك زيدا ضربت والعناية و الاهتمام ههنا في التقديم والتاخير سواء منك في ضرب زيدٌ عمرا وضرب عمرا زيدٌ(20). ونراه يلاحظ التقديم في ابواب كثيرة من ابواب النحو يلاحظ في باب ظن وكسى و ان وكان والظروف وغير ذلك ويضع اصابعه على علة بلاغية لها قيمتها في فن البلاغة عند المتاخرين ففي باب ظن يقول: فان الغيت قلت عبداللّه اظن ذاهب و هذا اخال اخوك وكلما أردت الالغاء فالتاخير أقوى وكلّ عربي جيد... وانما كان التأخير أقوى لانه انما يجى بالشك بعد ما يمضي كلامه على اليقين أو بعد ما يبتدى وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك.(21)فالتقديم هنا ليس للعناية والاهتمام كالموضع السابق في تقديم المفعول على الفاعل أو الفعل وانما التقديم هنا لغرض بلاغي آخر و لعامل نفسي طرأ على المتكلم أثناء كلامه وحول يقينه الى شك فالزمه تغيير وضع الالفاظ عما كان ينبغي ان تكون عليه.
وفي حديثه عن الاستفهام نراه يستحسن أنْ يلي المسؤل عنه الهمزة فيتقدم على الفعل يستحسن ذلك فقط ولا يجعله فاسدا اذا لم يلِ الهمزة بل يجيزله ان يتقدم أو يتاخر وان كان التقديم عنده أفضل ففي باب ـ ام اذا كان الكلام بها بمنزلة أيهما أو أيهم ـ و ذلك قولك أزيد عندك أو عمرو و أَزيدا لقيت ام بشرا فانت الان مدع ان عنده احدهما... واعلم انك اذا اردت هذا المعني فتقديم الاسم احسن لانك لا تساله عن اللقي وانما تساله عن أحد الاسمين لا تدري أيهما هو فبدأت بالاسم لانك تقصد قصداأنْ يبين لك اي الاسمين عنده وجعلت الاسم الاخر عديلاً للاول وصار الذي لا تسال عنه بينهما و لو قلت الغيب زيدا أم عمرا كان جائزا حسنا وانما كان تقديم الاسم ههنا أحسن ولن يجز للآخر لن يكون مؤخرا لانه قصد أحد الاسمين فبدا باحدهما.(22)
ولكن ابن جني لا ياخذ براي سيبويه في امر التقديم والتاخير وسره البلاغي من حيث العناية والاهتمام او التنبيه ويثور على ما ارتاه سيبويه فيقول: وانما هي شىء راه سيبويه واعتقده قولاً ولسنا نقلد سيبويه ولا غيره في هذه العلة ولا في غيرها فان الجواب عن هذا حاضر عتيد والخطب فيه ايسر.(23)فالتقديم عند ابن جني واستاذه ابي علي الفارسي ليس لعلة بلاغية من الاهتمام بشان المقدم او العناية به او التنبيه عليه ليس شىء من ذلك اطلاقا: وذلكان المفعول قد شاع عن العرب واطرد من مذاهبهم كثرة تقدمه علي الفاعل حتي دعا ذلك ابا علي الي ان تقديم المفعول قسم قائم برأسه كما ان تقديم الفاعل قسم ايضا قائم براسه وان كان تقديم الفاعل اكثر وقد جاء به الاستعمال مجيئا واسعا نحو قول اللّه تعالى: انما يخشي اللّه من عباده العلماء؛ والهاكم التكاثر.
فهذه القضية الكبري التي يتناولها علماء النحو والبلاغة واللغة ومازلنا نقرا عنها حتى يومنا هذا في كتب النحو والنقد والبلاغة، هي في اساسها من صنع سيبويه فهو اول من اشار اليها وطرق بابها ولاشك ان هذا فضل ينسب اليه بالفخار ويجعله رائدا مجيدا من الرواد الذين اسهموا بنصيب وافر في تأسيس علم البلاغة. | |
|
hchelahi
عدد المساهمات : 1368 نقاط : 3862 التميز : 52 تاريخ التسجيل : 26/07/2009 العمر : 64 الموقع : بسكرة
| موضوع: رد: أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:36 pm | |
| خروج على غير مقتضى الظاهر
ونقصد من التعبير بإخراج الكلام على غير مقتضي الظاهر، أن يكون ظاهر الحال يقتضيه على صورة خاصة فيؤتى به على غير هذه الصورة لأمر يعتبره المتكلم(24) كالتعبير بلفظ الماضي عن المستقبل وعكسه، والقلب، ووضع الظاهر موضع الضمير وعكسه، واستعمال الطلب فى موضع الخبر، والخبر في موضع الطلب، وغير ذلك مما يتجاوز أصل معناه ويمتد إلى معني جديد.
و سيبيويه يتحدث عن عبارات لغوية تدخل في الدراسات البلاغية، لخروجها على غير مقتضى الظاهر مثل القلب، ووضع المفرد مضوع المثني، أو الجمع، ووضع الجمع،واستعمال اللفظ الموضع لغير العاقل في موضع العاقل، وغير ذلك مما يتحتم الإشارة إليه.
وقد تحدث علماء البلاغة عن النداء وخروجه عن أصله؛ وهذا سيبويه قد سبقهم للحديث عنه فيقول (هذا باب مايكون النداء فيه مضافا إلى المنادى بحرف الإضافة) وذلك في الاستعانة والتعجب كقول مهلهل: يا لبكر انشروا لي كليبا يا لبكر أين الفرار
فاستغاث بهم لأن ينشروا له كليبا، وهذا منه وعيد وتهديد، وأما قوله يا لبكر أين الفرار، فانما استغاث بهم أي: لم تفرون استطالة عليهم ووعيدا(25)فالنداء في البيت لم يستعمل في معناه وإنما خرج للاستغاثه، وما تتضمنه من وعيد وتهديد ولا شك أن حمل النداء هنا على الاستغاثة عن سيبويه ظاهر الفساد، لأن الشاعر لا يستغيث بمن يهدده، و قد حمله النحاة علي الاستهزاء فقال:"إنما يدعوهم ليهزأ بهم ألا تراه قال انشروا لي كليبا"(26)وسواء كان النداء هنا للاستهزاء أو للاستغاثة فانه قد خرج عن اصل وضعه وقد نبه سيبويه على هذا.
وسيبويه يذكر حروف النداء الخمسة: يا، وأيا، وهيا، وأي، والألف، والأخيرة لنداء القريب، والأربعة الأول لنداء البعيد، أو الإنسان المعرض عنهم أو النائم المستثقل أو الشيء المتراخي فيقول "وقد يجوز لك أن تستعمل هذه الخمسة إذا كان صاحبك قريبا مقبلاً عليك توكيدا(27)فالأدوات الموضوعة لنداء البعيد يجيز سيبويه استعمالها لنداء القريب لغرض بلاغي هو التوكيد.
القلب
فالقلب نوع من الإخارج على غير مقتضى الظاهر، وهو عند السكاكي يورث الكلام ملاحة ويصل به إلي كمال البلاغة(28)و السكاكي الذي استقرت علوم البلاغة على يديه، وأخذ كل لون من ألوانها مكانه المعين في أقسام البلاغة من معان و بيان و بديع يعتبر القلب داخلاً في علم المعاني، غير أن القلب الذي انتهي إليه السكاكي ووصفه بانّهُ يورث الكلام ملاحة، ويرتقي به مدارج البلاغة، لم يكن ينظر إليه المتقدمون بعين الاعتبار حتى انهم اذا قرأوا مثالاًله القران أولوه عن ظاهره، لأنهم لا يجدون فيه نوعا من الحسن أو الخلابة. فسيبويه يرد القلب إذا ورد في الكلام، ويصفه بالرداءة، والبعد عن الجودة، وتأويل هذا النوع هو ما يكون به صحة الكلام وحسنه يقول: "وأما قوله ادخل فوه الحجرَ، فهذا جرى على سعة الكلام، و الجيد أدخلَ فاهُ الحجرَ، كما قال أدخلتُ فى رأسى القلنسوةَ، و الجيد أدخلتُ فى القلنسوةِ رأسى... قال الشاعر:(29) ترى الثور فيها مدخل الظّل رأسه وسائره بادٍ الى الشمسِ أجمع فقد كان الوجه ان يقول مدخل رأسه الظل،لأن الرأس هوالداخل فى الظل
و الظل هو موضع الدخول، فهذا النوع من التعبير قد جرى على الاتساع و القلب عند سيبويه، غير أنه قبيح و لا يتصف بالجودة، فاذا عرضنا هذا اللون من التعبير على أهل البصر بالكلام و النقد، فاننا نراهم مختلفين فى قيمته الفنية، و أثره البلاغى. فالقاضى الجرجانى يخبرنا أن القلب كثير فى شعر العرب و لايعقب بشىء بعد ذلك.(30) و معنى هذا أنه يحبذه و لايرده، فالقول بأنه كثير فى شعر العرب دليل على سلامته و صحته و حسنه، لأن الشعراء يتوخون فى شعرهم الحسن و الاجادة. ولو كان يحمله على الضرورة الشعرية لعبر عن ذلك، ولكنه اقتصر على الأخبار بأنه كثير فى شعر العرب. و الآمدى له رأى مختلف تماما عن رأى الجرجانى فهو يرفض القلب نهائيا، و لا يأخذ به فى صورة من صوره، بل يؤوله اذا وجده فى القرآن، و يخطئه اذا وجده فى الشعر «لأن القلب انما جاء فى كلام العرب على السهو، و التأخر لايرخص له بالقلب، لانه يحتذى على أمثلهم، و يقتدى بهم، و ليس ينبغى له أن يتبعهم فيما سهوا فيه. فانه قيل ان القلب قد جاء فى القرآن، و لايجوز أن يقال ان ذلك على سبيل السهو و الضرورة، لأن كلام اللّهٍ تعالى عن ذلك و ما يضربونه من أمثلة يتبين فيها القلب فى القرآن يؤولها الآمدى جميعا و يعتبرها صحيحة مستقيمة لا قلب فيها فمثلاً قوله تعالى «ما ان مفاتحة لتنوء بالعصبة أولى القوة» (القصص / 76) يقولون ان فيها قلبا، لأن المعنى و انما العصبة تنوء بالمفاتيح، أو تنهض بثقلها، فينفى الآمدى وجود القلب فى الآية فيقول: انما أراد، اللّه تعالى ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أى تميلها من ثقلها، و هكذا يجرى الآمدى على التأويل فى كل الآيات القرآنية التى يستدلون بها على صحة القلب، غير أن الآمدى يضطر الى قول القلب اذا كان المعنى المقلوب و غير المقلوب متقاربين مثل قول الحطيئة: فلما خشيتُ الهُون و العير ممسك على رغمه ما امسك الحبل حافرهُ
قالوا و كان الوجه أن يقول: ما أمسك الحافر حبله و كلاهما متقاربان، لأن الحبل اذا امسك الحافر أيضا شغل الحبل ثم يقول: «و هذا ــ أى التأويل ــ كله سائغ حسن، ولكن القلب القبيح لا يجوز فى الشعر و لا فى القرآن. و هو ما جاء فى كلامهم على سبيل الغلط. و أخيرا يبين الآمدى سبب رفضه للقلب و اعتباره من ألوان البلاغة، بأنه لايجد فيه فائدة و انما يلجأ اليه الشعراء للضرورة ليس الا، و يتعجب من رأى المبرد فى القلب فيقول: «و قال المبرد: القلب جائز للاختصار اذا لم يدخل الكلام لبس: كأنه يجيز ذلك للعرب الأوائل دون المتأخرين، و ما علمت أحد قال للاختصار غيره، فلو قال لاصلاح الوزن، أو للضرورة، كما قال غيره كانت ذلك أشبه»(31) فالقلب اذن ليس من أنواع البلاغة عند الآمدى و هو بذلك يتفق فى نظرته مع سيبويه فى رده و وصفه بالرداءة، و قد كان يحق للبلاغيين أن يهملوه فى كتبهم و لهم فى ذلك مندوحة بما قاله سيبويه، و الآمدى، و سوقهما للحجة بعد الحجة، و خلو القلب من الفائدة التى يلجأ اليها البلاغى لحسن البيان، أو قوة التأثير، و ما كان أغنانا عن الحديث عن القلب عند سيبويه باعتبار أنه ليس جديرا بهذه من ألوان البلاغة غير أننا رأينا السكاكى ــ كما ذكرنا فى صدر هذا الكلام ــ يطنب فى مدحه و يجعله مما يزيد الكلام ملاحة، و يصل به الى كمال البلاغة. و كيف يكون ذلك و نحن لانرى فيه الا نوعا من التكلف السقيم، و التعقيد الشنيع الذى يؤدى الى اللبس من جهة، و يخفى الحسن من جهة أخرى، و هو ان ترك أثرا فى النفس فانما هو أثر الزهر فيه، و الانصراف عن سماعه، حتى ان بعض النقاد مثل قدامة و المرزبانى قد اعتبرا القلب من عيوب ائتلاف المعنى و الوزن معا فى شعر العرب»(32)
| |
|
hchelahi
عدد المساهمات : 1368 نقاط : 3862 التميز : 52 تاريخ التسجيل : 26/07/2009 العمر : 64 الموقع : بسكرة
| موضوع: رد: أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:38 pm | |
| القصر
أما حديث سيبويه عن القصر فليس مسهبا، و انما هو مبتور بترا، فقد تحدث عنه بما لايتجاوز الأسطر الثلاثة، و ربما لم يتجاوز السطر الواحد فى بعض المواضع، و رغم هذا الاختصار الشديد، فقد تحدث عنه بما يفيد، فهو يحدثنا عن قصر القلب، و قصر التعيين فى عبارة قصيرة موجزة من خلال حديثه عن النعت يقول «و منه مررت برجل راكع لاساجد، لاخراج الشك أو لتأكيد العلم فيهما»(33) فسيبويه فى هذا المقال يرى أن المخاطب متردد فى وصف الرجل بأحد الوصفين، الركوع أو السجود، فأراد مع المتكلم ازالة هذه الشك و هو ما سمى فى عرف البلاغيين بقصر التعيين. أو أنه أراد أن يؤكد للمخاطب أن الرجل متصف بالركوع و ليس بالسجود و هذا ما سمى بعد ذلك بقصر القلب هذا فيما يختص بالقصر بأحد حروف العطف و هو (لا). أما حديثه عن بقية حروف العطف وصلتها بالقصر، فلم يكن فيها واضحا كل الوضوح و انما غلب غليه الطابع النحوى الصرف، و ليس البيان البلاغى الذى نتعقبه فى هذا البحث.
القصر فى اصطلاح البلاغيين هو تخصيص شىء بشىء بطريق مخصوص و سيبويه أفاد هذا المعنى الاصطلاحى، فقد خصص ما قبل الا بما بعدها، و نفى ما سوى ذلك كما ذكر أداة القصر و هى النفى و الاستثناء غاية ما فى الأمر أن سيبويه لم يذكر كلمة القصر، ولكنه أفاد معنى القصر كاملاً، و هى تلك الفائدة التى تدخل فى باب القصر، لما يؤديه هذا الضمير من التخصيص، أو تأكيد التخصيص. أما التقديم فهو عنده يفيد الاهتمام بأمر المقدم، أو العناية بشأنه، أو التنبيه له، و لا يفيد التخصيص. و من ثم فان سيبويه لم يتناول من طريق القصر غير النفى و الاستثناء و العطف، ولكنه لم يذكر شيئا عن ضمير الفصل، أو انما، أو التقديم على أن واحدة منها تفيد القصر.
الفصل و الوصل:
و فى مواضع من الكتاب يتحدث سيبويه عن لون بلاغى آخر هو الفصل و الوصل كما نعرفه بصفة عامة، أو شبه كمال الاتصال كما نعرفه بصفة خاصة... و طبيعي أن سيبويه لم يذكر هذا المصطلح البلاغى فى عمومه أو خصوصه، فذلك شىء لم يعهد فى زمنه، و انما عرف فيما بعد على يد الفراء، ولكن الذى ذكره سيبويه هو ما يفيد شبه كمال الاتصال، و ان لم يصرح باسمه، (ففى باب بدل المعرفة من النكرة. و المعرفة من المعرفة، و قطع المعرفة من المعرفة مبتدأة) يقول أما بدل المعرفة من النكرة فقولك مررت برجل عبداللّه كأنه قيل له بمن مررت، أو يظن أنه يقال له ذلك فأبدل مكان من هو أعرف منه... و كذلك قول الشاعر: و لقد خبطن بيوت يشكر خبطة أخوالنا و هم بنو الأعمام
كأنه حين قال خبطن بيوت يشكر قيل له ما هم فقال اخوالنا و هم بنو الأعمام و قد يكون مررت بعبداللّه أخوك كأنه قيل له من هو أو من عبداللّه فقال أخوك... و تقول مررت برجل الأسد شدة كأنك قلت مررت برجل كامل، لأنك أردت أن ترفع شأنه، و ان شئت استأنفت كأنه قيل له ما هو»(34). (و فى باب ما لا يعمل فى المعروف الا مضمرا) يتحدث عن هذا الأسلوب أيضا فى تقدير السؤال و الاجابة عنه يقول: «و أما قولهم نعم الرجل عبداللّه، و عبداللّه نعم الرجل، كأنه قال نعم الرجل فقيل له من هو فقال عبداللّه، و اذا قال عبداللّه فكأنه قيل له ما شأنه فقال: نعم الرجل»(35) و نلاحظ هنا أن سيبويه ضمن الجملة الأولى سؤالا و اعتبر الجملة الثانية جوابا لهذا السؤال المقدر، بل نلاحظ أنه نص أيضا على أن الجملة الثانية استئناف، و الذى نعرفه من كتب المتأخرين أن هذا من مواضع الفصل، لأن الجملة الثانية فصلت عن الأولى كما يفصل الجواب عن السؤال، و يسمون هذا النوع شبه كمال اتصال، أو يسمونه استئنافا.
المجاز العقلى
و تناول سيبويه ذلك النوع الذى أطلق عليه المتأخرون المجاز العقلى أو المجاز الحكمى و رأى أنه توسع و اختصار فى الكلام، و على الرغم من تناوله هذا المجاز فى مواضع متفرقة من الكتاب، الا أنها اذا جمعت تكاد تعطينا فكرة قريبة الى المجاز العقلى الذى نعرفه اليوم، و سنحاول هنا أن نبينها كما فسرها و نقلها عن لسان العرب، و نستهل ذلك بما ذكره فى الكتاب بقوله: و تقول مطر قومك الليل و النهار على الظرف... و ان شئت رفعته ــ أى الليلُ و النهارُ ــ على سعة الكلام كما قيل صيد عليه و النهار، كما قال نهاره صائم، و ليله قائم، و كما قال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان فى السرى و نمت و ما ليل المطى بنائم
و كما قال الشاعر: أما النهار ففى قيد و سلسلة و الليل فى قعر منحوت من الساج
فانه جعل النهار فى قيد و الليل فى جوف منحوت(36) فاسناد المطر الى الليل و النهار و اسناد الصيد كذلك، و الاخبار عن النهار بأنه صائم، و الليل بأنه قائم، و فى بيت جرير حيث جعل الاخبار عن الليل بالنوم اتساعا و مجازا، والمعنى و ما المطى بنائم فى الليل، لأن الليل لاينام، و لايوصف بأنه نائم فهو ليس حيوانا و لا انسانا، فكان حقه ــ اذن ــ أن يقول بمنوم فيه. أما البيت الثانى فقد أخبر عن النهار بكونهن فى سلسلة، وعن الليل باستقراره فى جوف اتساعا و مجازا، و هذا كله يرد الى المجاز العقلى الذى عرف بهذا الاسم عن المتأخرين. و فى موضع آخر يقول: «سرقت الليل أهل الدار فتجرى الليلة على الفعل فى سعة الكلام كما قيل صيد عليه يومان... و المعنى انما هو فى الليلة، و صيد عليه اليومين غير أنهم أوقعوا الفعل عليه لسعة الكلام... و مثل ما أجرى مجرى هذا فى سعة الكلام و الاستخاف قوله عزوجل بل مكر الليل و النهار، فالليل و النهار لايمكران ولكن المكر فيهما»(37) و واضح أن هذا من المجاز العقلى. و الآية الكريمة تدور فى كتب البلاغة على أنها من هذا الباب، و سيبويه حين يبسط هذا النوع من الكلام على أنه اتساع فى أكثر من موضع من كتابه، كأنه يحاول أن يقنعنا به، فهو يلح علينا فى قبوله و الاعتراف به، و لايترك مناسبة الا ذكره (ففى باب استعمال الفعل فى اللفظ لا فى المعنى) يقول صيد عليه يومان، و انما المعنى صيد عليه الوحش فى يومين، ولكنه اتسع و اختصر، و مثله بل مكر الليل و النهار»(38) و من ذلك قول الخنساء المشهور المتداول فى كتب البلاغة على أنه من شواهد المجاز العقلى يذكره سيبويه فيقول: «و من ذلك قول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى اذا أدكرت فانما هى اقبال و ادبار
فجعلها الاقبال و الادبار، فجاز على سعة الكلام، كقولك نهارك صائم، و ليلك قائم(39) و ابن الأنبارى يرى فى كلام الخنساء حذف المضاف فهى تريد انما هى ذات اقبال و ادبار(40). ولكن ابن جنى لايؤيد هذا الرأى و يضعفه، فالخنساء تريد أن تصف ناقتها كأنها مخلوقة من الاقبال و الادبار و ليس على حذف المضاف أى ذات اقبال و ذات ادبار. و يكفينى من هذا كله قول اللّه عزوجل «خلق الانسان من عجل» و ذلك لكثرة فعله اياه و اعتياده له(41) و نرى عبدالقاهر ينقل قول الخنساء و يعتبره من المجاز الحكمى، و أن الخنساء لم ترد بالاقبال و الادبار غير معناها فتكون قد تجوزت فى نفس الكلمة، و انما تجوزت فى أن جعلتها لكثرة ما تقبل و تدبر، و لغلبة ذلك عليها و اتصاله بها، و أنه لم يكن لها حال غيرها كأنها قد تجسمت من الاقبال و الادبار و قلت انما هى ذات اقبال و ادبار لأفسدنا الشعر على أنفسنا، و خرجنا الى شىء مغسول، و الى كلام عامى مرذول... و هذا مما لامساغ له عند من كان صحيح الذوق، صحيح المعرفة، و نسابة للمعانى»(42) و قد استهشد الزمخشرى بهذا البيت عن قوله تعالى «ولكن البرَّمن اتقى»(43) على أن الاسناد مجازى، بدعوى أن المتقى هو عين البر بجعل المؤمن كأنه تجسد من البر و كان الزجاج يأبى غير هذا(44) فسيبويه قد نبه ــ اذا ــ على هذا البيت، و مافيه من مجاز، و ان لم يضع له الاسم الاصطلاحى، ولكنه بذلك قدم للنحاة و البلاغيين مادة يتناولونها فى كتبهم، و يتعهدونها بالشرح و التفسير، متابعين فى ذلك رأى سيبويه، أو مخالفين له، و مهما يكن فان سيبويه قد أثرى بهذه الملاحظة اليسيرة أبحاث البلاغة، حتى صار العلماء من بعده عالة عليه فى هذا الباب، فالقول ــ اذن ــ بأن عبدالقاهر الجرجانى هو مبتكر المجاز العقلى(45) فيه كثير من التسامح، بل انه زعم يدحضه ما عثرنا عليه من أدلة من تعطى الأسبقية فى تناول هذا الفن من الفنون البلاغة ليس الى كثير من النحاة الذين سبقوا عبدالقاهر فحسب، بل الى سيبويه أيضا. | |
|
hchelahi
عدد المساهمات : 1368 نقاط : 3862 التميز : 52 تاريخ التسجيل : 26/07/2009 العمر : 64 الموقع : بسكرة
| موضوع: رد: أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:39 pm | |
| البيان
و فى البيان تناول التشبيه، و الاستعارة بالكناية، و الاستعارة فى الحروف، و المجاز بالحذف، و الكناية و ان كانت بمعناها اللغوى.
التشبيه
و لم يقتصر حديث سيبويه فى الكتاب على ألوان المعانى، بل تناول أيضا بعض مباحث علم البيان، كالتشبيه و الاستعارة، و المجاز، و الكناية و غير ذلك، و عندما تناول التشبيه، و التمثيل منه بصفة خاصة، لم يتناوله منفردا بحيث قصد أن ينبه الى هذا النوع من التعبير، و انما تحدث عنه من خلال موضوع آخر و هو أن الكلام: منه ما يأتى على جهة الاتساع و الايجاز. و ما فيه من اتساع و مجاز يشمل أبواب كثيرة بحيث يحتوى المجاز العقلى مثل قوله تعالى: «بل مكر الليل و النهار» و المجاز المرسل كقوله تعالى «و اسأل القرية» و التشبيه التمثيلى كقوله تعالى «و مثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لايسمع الا دعاء و نداء» فهذه الخيوط الثلاثة يضمها عنده نسيج واحد هو الايجاز و الاتساع، أو هى صور من التعبير فى اطار واحد. و الحق أن سيبويه عندما تحدث عن التشبيه ذلك اللون البلاغى المشهور تحدث عنه بطريقة بسيطة ساذجة لم يكن لها التأثير الكافى على البلاغيين من بعده، بل اننا لو عقدنا مقارنة بين ما قاله سيبويه عن التشبيه و بين ما قاله المبرد مثلاً لوجدنا هوة واسعة عميقة بين نظرة الاثنين اليه. و على الرغم من ذلك فلابد من القاء نظرة على ما تركه سيبويه من ملاحظة على فن التشبيه. (ففى باب استعمال الفعل فى اللفظ لا فى المعنى لا تساعهم فى الكلام و للايجاز و الاختصار)، يذكر سيبويه ألوانا من التعبير يطلق عليها هذا الوصف كالمجاز العقلى و المرسل ثم يقول: «و مثله فى الاتساع قوله عزوجل: «و مثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لايسمع الا دعاء و نداء» فلم يشبهوا بما ينعق، و انما شبهوا بالمنعوق به.»
و انما المعنى مثلكم و مثل الذين كفروا كمثل الناعق و المنعوق به الذى لا يسمع، ولكنه جاء على سعة الكلام و الايجاز لعلم المخاطب بالمعنى(46)، فالآية فيها ايجاز، و المخطاب يعلم أن فى الآية ايجازا. ولو لا هذه القرينة لماجاز الاتيان بالايجاز فى الآية حتى لايغمض الأمر على المخاطب. فمن غيرالمعقول أن يشبه الكافر بالداعى للايمان، و لا يجد من ينصت اليه أو يلبى دعوته. ولكن المعقول أن تشبه وعظ الكافرين الذين لا يستجيبون بدعوة الأغنام التى لا تعى، و من يسمع الآية يقفز الى ذهنه هذا المعنى فيعلم أن فى الآية اختصارا. و الزجاج يعقب على ذلك بقوله «قال سيبويه: و هذا من أفصح الكلام ايجازا و اختصارا و يلتمس و جها آخر للايجاز فيقول، ولأن اللّه تعالى أراد أن يشبه شيئين بشيئين: الداعى و الكفار بالراعى و الغنم، فاختصره ولكنه اكتفى بذكر الكفار من المشبه، و الراعى من المشبه به فدل ما أبقى على ما ألقى و هذا معنى كلام سيبويه»(47)
و كتاب سيبويه لايخلو أيضا من ذكر بعض أدوات التشبيه فهو يروى لنا أنه «سأل الخليل عن كأن فزعم (أن) لحقتها الكاف للتشبيه ولكنها صارت مع أن بمنزلة كلمة واحدة»(48) كما يتحدث عن الكاف الزائدة» و أن ناسا من العرب اذا اضطروا فى الشعر جعلوها بمنزلة مثل، قال حميد الأرقط فصيروا مثل كعصف مأكول.(49) فقصد المبالغة فى التشبيه فجمع بين الكاف و مثل. فالقول ــ اذن ــ بأن «الجاحظ أول من تنبه الى أدوات التشبية كالكاف و كأن و مثل.(50) ظاهر الفساد. و يتحدث أيضا عن وجه الشبه و أن الطرفين لا يكونان متشابهين و متساويين فى كل الأمور، و انما التشبيه ليس من كل وجه فيقول «و قد يشبهون الشىء بالشىء، و ليس مثله فى جميع الأحوال و سنرى ذلك فى كلامهم كثيرا.(51) و هكذا يمكن القول ــ بعد شرح التشبيه عند سيبويه و الكيفية التى أظهره بها، و تناوله لبعض أنواعه و أدواته بأن سيبويه قد أسهم بنصيب ما فى باب التشبيه، و هو نصيب ضئيل الأثر زهيد القيمة، الا أننا نلتمس له العذر حيث انه كان يهتم بوضع القواعد العلمية النحوية، و ليس بارساء الأسس الفنية البلاغية حتى يحصى الأبواب، و يفصل فيها القول اذا صادفه لونا بلاغيا كالتشبيه أو غيره من فنون البلاغة.
الاستعارة فى الحروف:
و ننتقل الى التوسع فى الحروف و هى كثيرة فى اللغة، متعددة الجوانب، واسعة التصرف، و ينوب بعضها عن بعض فى كثير من المواضع، مما يكسب اللغة ثراء، و مرونة و اتساعا، و قد استعملت حروف الجر استعمالاً كثيرا. حتى اننا لانسرف فى القول اذا زعمنا أن كل حرف قد ورد فى غير معناه. و كتاب مشكل القرآن لابن قتيبة يزخر بأمثلة تؤيد وجهة نظرنا فما من حرف الا و له شاهد من القرآن يبين استعماله بمعنى آخر غير معناه الأصلى. ولكن الذى يهمنا هنا أن نقول ان الاستعارة فى الحروف يشيع استعمالها لتؤدى أغراضا متنوعة و معانى مختلفة. و العرب حينما يتوسعون فى استعمال الحروف انما يريدون تصوير معناها و أثرها فى البيان و سيبويه قد لاحظ توسع اللغة فى استعمال الحروف، و ركونها الى مواضع مختلفة غير المعانى التى وضعت لها. و يحتم علينا البحث أن نذكر استعمالات الحروف عند سيبويه، و ما دمنا نتحدث عن البلاغة فى كتابه. و نحن نعلم «أن الحرف ان قرن بالملائم كان حقيقة و الا كان مجازا فى التركيب».(52) و سيبويه يتحدث عن استعارة الحروف بنصاعة بيان حتى لايدع مجالاً للتأويل، أو التمحل فى اثبات أن هذا النوع قد ورد فى الكتاب، أو أن سيبويه قد تحدث عنه. اقرأ قوله: «أما على: فاستعلاء الشىء تقول هذا على ظهر الجبل و هو على رأسه. فيكون أن يطوى أيضا مستعليا كقولك مر الماء عليه و امررت يدى عليه. و أما مررت على فلان فجرى هذا كالمثل و علينا أمير كذلك، و عليه مال أيضا، و هذا لأنه اعتلاه، و يكون مررت عليه أن يريد مروره على مكانه ولكنه اتسع. و تقول عليه مال و هذا كالمثل كما يثبت الشىء على المكان، كذلك يثبت هذا عليه، فقد يتسع هذا فى الكلام و يجىء كالمثل.(53) «فقوله مررت على فلان، و علينا أمير، و عليه مال، و هذا لأنه شىء اعتلاه واضح كل الوضوح فى أن الاستعلاء ليس حسيا، و انما هو معنوى. فالدين يعلو عليهم. و الرجل يمر على الرجل فكأنه ثبت على مكانه و علاوه. و هذا اتساع فى اللغة لا يدل على المرونة فى استعمال الألفاظ فحسب، و انما أيضا يبرز الصورة و يوضحها كل الوضوح. و يبين أثرها على المعنى. أما اجراء الاستعارة فليس يعنينا و لا يعنى سيبويه و لا المتقدمين منها شىء و انما هو من خصوصيات العلماء المتأخرين فقط لتسويغ وضع الحروف فى غير مكانه. و كما تحدث سيبويه عن اتساع (على) فى معناها، تحدث أيضا عن (فى)، و أنها تتسع فى الكلام فيقول و انما (فى) فهى للوعاء كقولك هو فى الجراب، و فى الكيس، و هو فى بطن أمه كذلك هو فى الغل لانه جعله اذا ادخله فيه كالوعاء له و كذلك هو فى القبة و فى الدار. و ان اتسعت فى الكلام فهى على هذا،و انما تكون كالمثل يجاء به يقارب الشىء و ليس مثله»(54)، فالحرف فى قوله «هو فى الغل لأنه جعله اذ أدخله فيه كالوعاء له. فيه معنى المجاز، لأنه مستعمل فى غير الحقيقة، و لأن فى متعلق معنى الحرف: و هو الغل نوعا من التشبيه و المقاربة بين الشىء و الشىء حيث كان الغل لا يصلح للظرفية الحقيقة و هل تخرج الاستعارة فى الحروف عن هذا المعنى.
| |
|
hchelahi
عدد المساهمات : 1368 نقاط : 3862 التميز : 52 تاريخ التسجيل : 26/07/2009 العمر : 64 الموقع : بسكرة
| موضوع: رد: أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة الثلاثاء سبتمبر 15, 2009 4:41 pm | |
| الاستعارة بالكناية،
يذكر سيبويه الاستعارة بالكناية، كما يذكر قرينتها، و هى الاستعارة التخييلية يذكر ذلك نقلاً عن أحد الذين يثق بهم من العلماء و ربما كان الخليل. و اذا أردنا أن نكشف عن الاستعارة المكنية فى هذا البيت لقلنا مثلاً: شبهت الخنساء الداهية بحيوان مفترس شديد البأس ثم حذف المشبه به، و رمز له بشىء من لوازمه و هم الفم هنا قرينة الاستعمارة المكنية أو ما يجوز أن نطلق عليه أيضا الاستعمارة التخييلة. و سيبويه لم يكن وحده مدركا لهذا الفهم، بل أدركه معه نقل عنه، غير أنه لايعطى لما يدرك أسماء اصطلاحية، فهو يقول عن هذا البيت «فجعل للداهية التى حدثنا بذلك من نثق به»(55) و اذا أردنا الآن أن نضع اصطلاحها بلاغيا للداهية التى يكون لها فما، لما و دنا غير الاستعارة المكنية للداهية و الاستعارة التخييلية للفم. و ابن سنان الخفاجى يتعرض فى الفصاحة لهذا البيت فيقول: و أنشد سيبويه: و داهية من دواهى المنون يرهبها الناس لا فالها
فجعل للداهية فما استعارة(56) و بذلك يكون سيبويه قد سبق غيره من العلماء فى تناول هذين النوعين من الاستعارة أيضا. و عندما يتحدث سيبويه عن الكناية فلا عنها بالمعنى الاصطلاحى المعروف بأنه «اللفظ الذى يراد به لازم معناه مع جواز ارادة ذلك المعنى» و انما يريد بها المعنى اللغوى فقط بأن يريد مجرد الخفاء و الستر حين يتكلم بشىء و هو يريد غيره، أو كان جاهلاً باسم المحدث عنه. «و تقول العرب يافل... و انما بنى على حرفين، لأن النداء موضع تخفيف، و لم يجز فى غير النداء لأنه جعل اسما لايكون الا كناية لمنادى و أما فلان فانما هو كناية عن اسم به المحدث عنه خاص، قد اضطر الشاعر فبناه حرفين فى هذا المعنى. قال أبوالنجم:(57)
فى لجة أمسك فلانا عن فل
فهنا فل و فلان بمعنى واحد و هما كناية عن شخص معين لانعرف اسمه على وجه التحديد، أو عن شخص مجهول، غير أن فل استعملت على حرفين فقط، لأن النداء موضع تخفيف، و يجوز فيه ما لايجوز لغيره، و استعمل فى البيت على حرفين من غير نداء للضرورة، و فى موضع آخر من الكتاب يذكر سيبويه أن كلمة فلان تستعمل أحيانا كناية للآدمى فهى مجردة من (آل) فتقول فلان، و ان استعملت كناية لغير الآدمى اقترنت (بأل) فتقول الفلان و يعبر عن ذلك بقوله «فاذا كنيت من غير الآدميين قلت الفلان و الفلانة، و الههن و الهنة، جعلوه كناية عن الناقة التى تسمى بكذا، و الفرس يسمى بكذا ليفرقوا بين الآدميين و البهائم»(58) فسيبويه ــ اذا ــ لم يكن يعرف الكناية الاصطلاحية، و لم يشر اليها اشارة تنبىء عنها، و هو ما كنا نود أن نعثر عليه فى كتابه، فاننا نلتمس العذر لسيبويه، لأن الكناية، الاصطلاحية لم تعرف تقريبا الا فى نهاية القرن الثالث الهجرى على يد ابن قتيبة (ت 276 ه) و المبرد (285 ه) اللذين تحدثا عن أقسامها بصفة عامة أما قبل ذلك فكانت تستعمل فى المعنى اللغوى، و قلما نراها استعملت فى معناها الاصطلاحى المعهود.
البديع
و كتاب سيبويه لم يكن مقصورا على ذكر أنواع من المعاني و البيان، بل تجاوز ذلك الى بعض ألوان من البديع فى عرف المتأخرين، و أول هذه الألوان تأكيد المدح بما يشبه الذم، و قبل أن نخوض فى هذا اللون البديعى ينبغى أن نمهد له فنقول: ان الاستثناء نوعان منه ما يتعلق باللغة، و يتمثل فى استخراج القليل من الكثير، و هذا نطرحه الآن جانبا، لأنه لا يعنينا فى دراسة البديع و ان كنا قد تناولناه و فى علم المعانى باعتباره من أدوات القصر... نوع آخر يفيد فوق المعنى اللغوى ما يزيد به الكلام حسنا و يستحق أن يدرج فى أبواب البديع. و هذا هو الذى نتعرض له. فالاستثناء الفنى الذى نطلق عليه «تأكيد المدح بما يشبه الذم» قد ورد فى كتاب سيبويه فهو فى باب (ما لايكون الا على معنى ولكن) من الاستثناء يذكر قول النابغة: و لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
أى ولكن سيوفهم بهن فلول و يعقب الأعلم على هذا البيت و يشرحه ليبين مقصد سيبويه و مراده فيقول «ان سيوفهم ليس بعيب، لأنه دال على الاقدام، و مقارعة الأقران. فالنابغة مدح آل جفنة ملوك الشام فنفى عنهم كل عيب، و أوجب لهم الاقدام فى الحرب، و استثنى ذلك من جملة العيوب مبالغة فى المدح و هو ضرب من البديع يعرف بالاستثناء. فثلم السيوف و تفللها ليس عيبا حتى نخرجه من الشطر الأول من البيت، و لذلك فقد نبه سيبويه على أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن. و هذا البيت مشهور قد تداوله العلماء فى تصانيفهم، و قد أورده علماء البديع شاهدا على تأكيد المدح بمايشبه الذم، فانه نفى العيب عن هؤلاء القوم على جهة الاحاطة ثم أثبت لهم ما يوهم أنه عيب و هو تكسر السيوف فى مضاربة الأعداء و هذا ليس بعيب، بل هو غاية المدح، و من ثم فقد أكد المدح بما يشبه الذم أى أنه مدح فى صورة ذم. و قد يكون أوضح فى التدليل على أن سيبويه قد عرف هذا اللون البديعى ما عقب به على بيت النابغة الجعدى: فتى كَمُلت خيراته غير أنه جواد فما يبقى من المال باقيا
فيقول «كأنه قال ولكنه مع ذلك جواد».(59) فواضح أن سيبويه يفهم من البيت أن الشاعر يضيف للممدوح صفة مدح الى صفة مدح و لا يسلبها عنه. و فى ذلك تأكيد للمدح، و ان فهم من ظاهر الاستثناء أنه ذم و ليس مدحا. و قال الأعلم عن هذا البيت هو مثل ما قاله عن بيت النابغة الذبيانى «فهوم استثنى جوده و اتلافه للمال من الخيرات التى كملت له مبالغة فى المدح فجعلها فى اللفظ كأنهما من غير الخيرات كما جعل تفلل السيوف كأنه من العيوب.(60) و هذا البيت أيضا من شواهد علماء البلاغة على أنه من البديع، و يدخل تحت باب تأكيد المدح بما يشبه الذم... ولو طالعنا كتاب البديع لابن المعتز لو جدنا قد اعتبر النوع الخامس من المحسنات... تأكيد المدح بما يشبه الذم... و استشهد بهذين البيتين اللذين ساقهما سيبويه و اقتصر عليهما دون غيرهما، و بطبيعة الحال لم يشر الى سيبويه أية اشارة، و ان كان قد أشار الى الخليل فى بابى التجنيس و المطابقة.
التجريد
و سيبويه كما تحدث عن المدح الذى يشبه الذم، تناول كذلك التجريد و حديثه عن التجريد لا ينقع الغلة، و لايطفىء الظما الى معرفته كلية، و انما ذكره فى ايجاز شديد، و بمثال و احد، و رغم ذلك فان العلماء لم يهملوا رأى سيبويه، بل نقلوه فى كتبهم و نسبوه اليه (ففى باب ما يختار فيه الرفع و يكون فيه الوجه فى جميع اللغات) يقول سيبويه «ولو قال أما أبوك فلك أب لكان على قوله فلك به أب أو فيه أب، و انما يريد بقوله فيه أب: مجرى الأب على سعة الكلام»(61) فقوله لك به أب، أو لك فيه أب، نوع من التجريد الذى يكون الانتزاع فيه بالباء أو بفى كقولهم لئن سألت فلانا لتسألن به البحر، أو كقوله تعالى «لهم فيها دار الخلد». و ابن جنى يردد هذا النوع الذى تستعمل فيه الباء من التجريد الى سيبويه حيث يقول «و منه مسألة الكتاب أما أبوك فلك أب: أى لك منه، أو به، أو بمكانه أب».(62) و ما فعله ابن جنى من اشارة الى وجد هذا النوع من التجريد و تفسيره فى كتاب سيبويه قد فعله الزجاج أيضا.(63) و فى هذا ما يبين مدى أهمية الكلمة الموجزة التى يطلقها سيبويه، لأنه لا يطلق الكلمة الا فى دقة، و بعد تحديد، و ما على العلماء بعد ذلك الا النقل و التفسير.
فالفكرة التى كان سيبويه يرعاها و يصدر عنها فى تنويع مباحث النحو، و ترتيب أبوابه كما تمثلت لى بالنظر و المراجعة فى الكتاب، مدارها العامل أولاً و أخيرا: نظر فى الجملة حين تكلم عن المسند و المسند اليه، فاذا هى فعلية و اسمية... ثم تكلم عن الفعل المحذوف و الفعل المذكور و المتعلقات... ثم صار الى الجملة الاسمية فتكلم عن الابتداء و نواسخه. و يبدو أن النسق الذى أخذ به سيبويه هو الذى ألهم علماء المعانى فكرة انحصار مباحثه فى أبوابه الثمانية المعروفة. و ليس يسع المرء و هو يقرأ كلامهم فى ذلك ال أن يتبين اقتباسهم منه، و اقتداء هم بهداه».(64) و الأبواب الثمانية التى تنحصر فيها مباحث علم المعانى هى أحوال الاسناد الخبرى، و المسند اليه، و المسند، و متعلقات، الفعل، والقصر، و الانشاء، و الفصل، و الوصل، و الايجاز، و الاطناب و المساواة، لأن علماء المعانى ــ بطبيعة الأمر ــ قد اعتمدوا فى مباحثهم على المسند والمسند اليه. و ما يتبع ذلك من بقية الأبواب الأخرى. و هذا النهج الذى ساروا عليه لم يكن معروفا عند علماء النحو وقت تحديد العلوم و تقعيد القواعد، و انما الطريق الذى سلكه النحاة فى ذلك الوقت ينحصر فى أثر العوامل و ما يعقبها من حركات الاعراب، و ما فيها من رفع و نصب و خفض و جزم و ليس الى العوامل نفسها. و هذا النهج مخالف لنهج سيبويه الذى حصر اهتمامه بالعمل نفسه فتولدت عنه هذه الأقسام و انتفع بها البلاغيون بعد ذلك فى وضع علم المعانى، و حصر أبوابه.(65)
و هكذا فى مواضع كثيرة من الكتاب نجد سيبويه يتناول تأليف العبارة، و تركيب الكلمات، و ما فيها من صحة و حسن، أو ما يطرا عليها من فساد و قبح. و لا نستطيع هنا أن نتعقب كل ما شرح سيبويه، و أطنب فى شرحه، و زاده تفصيل بعد تفصيل، مما يتصل بالنظم، أو توخى مراعاة معانى النحو، فذلك يحتاج الى بحث خاص يتفرغ له أحد الباحثين، و انما يكفى أن نشير هنا الى أن سيبويه قد أدراك معنى نظم الكلام، و أن النحو عنده لم يكن مجرد اعراب لأواخر الكلمات، و ما فيها من رفع، و نصب، و خفض، و جزم، بل كان النحوعن البلاغة فتمزقت أوصال العلمين، و كان هذا الفصل جناية عليهما معا. و بعد فاذا كان عبدالقاهر هو الذى ينسب اليه ابتكار نظرية النظم، لانّه بسطها وفصلها وطبقها على ابواب جمة من البلاغة فان سيبويه هو الذى أمسك المصباح بكلتايديه، و أنار الطريق أمام عبدالقاهر، و هداه الى الغاية المنشودة، أو بعبارة أخرى اذا كان النظم قد أصبح على يد عبدالقاهر بمثابة شجرة عظيمة، شاهقة، متعددة الأغصان، مثقلة بالثمار. فان سيبويه هو الذى القى البذرة قبل أن تبرز الشجرة أمام العيون بمئات السنين.
الخاتمة
و لا شك أن هذه المسائل البلاغية التى طرقها سيبويه فى كتابه تشكل كثيرا من أبواب البلاغة، و لذلك فان كثيرا من العلماء الذين يعتد بهم فى تاريخ البلاغة قد اغترف من هذا البحر الزاخر دون أن ينضب له معين، و منهم من يعترف بأنه استقى من كتاب سيبويه بعض مسائلة البلاغة كعبد القاهر، و منهم من يغفل ذلك اغفالاً تاما كابن المعتز و أبى هلال العسكرى، ولكنا نكتفى بأن نشير فى ايجاز الى أن عبدالقاهر قد استأنس بسيبويه فى كثير من مباحثه كالتقديم و التاخير،و المجاز بالحذف، و المجاز و العقلى و التشبيه التمثيل. ابن المعتز ينقل عنه تأكيد المدح، و ابن جنى يذكر مسألة الكتاب فى التجريد، و أبو هلال العسكرى يأخذ عنه تقسيم الكلام الى مستقيم حسن، و محال، و مستقيم كذب، و مستقيم قبيح، و محال كذب، و يذكر أمثلته بعينها و لايشير اليه، و كلام سيبويه عن المسند و المسند اليه قد أوحى الى العلماء حصر على المعانى فى الأبواب البلاغية الثمانية المعروفة. و غير ذلك مما لاينكر أثره و من ثم فان لسيبويه فى البلاغة جهدا مشكورا، و بلاء مرفورا حيث ألقى بذورا طيبة فى أرض خصبة نمت و ترعرعت بمرور الزمان على أيدى العلماء حتى بلغت تمام النضج على يدى عبد القاهر الجرجانى.
| |
|