أي بداية نبدأها مع خالد :-
انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..
فلنبدأ معه اذن من حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه
لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، ، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى
رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، يزيح عن كاهله أوزار مناصرته
الباطل في أيامه الخاليات..
لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد
راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه
من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال: والله لقد
استقام المنسم....
وان الرجل لرسول..
فحتى متى..؟؟
أذهب والله، فأسلم..
ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه
الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة
المؤمنين:
.. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع
الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص،
فقال مرحبا يا قوم،
قلنا : وبك..
قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه
طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..
فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..
وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..
فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..
قلت: يا رسول الله على ذلك..
فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله...
أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟
ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..
أتذكرون أنباء الثلاثة شهداء أبطال معركة مؤتة..؟؟
لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..
لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم
مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..
وتذطرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم
قادة المعركة الثلاثة حين قال : أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى
قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..
ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".
كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..
هذه البقيّة هي : ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه.
فمن كان هذا البطل..؟
لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة
القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن
رواحة، والذين اساشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..
وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا تبعثر الفوضى صفوفه..
ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له :
خذ اللواء يا أبا سليمان...
واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها
مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..
في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...
ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين
كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..
ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش
الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك
بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة. بيد أن انسحابا كهذا كان من
الاستحالة بمكان..
هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير
الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم
يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى
فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما
معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها
من زوال.
وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..
وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..
وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..
ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته
سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا وما كان
يقول حينها
لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:
(وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..
وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة،
وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ
وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل
الساعة.. ألى أبو سليمان ، سيف الله، خالد بن الوليد
ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..
ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..
ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..
ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..
واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام
أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر.
عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..
ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..
ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..
وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على
رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء
الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته
التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:
الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟
اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد :
لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك.
وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..
وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..
ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..
فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الرده قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.
وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..
وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..
ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..
والتقى الجيشان:
ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء.
وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال
الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة.
وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..
ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..
، ثم صاح بصوته المنتصر: امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ.
وامتازوا جميعا..
مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم وكل بني أب على رايتهم .
وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..
وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا،
فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..
وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون
بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق
مبيد.
لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..
وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..
هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.
في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية.
مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع
للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.
وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..
.فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة
المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم
معاوية بن أبي سفيان..
وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..
بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:
" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..
وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل،.
وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:
والله لأشفينّ وساوسهم بخالد
ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغم من أن
الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان
على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..
كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..
وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم
المقدامة قلقا وخوفا.. ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات
الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه.
ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:
خالد لها
وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".
فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق.
عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة
تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم
للمعركة كل مقاديرها..
كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..
ولوة البطل زمام جواده ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..
" الله أكبر"
" هبّي رياح الجنة"..
كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.
ودار قتال ليس لضراوته نظير..
وأقبل الروم في فيالق كالجبال..
وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..
ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..
وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ
كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين
أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد
القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه
تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا
بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكان خالد .
قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..
ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد
استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..
وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو
عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في
الحسبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه،
وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..
فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..
ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء
الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..
أبو بكر وعمر..
اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..
فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له : اني أبعثك داعيا لا مقاتلا.
غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي
أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلغه صنيع
خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله : "
اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".
ثم أرسل عليّا ففدى لهم دماءهم وأموالهم.
وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له :
ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..
كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..
ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.
فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:
" يا عزّى كفرانك، لا سبحانك
اني رأيت الله قد أهانك".
ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها
فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله : " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..
لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الناس فيما بعد أنه لم يكن يبكي
فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة
الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه
الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.
نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..
أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟
أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟
أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل
فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله
والاسلام..
ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..
وأنه ليقول:
" ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..
من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه
هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى
بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى
فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...
أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..
كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه.
هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:
" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم..
ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء
كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..
أتدرون الى من أوصى..؟
الى عمر بن الخطاب ذاته.
أتدرون ما ترك..؟
فرسه وسلاحه..
ثم ماذا؟؟
لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..
ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.
وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..
شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته..
سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال :
ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتفائل بها، وأستنصر .
وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل
الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه :
أنت خير من ألف ألف من القوم اذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي غضنفر يذود عن أشبال
أجواد..؟ فأنت أجود من سيل غامر يسيل بين الجبال
وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:
" صدقت..والله انه كان لكذلك".
وثوى البطل في مرقده..
ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..
لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..
واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح..
تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي
وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...
وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..
ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:
" رحم الله أبا سليمان
ولقد عاش حميدا
ومات سعيدا