من الذي حمل الرسالة؟ إنه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، كان قائدا من قُوَّاد المسلمين فى الأردن،وهو من كان يخلف سيدنا عمرو بن العاص مباشرة فى إمارة الأردن، وذلك بتولية من سيدنا أبي عبيدة بن الجراح. ومن يطالع سيرة سيدنا عبد الله ابن عمرو بن العاص يتعجب من كونه من قواد المسلمين فى هذا الجهاد مع سيرته هذه، فما وجه العجب فى ذلك؟!!
الأمر أن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص كان مشهورا بين الصحابة بالعبادة والزهد والركون الى المسجد وكان لا يأكل الا ما يكفيه فقط للعيش، ثم يذهب ويعبد الله سبحانه وتعالى ويصلِّي ويتنسَّك ويذكر الله سبحانه وتعالى كثيرا حتى شقَّ على نفسه لدرجة انه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر عنه ؛ فاستدعاه وقال له: ألم أُخْبرَ أنك تصوم النهار لا تفطر، وتصلى الليل لا تنام؟!! فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ؛ فقال عبد الله: والله يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك ؛ فقال: فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين (وفى رواية: فحسبك أن تصوم الاثنين والخميس) ؛ فقال عبد الله: إني أطيق أكثر من ذلك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل لك فى خير الصيام؟! صيام داود: كان يصوم يوما ويفطر يوما ؛فلبث عليه عبد الله بن عمرو بن العاص ( أصبح يصوم يوما، ويفطر يوما طوال حياته ) ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله: علمت أنك تجمع القرآن فى ليلة ( يقرأ القرآن كله كل ليلة ) وإنى أخشى أن يطول بك العمر وأن تمَلَّ قراءته ؛ اقرأه فى كل شهر مرة ؛ فقال: إنى أطيق أكثر من ذلك ؛ فقال: اقرأه فى كل عشرة أيام مرة ؛ فقال: إنى أطيق أكثر من ذلك ؛فقال: اقرأه فى كل ثلاث مرة ( وهذا أقلُّ وقت للقراءة ) ؛ فلبث على ذلك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس مني" ولقد عُمِّرَ عبدُ الله بن عمرو بن العاص طويلا فكان من معمري الصحابة، حتى أصبح شيخا كبيرا وساعتها كان يشُقُّ عليه الصيام (كان يصوم يوما و يفطر يوما)، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام ؛ فقال: ليتنى قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يريد أن يتنازل عما أخبر الرسول به ). وهذا يؤكد أن أحب الأعمال إلى الله (تعالى) أدومها وإن قلَّ، لكن ليس معنى ذلك أن تقلِّل من قراءة القرآن فتقرأ سورة كل شهر أو شهرين مثلا ؛ لتضمن الاستمرار في الكِبر ؛ فالله تعالى يقول:[والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا].
هذا الناسك العابد كان أبوه سيدنا عمرو بن العاص يذهب ويشتكيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة عبادته لله سبحانه وتعالى، يراه يصلي كثيرا، ويصوم كثيرا، فكان قلب عمرو بن العاص يشفق على ابنه من كثرة العبادة ؛ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ابنه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا عبد الله: "افعل ما أمَرتُك ( أي صيام داود، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام)، وأطَعْ أباك ". ( أي فى هذا الأمر ). وقد انبنى على هذه الكلمة (أطع أباك) من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص أشياء كثيرة أخرى فى التاريخ الإسلامي سنأتى لها (إن شاء الله ) فى حينها.
هذا الناسك العابد عندما جاء الجهاد كان فى طليعة المجاهدين، وكان قائدا من قواد المسلمين فى الأردن، وكان أشد المحمسين للناس على القتال وترك المسجد وترك أجر ألف صلاة للصلاة الواحدة فى المسجد النبوى كما تحدثنا من قبل عن أبي الدرداء، وكما تحدثنا من قبل عن كثير من الصحابة اشتُهِروا بالعبادة، واشتهروا بالذكر، واشتهروا بالصيام والصلاة والصدقة ومع ذلك عندما يأتي وقت الجهاد كانوا يتركون كل هذا ويذهبون إلى الجهاد، ويذكرون الله (سبحانه وتعالى) فى أرض المعركة في أشرف الأماكن، وهذا يوضح لنا مفهوم الاسلام الشامل، وأن الاسلام ليس مجرد عبادات أو طقوس تُنفَّذ، ولكنه يحتوى أشياء كثيرة: منها العبادة ومنها العقيدة ومنها المعاملات ومنها الجهاد في سبيل الله.