[size=16]مقدمة
بعد أن تحرك سعد بن أبي وقَّاص t بالجيش الإسلامي الذاهب لحرب الفرس من منطقة "زَرُود" ووصل إلى "شَرَاف"، وكان قوام الجيش الإسلامي الذي معه قد وصل إلى 32 ألف جندي، ووصلته الرسالة العمرية الخالدة التي تُعدّ نموذجًا رائعًا للوصايا التي يمكن أن يوصِي بها الأمراء مَنْ يكلفونهم بالجيوش، واستقرَّ سعد t في "شراف" منتظرًا أوامر جديدة تأتي من المدينة المنورة.
وصلت رسالة أخرى من عمر بن الخطاب t بتعبئة الجيش (أي: بتنظيمه وترتيبه وكأنه على قتال)، وأمره بالتحرُّك من "شراف" إلى "القادسية" وهو على تعبئةٍ كاملةٍ حتى إذا باغتته جيوش فارسٍ في أية لحظة يكون على استعداد كاملٍ لها.
بدأ سعد بن أبي وقاص t يرتِّب جيشه وهو في "شراف"، فجعل خليفته خالد بن عرفطة وهو أحد فرسان العرب المشهورين، ولم يتوجه لحرب فارس قبل ذلك، وجعل على المقدمة زهرة بن الحُوِيَّة، وكانت لكل الجيوش الإسلامية مقدمات، ولكن سعدًا t جعل لجيشه مقدمة وطلائع، وكانت فرقة الطلائع من أشد فرسان المسلمين مهارة وجسارة وقوة، واختار لهذه الطلائع قوة من كل القبائل، وكانت تحت إمرة سواد بن مالك، وكانت مهمة الطلائع أن تسير في مقدمة الجيش أبعد من مرمى بصر الجيش، لتكون عيونًا على الجيش الفارسي؛ حتى لا يُباغِت الجيشَ الإسلاميَّ، وتلي المقدمةُ الطلائعَ.
وجعل على المقدمة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط، وعلى المشاة حَمَّال بن مالك، وعلى الخيول سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان من المعروف أن أشد خيول العرب في قبيلة باهلة، وجعل عبد الله الخثعمي على الركبان وهي الإبل، وجعل على مؤخرة الجيش عاصم بن عمرو التميمي، صاحب السبق العظيم في حروب فارس قبل هذه الموقعة.
وجعل كل مجموعة من جيشه تحت إمرة أمير، ثم قسَّم المجموعات إلى رايات، وتحت أمراء الرايات رؤساء القبائل، وتحت كل قبيلة العرفاء، أي على كل عشرة من الجند عريف، فالسُّلَّمُ هرميٌّ، فعلى كل عشرة عريف، وعلى كل مائةٍ رئيس قبيلة، وعلى كل ألف حامي الراية، وعلى كل المجموعة أمير الفرقة سواءً كانت مقدمة أو مؤخرة أو ميمنة أو ميسرة؛ وذلك حتى تصل الأمور بسهولة ويُسْر إلى كل الأفراد.
وتحرك الجيش الإسلامي الكبير على هذه التعبئة من "شراف" إلى الشمال متجهًا إلى "القادسية"، وفي طريقه وصلته رسالة من عمر بن الخطاب t أنِ انْزل بجيشك في عُذَيب الهِجانات (منطقة تبعد عن القادسية بعدة أميال)، وأرسِلْ طلائعك إلى القادسية فهي باب فارس.
كان في هذا الجيش الإسلامي بضعة وسبعون ممن شهدوا بدرًا، وكانوا يُسمُّونهم "البدريين"، وكان في الجيش أيضًا ثلاثمائة ممن له صحبة بعد بيعة الرضوان، وثلاثمائة ممن شهدوا فتح مكة، وسبعمائة من أبناء الصحابة، فكانت هذه ذخيرة قوية للمسلمين.
زوّد عمر بن الخطاب t الجيش بالأطباء والقضاة، فكان على إمرة القضاة عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وهو أخو سلمان بن ربيعة الباهلي القائد على الخيول في الموقعة، وكان رائد الجيش وداعيته سلمان الفارسي t.
وجعل كاتب الجيش زياد بن أبي سفيان، وجعل مترجم الجيش هلال الهجري وكان يُتْقِن الفارسية والعربية.
وأثناء تحرُّك سعد t من "شِرَاف" إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة t قبل وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، ولا تعبر نهرًا، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع.
وتنطلق هذه الوصية من الاستفادة من خطأ معركة الجسر، وهو عبور المسلمين النهر، فكانت المياه من خلفهم والفرس من أمامهم، واستُشْهِد في "الجسر" وحدها أربعة آلاف من المسلمين، وكان الفرس لا يجرءون على القتال في الصحراء؛ نظرًا لتعدد الدروب والمسالك وكثرة المجاهل بها، وإذا ضلَّ أحد الجيوش فيها فربما يهلك من الجوع والعطش.
ومع وصول رسالة المثنى مع المُعنَّى، وصلت رسالة من عمر بن الخطاب t أيضًا فيها: ألاّ يقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، وألا يجعل المياه في خلفه، وأن يجعل الصحراء خلف جيشه.
وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة t كثيرًا من تجاربه السابقة، وعمر بن الخطاب t وهو في المدينة يرى الرأي الصائب وهو على بُعد مئات الأميال من القادسية؛ لعمق فكره وحسن تخطيطه وإدارته t.[/size]