*3*25 باب قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ الْإِيمَانِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب قيام ليلة القدر من الإيمان) لما بين علامات النفاق وقبحها رجع إلى ذكر علامات الإيمان وحسنها، لأن الكلام على متعلقات الإيمان هو المقصود بالأصالة، وإنما يذكر متعلقات غيره استطرادا.
ثم رجع فذكر أن قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيام رمضان من الإيمان، وأورد الثلاثة من حديث أبي هريرة متحدات الباعث والجزاء، وعبر في ليلة القدر بالمضارع قي الشرط وبالماضي في جوابه، بخلاف الآخرين فبالماضي فيهما، وأبدى الكرماني لذلك نكتة لطيفة قال:
لأن قيام رمضان محقق الوقوع وكذا صيامه، بخلاف قيام ليلة القدر فإنه غير متيقن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل، انتهـى كلامه.
وفيه شيء ستأتي الإشارة إليه.
وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء إشارة إلى تحقق وقوعه، فهو نظير (أتى أمر الله) وفي استعمال الشرط مضارعا والجواب ماضيا نزاع بين النحاة، فمنعه الأكثر، وأجازه آخرون لكن بقلة.
استدلوا بقوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت) لأن قوله: " فظلت " بلفظ الماضي، وهو تابع للجواب وتابع الجواب جواب.
واستدلوا أيضا بهذا الحديث، وعندي في الاستدلال به نظر، لأنني أظنه من تصرف الرواة، لأن الروايات فيه مشهورة عن أبي هريرة بلفظ المضارع في الشرط والجزاء، وقد رواه النسائي عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فلم يغاير بين الشرط والجزاء، بل قال: " من يقم ليلة القدر يغفر له"، ورواه أبو نعيم في المستخرج عن سليمان وهو الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان، ولفظه زائد على الروايتين فقال: " لا يقوم أحدكم ليلة القدر فيوافقها إيمانا واحتسابا إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، (1/ 92)
وقوله في هذه الرواية " فيوافقها " زيادة بيان، وإلا فالجزاء مرتب على قيام ليلة القدر، ولا يصدق قيام ليلة القدر إلا على من وافقها، والحصر المستفاد من النفي، والإثبات مستفاد من الشرط والجزاء، فوضح أن ذلك من تصرف الرواة بالمعنى، لأن مخرج الحديث واحد، وسيأتي الكلام على ليلة القدر وعلى صيام رمضان وقيامه إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام.
*3*26 باب الْجِهَادُ مِنْ الْإِيمَانِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب الجهاد من الإيمان) أورد هذا الباب بين قيام ليلة القدر وبين قيام رمضان وصيامه، فأما مناسبة إيراده معها في الجملة فواضح لاشتراكها في كونها من خصال الإيمان، وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلق أحدهما بالآخر ظاهر فلنكتة لم أر من تعرض لها، بل قال الكرماني: صنيعه هذا دال على أن النظر مقطوع عن غير هذه المناسبة، يعني اشتراكها في كونها من خصال الإيمان.
وأقول: بل قيام ليلة القدر وإن كان ظاهر المناسبة لقيام رمضان، لكن للحديث الذي أورده في باب الجهاد مناسبة بالتماس ليلة القدر حسنة جدا، لأن التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة ومجاهدة تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا.
وكذلك المجاهد يلتمس الشهادة ويقصد إعلاء كلمة الله، وقد يحصل له ذلك أو لا، فتناسبا في أن في كل منهما مجاهدة، وفي أن كلا منهما قد يحصل المقصود الأصلي لصاحبه أو لا.
فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا.
والمجاهد لالتماس الشهادة مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا.
ويشير إلى ذلك تمنيه - صلى الله عليه وسلم - الشهادة بقوله: " ولوددت أني أقتل في سبيل الله".
فذكر المؤلف فضل الجهاد لذلك استطرادا، ثم عاد إلى ذكر قيام رمضان، وهو بالنسبة لقيام ليلة القدر عام بعد خاص، ثم ذكر بعده باب الصيام لأن الصيام من التروك فأخره عن القيام لأنه من الأفعال، ولأن الليل قبل النهار، ولعله أشار إلى أن القيام مشروع في أول ليلة من الشهر خلافا لبعضهم. (1/93)
الحديث:
-36- حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ - لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي - أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.
وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ."
الشرح:
قوله: (حدثنا حرمي) هو اسم بلفظ النسبة، وهو بصري يكنى أبا علي، قال: حدثنا عبد الواحد هو ابن زياد البصري العبدي ويقال له: الثقفي، وهو ثقة متقن.
قال ابن القطان: لم يعتل عليه بقادح.
وفي طبقته عبد الواحد بن زيد بصري أيضا، لكنه ضعيف ولم يخرج عنه في الصحيحين شيء.
قوله: (حدثنا عمارة) هو ابن القعقاع بن شبرمة الضبي.
قوله: (انتدب الله) هو بالنون أي: سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل بمعنى: أجاب إلى المراد، ففي الصحاح ندبت فلانا لكذا فانتدب أي: أجاب إليه، وقيل معناه: تكفل بالمطلوب، ويدل عليه رواية المؤلف في أواخر الجهاد لهذا الحديث من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: " تكفل الله " وله في أوائل الجهاد من طريق سعيد بن المسيب عنه بلفظ: " توكل الله " وسيأتي الكلام عليها وعلى رواية مسلم هناك إن شاء الله تعالى.
ووقع في رواية الأصيلي هنا: " ائتدب " بياء تحتانية مهموزة بدل النون من المأدبة، وهو تصحيف، وقد وجهوه بتكلف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المخرج كاف في تخطئته.
قوله: (لا يخرجه إلا إيمان بي) كذا هو بالرفع على أنه فاعل يخرج، والاستثناء مفرغ.
وفي رواية مسلم والإسماعيلي: " إلا إيمانا " بالنصب، قال النووي: هو مفعول له، وتقديره: لا يخرجه المخرج إلا الإيمان والتصديق.
قوله: (وتصديق برسلي) ذكره الكرماني بلفظ: " أو تصديق " ثم استشكله وتكلف الجواب عنه، والصواب أسهل من ذلك، لأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ " أو " وقوله " بي " فيه عدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، فهو التفات.
وقال ابن مالك: كان اللائق في الظاهر هنا إيمان به، ولكنه على تقدير اسم فاعل من القول منصوب على الحال، أي: انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلا: لا يخرجه إلا إيمان بي، ولا يخرجه مقول القول لأن صاحب الحال على هذا التقدير هو الله.
وتعقبه شهاب الدين بن المرحل بأن حذف الحال لا يجوز، وأن التعبير باللائق هنا غير لائق، فالأولى أنه من باب الالتفات، وهو متجه، وسيأتي في أثناء فرض الخمس من طريق الأعرج بلفظ: " لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته".
(تنبيه) : جاء في هذا الحديث من طريق أبي زرعة هذه مشتملا على أمور ثلاثة، وقد اختصر المؤلف من سياقه أكثر الأمر الثاني، وساقه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق عبد الواحد بن زياد المذكور بتمامه، وكذا هو عند مسلم في هذا الحديث من وجه آخر عن عمارة بن القعقاع، وجاء الحديث مفرقا من رواية الأعرج وغيره عن أبي هريرة كما سيأتي عند المؤلف في كتاب الجهاد، وهناك يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
*3*27 بَاب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ الْإِيمَانِ حذف التشكيل
الحديث:
-37- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ."
الشرح:
وقد تقدمت الإشارة إلى أن الكلام على قيام رمضان، وباب صيام رمضان يأتي في كتاب الصيام.
*3*28 بَاب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنْ الْإِيمَانِ حذف التشكيل
الحديث:
-38- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ."
الشرح:
تقدمت الإشارة إلى أن الكلام على قيام رمضان، وباب صيام رمضان يأتي في كتاب الصيام.
*3*29 باب الدِّينُ يُسْرٌ حذف التشكيل
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ."
الشرح:
قوله: (باب الدين يسر) ، أي: دين الإسلام ذو يسر، أو سمى الدين يسرا، مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم.
ومن أوضح الأمثلة له: أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم.
قوله: (أحب الدين) أي: خصال الدين، لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحا - أي سهلا - فهو أحب إلى الله. (1/94)
ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خير دينكم أيسره".
أو الدين جنس، أي: أحب الأديان إلى الله الحنيفية.
والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ.
والحنيفية ملة إبراهيم، والحنيف في اللغة: من كان على ملة إبراهيم، وسمى إبراهيم حنيفا لميله عن الباطل إلى الحق لأن أصل الحنف الميل.
والسمحة: السهلة، أي: أنها مبنية على السهولة، لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم) وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب، لأنه ليس على شرطه.
نعم وصله في كتاب الأدب المفرد، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده حسن.
استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصرا عن شرطه، وقواه بما دل على معناه لتناسب السهولة واليسر.
الحديث:
-39- حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ."
الشرح:
قوله: (حدثنا عبد السلام بن مطهر) أي: ابن حسام البصري، وكنيته أبو ظفر بالمعجمة والفاء المفتوحتين. قوله: (حدثنا عمر بن علي) هو المقدمي بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة، وهو بصري ثقة، لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره.
وهذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم، وصححه - وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة - لتصريحه فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: " سمعت معن بن محمد " فذكره، وهو من إفراد معن بن محمد، وهو مدني ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد أخرجه المصنف في كتاب الرقاق بمعناه ولفظه: " سددوا وقربوا " وزاد في آخره: " والقصد القصد تبلغوا " ولم يذكر شقه الأول، وقد أشرنا إلى بعض شواهده، ومنها حديث عروة الفقيمي بضم الفاء وفتح القاف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن دين الله يسر"، ومنها حديث بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" عليكم هديا قاصدا، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه " رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن.
قوله: (ولن يشاد الدين إلا غلبه) هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عن الأصيلي بلفظ: " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم.
والدين منصوب على المفعولية وكذا في روايتنا أيضا، وأضمر الفاعل للعلم به، وحكى صاحب المطالع: أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يشاد مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب، ويجمع بين كلاميهما بأنه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد: " إنه من شاد هذا الدين يغلبه " ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب.
والمشادة بالتشديد: المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة، إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب.
قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدى إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد:
" إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة " وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. (1/95)
قوله: (فسددوا) أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل.
قوله: (وقاربوا) أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه.
قوله: (وأبشروا) أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل، والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما.
قوله: (واستعينوا بالغدوة) أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة.
والغدوة بالفتح سير أول النهار.
وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس.
والروحة بالفتح السير بعد الزوال.
والدلجة بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر الليل، وقيل سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار.
وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه، لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة.
وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة.
وقوله في رواية ابن أبي ذئب " القصد القصد " بالنصب فيهما على الإغراء، والقصد الأخذ بالأمر الأوسط.
ومناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث أنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع.
ثم عاد إلى سياق الأحاديث الدالة على أن الأعمال الصالحة معدودة من الإيمان فقال: باب الصلاة من الإيمان.