*2*كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الشرح:
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها) كذا للجميع، إلا للكشميهني وابن شبويه فقالا: " فيها " بدل " عليها".
وأخر النسفي البسملة.
والهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة تطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية وهي ما يكرم به الموهوب له.
ومن خصها بالحياة أخرج الوصية وهي تكون أيضا بالأنواع الثلاثة.
وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض، وصنيع المصنف محمول على المعنى الأعم لأنه أدخل فيها الهدايا.
*3* باب حذف التشكيل
الحديث:
حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ
الشرح:
قوله: (عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة) كذا للأكثر وسقط " عن أبيه " من رواية الأصيلي وكريمة، وضبب عليه في رواية النسفي، والصواب إثباته.
وكذا أخرجه الإسماعيلي عن محمد بن يحيى، وأبو نعيم من طريق إسماعيل القاضي، وأبو عوانة عن إبراهيم الحربي كلهم عن عاصم بن علي شيخ البخاري فيه.
ومن طريق شبابة وعثمان بن عمرو بن المبارك عند الإسماعيلي، وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " عن آدم كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك، وكذلك رواه الليث عن سعيد كما سيأتي في كتاب الأدب، وأخرجه الترمذي من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة لم يقل " عن أبيه " وزاد في أوله " تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر " الحديث.
وقال غريب، وأبو معشر يضعف.
وقال الطرقي إنه أخطأ فيه حيث لم يقل فيه " عن أبيه " كذا قال وقد تابعه محمد بن عجلان عن سعيد، وأخرجه أبو عوانة.
نعم من زاد فيه " عن أبيه " أحفظ وأضبط فروايتهم أولى.
والله أعلم.
قوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية عثمان بن عمر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول".
قوله: (يا نساء المسلمات) قال عياض: الأصح الأشهر نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة، وهي رواية المشارقة من إضافة الشيء إلى صفته كمسجد الجامع، وهو عند الكوفيين على ظاهره، وعند البصريين يقدرون فيه محذوفا.
وقال السهيلي وغيره: جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفرد، ويجوز في المسلمات الرفع صفة على اللفظ على معنى يا أيها النساء المسلمات، والنصب صفة على الموضع، وكسرة التاء علامة النصب، وروي ينصب الهمزة على أنه منادى مضاف وكسرة التاء للخفض بالإضافة كقولهم مسجد الجامع، وهو مما أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في اللفظ، فالبصريون يتأولونه على حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه نحو يا نساء الأنفس المسلمات أو يا نساء الطوائف المؤمنات أي لا الكافرات، وقيل تقديره يا فاضلات المسلمات كما يقال هؤلاء رجال القوم أي أفاضلهم، والكوفيون يدعون أن لا حذف فيه ويكتفون باختلاف الألفاظ في المغايرة.
وقال ابن رشيد: توجيهه أنه خاطب نساء بأعيانهن فأقبل بندائه عليهن فصحت الإضافة على معنى المدح لهن، فالمعنى يا خيرات المؤمنات كما يقال رجال القوم، وتعقب بأنه لم يخصصهن به لأن غيرهن يشاركهن في الحكم، وأجيب بأنهما يشاركنهن بطريق الإلحاق، وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة، ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلا وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار.
وقال ابن بطال: يمكن تخريج يا نساء المسلمات على تقدير بعيد وهو أن يجعل نعتا لشيء محذوف كأنه قال يا نساء الأنفس المسلمات، والمراد بالأنفس الرجال، ووجه بعده أنه يصير مدحا للرجال وهو صلى الله عليه وسلم إنما خاطب النساء، قال إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معا، وأطال في ذلك، وتعقبه ابن المنير.
وقد رواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ " يا نساء المؤمنين " الحديث.
قوله: (جارة لجارتها) كذا للأكثر، ولأبي ذر " لجارة " والمتعلق محذوف تقديره هدية مهداة.
قوله: (فرسن) بكسر الفاء والمهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون هو عظيم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس، ويطلق على الشاة مجازا، ونونه زائدة وقيل أصلية، وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بإهدائه أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلا فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها وأنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلا، وحمله على الأعم من ذلك أولى.
وفي حديث عائشة المذكور " يا نساء المؤمنين تهادوا ولو فرسن شاة، فإنه ينبت المودة ويذهب الضغائن " وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرا.
وفيه استحباب المودة وإسقاط التكلف.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا
الشرح:
قوله: (ابن أبي حازم) هو عبد العزيز.
قوله: (يزيد بن رومان) بضم الراء، ورجال الإسناد كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق أولهم أبو حازم وهو سلمة بن دينار.
قوله: (ابن أختي) بالنصب على النداء وأداة النداء محذوفة، ووقع في رواية مسلم عن يحيى بن يحيى عن عبد العزيز " والله يا ابن أختي".
قوله: (إن كنا لننظر) هي المخففة من الثقيلة وضميرها مستتر ولذا دخلت اللام في الخبر.
قوله: (ثلاثة أهلة) يجوز في ثلاثة الجر والنصب.
قوله: (في شهرين) هو باعتبار رؤية الهلال أول الشهر ثم رؤيته ثانيا في أول الشهر الثاني ثم رؤيته ثالثا في أول الشهر الثالث فالمدة ستون يوما والمرئي ثلاثة أهلة، وسيأتي في الرقاق من طريق هشام بن عروة عن أبيه بلفظ " كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا " وفي رواية يزيد بن رومان هذه زيادة عليه ولا منافاة بينهما، وقد أخرجه ابن ماجة من طريق أبي سلمة عن عائشة بلفظ " لقد كان يأتي على آل محمد الشهر ما يرى في بيت من بيوته الدخان".
قوله: (ما يعيشكم) بضم أوله يقال أعاشه الله عيشة، وضبطه النووي بتشديد الياء التحتانية، وفي بعض النسخ " ما يغنيكم " بسكون المعجمة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة.
وفي رواية أبي سلمة عن عائشة " قلت فما كان طعامكم".
قوله: (الأسودان التمر والماء) هو على التغليب وإلا فالماء لا لون له؛ ولذلك قالوا الأبيضان اللبن والماء، وإنما أطلقت على التمر الأسود لأنه غالب تمر المدينة، وزعم صاحب " المحكم " وارتضاه بعض الشراح المتأخرين أن تفسير الأسودين بالتمر والماء مدرج، وإنما أرادت الحرة والليل، واستدل بأن وجود التمر والماء يقتضي وصفهم بالسعة، وسياقها يقتضي وصفهم بالضيق، وكأنها بالغت في وصف حالهم بالشدة حتى إنه لم يكن عندهم إلا الليل والحرة ا هـ.
وما ادعاه ليس بطائل، والإدراج لا يثبت بالتوهم، وقد أشار إلى أن مستنده في ذلك أن بعضهم دعا قوما وقال لهم: ما عندي إلا الأسودان فرضوا بذلك، فقال: ما أردت إلا الحرة والليل.
وهذا حجة عليه لأن القوم فهموا التمر والماء وهو الأصل، وأراد هو المزح معهم فألغز لهم بذلك، وقد تظاهرت الأخبار بالتفسير المذكور، ولا شك أن أمر العيش نسبي، ومن لا يجد إلا التمر أضيق حالا ممن يجد الخبز مثلا، ومن لم يجد إلا الخبز أضيق حالا ممن يجد اللحم مثلا، وهذا أمر لا يدفعه الحس، وهو الذي أرادت عائشة؛ وسيأتي في الرقاق من طريق هشام عن عروة عن أبيه عنها بلفظ " وما هو إلا التمر والماء " وهو أصرح في المقصود لا يقبل الحمل على الإدراج.
قوله: (جيران) بكسر الجيم زاد الإسماعيلي من طريق محمد بن الصباح عن عبد العزيز " نعم الجيران كانوا " وفي رواية أبي سلمة " جيران صدق " وسيأتي بعد ستة أبواب الإشارة إلى أسمائهم.
قوله: (منائح) بنون ومهملة جمع منيحة وهي كعطية لفظا ومعنى، وأصلها عطية الناقة أو الشاة ويقال: لا يقال منيحة إلا للناقة وتستعار للشاة كما تقدم في الفرسن سواء، قال إبراهيم الحربي وغيره: يقولون منحتك الناقة وأعرتك النخلة وأعمرتك الدار وأخدمتك العبد وكل ذلك هبة منافع، وقد تطلق المنيحة على هبة الرقبة، ويأتي مزيد لذلك بعد أبواب.
وقوله: " يمنحون " بفتح أوله وثالثه، ويجوز ضم أوله وكسر ثالثه أي يجعلونها له منحة.
قوله: (فيسقيناه) في رواية الإسماعيلي " فيسقينا منه " وفي هذا الحديث ما كان فيه الصحابة من التقلل من الدنيا في أول الأمر.
وفيه فضل الزهد، وإيثار الواجد للمعدم، والاشتراك فيما في الأيدي.
وفيه جواز ذكر المرء ما كان فيه من الضيق بعد أن يوسع الله عليه تذكيرا بنعمه وليتأسى به غيره.