*3* باب ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ حذف التشكيل
لِقَوْلِهِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي إِلَى قَوْلِهِ عَمَّا يَعْمَلُونَ بَخْسًا نَقْصًا قَالَ مُجَاهِدٌ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَأُمَّهَاتُهُنَّ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ قَالَ اللَّهُ وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سَتُحْضَرُ لِلْحِسَابِ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ عِنْدَ الْحِسَابِ
الشرح:
قوله: (باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم) أشار بهذه الترجمة إلى إثبات وجود الجن وإلى كونهم مكلفين، فأما إثبات وجودهم فقد نقل إمام الحرمين في " الشامل " عن كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنهم أنكروا وجودهم رأسا، قال: ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين، إنما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة، قال: وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم.
قال وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم ولو شاءوا لأبدوا أنفسهم، قال: وإنما يستبعد ذلك من لم يحط علما بعجائب المقدورات.
وقال القاضي أبو بكر: وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم وينفونه الآن، ومنهم من يثبتهم وينفي تسلطهم على الإنس.
وقال عبد الجبار المعتزلي: الدليل على إثباتهم السمع دون العقل، إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق، ولو كان إثباتهم باضطرار لما وقع الاختلاف فيه، إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتدين بإثباتهم، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده.
وإذا ثبت وجودهم فقد تقدم في أوائل صفة النار تفسير قوله تعالى: (وخلق الجان من مارج من نار) واختلف في صفتهم فقال القاضي أبو بكر الباقلاني قال بعض المعتزلة: الجن أجساد رقيقة بسيطة، قال: وهذا عندنا غير ممتنع إن ثبت به سمع.
وقال أبو يعلى بن الفراء: الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها.
وهو مردود، فإن الرقة ليس بمانعة عن الرؤية.
ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها.
وروى البيهقي في " مناقب الشافعي " بإسناده عن الربيع سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبيا.
انتهى.
وهذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يري شيئا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه، وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور، واختلف أهل الكلام في ذلك فقيل: هو تخييل فقط ولا ينتفل أحد عن صورته الأصلية، وقيل بل ينتقلون لكن لا باقتدارهم على ذلك بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر وهذا قد يرجع إلى الأول، وفيه أثر عن عمر أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح " أن الغيلان ذكروا عند عمر فقال: إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلفه الله عليها، ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك فأذنوا " وإذا ثبت وجودهم فقد اختلف في أصلهم فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافرا سمي شيطانا، وقيل: إن الشياطين خاصة أولاد إبليس ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عباس الآتي في تفسير سورة الجن يقوي أنهم نوع واحد من أصل واحد، واختلف صنفه فمن كان كافرا سمي شيطانا وإلا قيل له جني، وأما كونهم مكلفين فقال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون.
وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافا بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكى زرقان عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا بمكلفين، قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر وارتكب النهي مع تمكنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدا، وإذا تقرر كونهم مكلفين فقد اختلفوا هل كان فيهم نبي منهم أم لا؟ فروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، قال: ومن قال بقول الضحاك احتج بأن الله تعالى أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه وهو فاسد انتهى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم، ورسل الجن بثهم الله في الأرض فسمعوا كلام الرسل من الإنس وبلغوا قومهم، ولهذا قال قائلهم (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) الآية، واحتج ابن حزم بأنه صلى الله عليه وسلم قال: " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه " قال وليس الجن من قوم الإنس، فثبت أنه كان منهم أنبياء إليهم، قال: ولم يبعث إلى الجن من الإنس نبي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم لعموم بعثته إلى الجن والإنس باتفاق انتهى.
وقال ابن عبد البر: " لا يختلفون أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن " وهذا مما فضل به على الأنبياء، ونقل عن ابن عباس في قوله تعالى في سورة غافر (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) قال: هو رسول الجن، وهذا ذكره.
وقال إمام الحرمين في " الإرشاد " في أثناء الكلام مع العيسوية: وقد علمنا ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم دعى كونه مبعوثا إلى الثقلين.
وقال ابن تيمية: اتفق على ذلك علماء السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وثبت التصريح بذلك في حديث " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه وبعثت إلى الإنس والجن " فيما أخرجه البزار بلفظ.
وعن ابن الكلبي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى الإنس فقط، وبعث محمد إلى الإنس والجن وإذا تقرر كونهم مكلفين فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام، وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه لما ثبت من النهي عن الروث والعظم وأنهما زاد الجن، وسيأتي في السيرة النبوية حديث أبي هريرة وفي آخره " فقلت ما بال الروث والعظم؟ قال: هما طعام الجن " الحديث، فدل على جواز تناولهم للروث وذلك حرام علف الإنس، وكذلك روى أحمد والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: " خرج رجل من خيبر فتبعه رجلان آخر يتلوهما يقول ارجعا حتى ردهما، ثم لحقه فقال له إن هذين شيطانان فإذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرأ عليه السلام وأخبره أنا في جمع صدقاتنا، ولو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه.
فلما قدم الرجل المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنهى عن الخلوة، أي السفر منفردا " واختلف أيضا هل يأكلون ويشربون ويتناكحون أم لا؟ فقيل بالنفي وقيل بمقابله، ثم اختلفوا فقيل أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لا مضغ ولا بلع، وهو مردود بما رواه أبو داود من حديث أمية بن مخشى قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يأكل ولم يسم ثم سمي في آخره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمي استقاء ما في بطنه وروى مسلم من حديث ابن عمر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكلن أحدكم بشماله ويشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " وروى ابن عبد البر عن وهب بن منبه أن الجن أصناف فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون، وجنس منهم يقع منهم ذلك ومنهم السعالي والغول والقطرب، وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين الأولين، ويؤيده ما روى ابن حبان والحاكم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وعقارب وصنف يحلون ويظعنون " وروى ابن أبي الدنيا من حديث أبي الدرداء مرفوعا نحوه لكن قال في الثالث: " وصنف عليهم الحساب والعقاب " وسيأتي شيء من هذا في الباب الذي يليه، وروى ابن أبي الدنيا من طريق يزيد بن يزيد بن جابر أحد ثقات الشاميين من صغار التابعين قال.
ما من أهل بيت إلا وفي سقف بيتهم من الجن، وإذا وضع الغداء نزلوا فتغدوا معهم والعشاء كذلك.
واستدل من قال بأنهم يتناكحون بقوله تعالى: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) وبقوله تعالى: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) والدلالة من ذلك ظاهرة.
واعتل من أنكر ذلك بأن الله تعالى أخبر أن الجان خلق من نار، وفي النار من اليبوسة والخفة ما يمنع معه التوالد.
والجواب أن أصلهم من النار كما أن أصل الآدمي من التراب، وكما أن الآدمي ليس طينا حقيقة كذلك الجني ليس نارا حقيقة، وقد وقع في الصحيح في قصة تعرض الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فأخذته فخنقته حتى وجدت برد ريقه على يدي " قلت: وبهذا الجواب يندفع إيراد من استشكل قوله تعالى: (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) فقال كيف تحرق النار النار؟ وأما قول المصنف: " وثوابهم وعقابهم " فلم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون علي المعاصي، واختلف هل يثابون؟ فروى الطبري وابن أبي حاتم من طريق أبي الزناد موقوفا.
قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال الله لمؤمن الجن وسائر الأمم أي من غير الإنس: كونوا ترابا، فحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا " وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا وروى عن أبي حنيفة نحو هذا القول.
وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم، ثم اختلفوا هل يدخلون مدخل الإنس؟ على أربعة أقوال: أحدها: نعم، وهو قوله الأكثر، وثانيها: يكونون في ربض الجنة وهو منقول عن مالك وطائفة، وثالثها: أنهم أصحاب الأعراف، ورابعها: التوقف عن الجواب في هذا.
وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي يوسف قال: قال ابن أبي ليلى في هذا لهم ثواب، قال: فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا) قلت: وإلى هذا أشار المصنف بقوله قبلها (يا معشر الجن ألم يأتكم رسل منكم) فإن قوله: (ولكل درجات مما عملوا) يلي الآية التي بعد هذه الآية، واستدل بهذه الآية أيضا ابن عبد الحكم.
واستدل ابن وهب بمثل ذلك بقوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) الآية، فإن الآية بعدها أيضا: (ولكل درجات مما عملوا) وروى أبو الشيخ في تفسيره عن مغيث بن سمي أحد التابعين قال: ما من شيء إلا وهو يسمع زفير جهنم إلا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب.
ونقل عن مالك أنه استدل على أن عليهم العقاب ولهم الثواب بقوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ثم قال: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) والخطاب للإنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب والله أعلم.
قوله: (بخسا نقصانا) يريد تفسير قوله تعالى: حكاية عن الجن (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) قال يحيى الفراء: البخس النقص، والرهق الظلم، ومفهوم الآية أن من يكفر فإنه يخاف، فدل ذلك على ثبوت تكليفهم قوله: (وقال مجاهد: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا إلخ) وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به وفيه: " فقال أبو بكر: ممن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سروات الجن إلخ " وفيه: " قال علمت الجن أنهم سيحضرون للحساب " قلت: وهذا الكلام الأخير هو المتعلق بالترجمة، وسروات بفتح المهملة والراء جمع سرية بتخفيف الراء أي شريفة، ووقع هنا في رواية أبي ذر " وأمهاتهن " ولغيره " وأمهاتهم " وهو أصوب، ووقع أيضا لغير الكشميهني (جند محضرون) بالأفراد وروايته أشبه.
قوله: (جند محضرون عند الحساب) وصله الفريابي أيضا بالإسناد المذكور عن مجاهد.
ثم ذكر المصنف حديث أبي سعيد " لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له " وقد تقدم مشروحا في كتاب الأذان، والغرض منه هنا أنه يدل على أن الجن يحشرون يوم القيامة، والله أعلم.
*3* باب قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ إِلَى قَوْلِهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ حذف التشكيل
مَصْرِفًا مَعْدِلًا صَرَفْنَا أَيْ وَجَّهْنَا
الشرح:
قوله: (باب قوله عز وجل: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن - إلى قوله - أولئك في ضلال مبين) سيأتي القول في تعيينهم وتعيين بلدهم في التفسير إن شاء الله تعالى، قوله: (صرفنا أي وجهنا) هو تفسير المصنف، وقوله: (مصرفا معدلا) هو تفسير أبي عبيدة، واستشهد بقول أبي كبير بالموحدة الهذلي: أزهير هل عن ميتة من مصرف أم لا خلود لباذل متكلف (تنبيه) :: لم يذكر المصنف في هذا الباب حديثا، واللائق به حديث ابن عباس الذي تقدم في صفة الصلاة في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عكاظ واستماع الجن لقراءته، وسيأتي شرحه بتمامه في التفسير إن شاء الله تعالى.
وقد أشار إليه المصنف بالآية التي صدر بها هذا الباب.