الموقف الفقهي من الطب النبوي
يشمل مفهومنا للطب النبوي أبواباً كثيرة كما ذكرنا ومن أهمها الفوائد الصحية للوضوء والاستنجاء والصلاة والصيام.. إلخ. وهذه كلها تندرج في أبواب أخرى من كتب الأحاديث أو الفقه، وبالتالي لا تدخل عند من كتب من الفقهاء والمحدثين والأطباء في موضوع الطب النبوي. وهي لا شك من أساسيات الدين الإسلامي، وفيها فروض ومندوبات، كما أن هناك مباحات ومحرمات ومكروهات.. وكلها تندرج تحت باب من أبواب الفقه الواسع، ولكن أغلب العلماء والفقهاء والمحدثين عندما تحدثوا عن الطب النبوي اقتصروا على الطب النبوي العلاجي فقط. وانقسموا إلى فريقين:
الأول: يرى أن كل ما صح عن النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو وحي يوحى، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينطق عن الهوى. ويرون أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدين، فإن حصل منه خطأ صححه الوحي، وممن ذهب إلى ذلك الإمام ابن القيم في كتابه الطب النبوي، والإمام الذهبي كذلك في كتابه الطب النبوي، ومنهم السبكي والمحلي والبناني وغيرهم.
الثاني: يرى أن أمر النبوة والعصمة مقصورة على أمور الدين وإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبعث ليعلمنا تفاصيل أمور الدنيا، ويذكرون في ذلك حديث تأبير النخل، عندما أشار ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدم تأبيره فأثمر شيصاً (ثمراً رديئاً) فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وهو حديث صحيح. وبالتالي فلا يحمل أي شيء من الطب على الوحي، وما جاء عنه إنما يعبر عن معلوماته الشخصية ومعلومات عصره، وقد يخطئ في ذلك، وليس هو بمعصوم في الباب وقد يعرف غيره في الطب أكثر مما يعرف هو، فهو ليس بطبيب، ولم يبعث لمداواة الأجسام بل لإقامة الدين والعقيدة والشريعة.
وفي حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار). (أخرجه البخاري في صحيحه). وفي حديث ابن عباس قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب). (الشفاء للقاضي عياض ج2/201).
ومن ذلك ما ذكره ابن اسحاق في سيرته في سياق غزوة بدر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل منزلاً فقال له الحباب بن المنذر: يارسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يارسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حرصاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشرت بالرأي (سيرة ابن هشام ج2/200).
وممن قال بهذا القول القاضي عبدالجبار، وابن خلدون، والقاضي عياض، وولي الله الدهلوي، ومن المعاصرين الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب (تاريخ المذاهب الإسلامية)، والشيخ عبدالوهاب خلاف، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ عبدالجليل عيسى.. إلخ. وقد قام الشيخ الدكتور محمد سليمان الأشقر باستعراض مختلف الأقوال في بحثه القيم (مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية) المقدم لمؤتمر الطب الإسلامي الرابع المنعقد في إسلام أباد في باكستان وإصدار المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت (ربيع الأول 1407هـ الموافق نوفمبر 1986م) (ج4/109 ـ 132). وانتهى الباحث إلى تقسيم الأحاديث الواردة في الطب إلى الأقسام التالية