ضرب شعب الجزائر المثل الحي على استمرار الثورة والمقاومة في كل الظروف، فبرغم هزيمة كل من الحاج أحمد باي قسنطنية والأمير عبد القادر الجزائري اللذين حملا لواء المقاومة من 1830، وحتى عام 1847، وبرغم عمليات الأبادة والتبشير والتجويع التي تعرض لها الشعب الجزائري على يد الاستعمار الفرنسي، فإن جذوة الثورة لم تخمد، وما كان لها أن تخمــد. ففي عام 1851، وفي منطقة سور الغزلان اندلعت المقاومة بقيادة محمد بن عبد المالك، وهو معلم قرآن، وانضم اليه الحاج عمر شيخ زاوية محمد بن عبد الرحمن التي امتدت حركته إلى معظم مناطق جبال جرجرة والبيان والبابور وحوض الصومام، وحدثت مجموعة من الصدامات بين تلك العناصر المقاومة وبين سلطات الاحتلال الفرنسي منذ عام 1851، و حتى عام 1854، الذي انتهت فيه حركة محمد بن عبد المالك.
واستمرت المقاومة في " ذراع الميزان " بقيادة الحاج عمرو " الإخوان الرحمانيون " حتى عام 1856، وفي عام 1857 خاض المجاهدون عددًا من المعارك مع القوات الفرنسية مثل معركة " أبشر يضمن " التي وقعت في 24 يونيو سنة 1857، ولم تنته تلك الثورة إلا بعد القبض على الحاج عمر يوم 7 يوليو سنة 1857 م.
وفي جبل " أحمد خدون في الاوراس " اندلعت ثورة 1849 ثم اشتعلت مرة أخري في 1858 ـ 1859 م بقيادة " سي الصادق بن الحاج " وفي منطقة الحضنة اندلعت المقاومة بقيادة محمد بوخنتاش سنة 1860 وانضم إليه سي العربي وسي أحمد باي وامتدت تلك الحركة إلى المناطق الشمالية وإلى سطيف، وفى سنة 1864 م اندلعت المقاومة في الجنوب الوهراني بقيادة أولاد سيدي الشيخ، ثم اندلعت مرة أخري في 1870 م.
وفي بلدة زمورة اندلعت الثورة سنة 1859 بقيادة ابن خدومة، ثم أخذت تتصاعد أعمال المقاومة في تلك البلدة. وفي منطقة المليلة وتبسه اندلعت ثورة عبدون 1871، وثورة أولاد خليفة في نفس الوقت. وفي هذا العام 1871 وصلت الجزائر إلى محطة الثورة الشاملة التي قادها كل من المقراني والحداد والمعروفة بثورة 1871م.
المقراني والحداد وبو مزراق
محمد المقراني هو آخر زعماء عائلة المقرانى، التي يصل نسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وقد حملت الأسرة لواء الجهاد ضد الفرنسيين مع أحمد باي قسنطينة،وبعد ذلك وصلت زعامة الأسرة إلى محمد المقراني الذي تمرد على الفرنسيين بدءًا من عام 1870م، ثم أصبح رمزًا لثورة 1871 ضد الفرنسيين، أما الشيخ الحداد الزعيم الثاني للثورة " 1871 " فهو الشيخ محمد أفربان بن على الحداد أحد زعماء الطريقة الرحمانية " الإخوان المسلمون الرحمانيون "، وقد كان للرحمانيين دور هام في ثورة الأمير عبد القادر وثورة الشريف بونبلة الذي قادها الحاج عمر مقدم الرحمانيين وزوج لالا فاطمة التي شاركت معه في قيادة الثورة إلى أن تم اعتقالها.
وبعد ذلك وصلت قيادة الرحمانيين إلى محمد أفربان الحداد الذي ولد سنة 1793، وتلقي تعليمه في زاوية الشيخ ابن عراب في قرية " آيت ابراثن بجبال جرجرة "، وبعد أن أتم الحداد تعليمه عاد إلى منطقة " صدون " وقام بتعليم الدين والوعظ والإرشاد وتكاثر الطلاب حوله في الزاوية التي أنشأها، وكان أتباعه من الطبقة الشعبية الفقيرة، وعندما أشعل محمد المقراني ثورته في " مجانة " سنة 1871 تجاوب معه الحداد وأعلن الثورة في جبال البابور وحوض الصومام وجبال جرجرة وحوض الحصنة.
أما بومزراق فهو ثالث رموز هذه الثورة، وهو شقيق محمد المقرانى، وقد شارك في الثورة في منطقة سور الغزلان وعرنوعة، وعندما أستشهد محمد المقراني استمر بومزراق في مقاومته للاحتلال الفرنسي إلى أن سقط أسيرًا في 20 يناير سنة 1872 م .
أحداث ثورة (1871 م)
بدأت أحداث ثورة 1871 بتجمع قوات الحاج محمد المقراني في مجانة يوم 15 مارس سنة 1871، وجاء المجاهدون من كل صوب للمشاركة في تلك الثورة فبلغ عدد المقاتلين 6 آلاف مجاهد يوم 16 مارس 1871 أي بعد يوم واحد من إعلان الثورة، وسار المقراني بقواته إلى البرج فانضم إليهم الجزائريون العاملون ضمن قوات الحرس الفرنسي.
وفرض المقراني الحصار على المدينة لمدة أربعة أيام ثم أتجه بقواته إلى جبال مرسبان شمال شرق " مجانة " وهناك انضم إليه الشيخ الحداد وأتباعه، وخاض المجاهدون، معركة كبيرة في " ساقية الرحي " مع القوات الفرنسية التي جاءت للقضاء على الثورة، وبعد تلك المعركة أنضم عدد آخر من القبائل إلى الثورة فقام أولاد تبان والأربعاء وريفة بقيادة محمد بن عدة بالهجوم على المستوطنات الفرنسية في منطقة العلمة، وألحقت الهزيمة بمفززة فرنسية في عين تاغروط، وفي 20 أبريل 1871 أعترض الثوار سبيل القوات الفرنسية التي غادرت البرج متجهة إلى سطيف، ثم خاض الثوار عددًا من المعارك الناجحة ضد القوات الفرنسية في جبال طافات مثنية مقسم والعيون، ثم أصطدم المقراني بقواته مع الفرنسيين في منطقة وادي الرخام في 5 مايو 1871 م وأستشهد في تلك المعركة بعد 51 يومًا من القتال الضاري المتواصل .
واصل الإخوان الرحمانيون الثورة بقيادة الشيخ محمد الحداد، وكان الاخوان الرحمانيون قد شرعوا للإعداد للثورة قبل ذلك أي في بداية 1871، ففي يناير 1871 وجه الشيخ الحداد نداء إلى الشعب الجزائري يطالبه بالجهاد، وتلقي الإخوان الرحمانيون نداء شيخهم " محمد الحداد " وأسرعوا لحمل السلاح واندلع لهيب الثورة في كل مكان في الجزائر بفضل التنظيم الدقيق للأخوان الرحمانيين واعتمادهم على الطبقات الشعبية وانتشار مراكزهم العلمية في كل مكان، فجر الإخوان الرحمانيون الثورة في منطقة القبائل الكبرى وحتى الحدود الشرقية للجزائر، وبلغ عدد الثائرين 600 ألف مقاتل وأمكن ضم 250 قبيلة مما أعطاها طابع الثورة الشاملة واستمرت تلك الثورة متأججة على موجات قتالية عاما كاملا، كانت المساجد والزاويا خلاله هي قلاع الثورة وقواعد الصمود، وقد خاض الرحمانيون خلال هذا العام عددًا من المعارك الهامة في وادي الصومام وتيرياهنت وبو شامة وتيزي وجبل طافات والبابور والعلمة والودية وعين عبيسة وثنية الماجن وعين الكحلة وعموشه ووادي البرد وثنية الغنم وقرية كاسة والحمام وغيرها من المعارك التي أبلي فيها الرحمانيون بلاء حسنا وسقط منهم الكثير من الشهداء، ويمكننا أن ندرك مدي اتساع وقوة هذه الثورة إذا علمنا أن القوات البرية الفرنسية لم تكن قادرة على قمع الثورة، وأنها استعانت بنيران البحرية الفرنسية من البحر، وخاصة البوارج الحربية، وقد اعتقل الشيخ الحداد ثم حوكم واعدم بعد ذلــك.
وبعد استشهاد محمد المقراني واعتقال محمد الحداد واصل أحمد بومزراق شقيق المقراني ثورته التي كان قد بدأها في منطقة سور الغزلان ونوغه، ودخل في عدد كبير من المعارك مع القوات الفرنسية في برج الأصنام وجبل موقرنين وأولاد زيان، ولما علم بأستشهاد اخيه قرر الاستمرار في الجهاد ونسق مع الشيخ الحداد في حصار بجايه ثم الهجوم عليها، ثم عاد إلى جبل البابور وأشترك في المعارك الدائرة هناك ضد الفرنسيين، وبعد اعتقال الشيخ الحداد وانتكاس الثورة، استمر بومزراق يتابع جهاده وأشتبك مع القوات الفرنسية في معركة " يوم تاخراط " في 20 يوليو 1871، ثم في سهل مجانه يوم 26 أغسطس 1871، ثم في عجيبة وقبوس يوم 9 سبتمبر وأولاد إبراهيم يوم 25 سبتمبر واستمر بومزراق في القتال إلى أن سقط أسيرًا في 20 يناير 1872.
وبالإضافة إلى المقراني والحداد وبومزراق هناك أيضًا السيد بن بودا ودو الذي قاد الثورة في جبل االحضنة وبو سعادة وسي عزيز نجلي الشيخ الحداد اللذين واصلا قيادة المجاهدين بعد اعتقال الشيخ، وكذلك بو شوشة الذي أعلن الثورة في الشمال