*3* باب الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ حذف التشكيل
الشرح:
قوله (باب الإبراد بالظهر في شدة الحر) قدم المصنف باب الإبراد على باب وقت الظهر لأن لفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزوال لا قبله، إذ وقت الإبراد هو ما إذا انحطت قوة الوهج من حر الظهيرة، فكأنه أشار إلى أول وقت الظهر.
أو أشار إلى حديث جابر بن سمرة قال " كان بلال يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس " أي مالت.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ حَدَّثَنَا الْأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ
الشرح:
قوله (حدثنا أيوب) هو ابن سليمان بن بلال كما في رواية أبي ذر، وأبو بكر هو ابن أبي أويس وهو من أقران أيوب، وسليمان هو ابن بلال والد أيوب، روى أيوب عنه تارة بواسطة وتارة بلا واسطة.
قوله (حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن فيما أظن، وقد رواه أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن أيوب بن سليمان فلم يقل فيه " وغيره".
والإسناد كله مدنيون.
قوله (ونافع) هو بالرفع عطفا على الأعرج، وهو من رواية صالح بن كيسان عن نافع، وقد روى ابن ماجه من طريق عبد الرحمن الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بعضه " أبردوا بالظهر " وروى السراج من هذا الوجه بعضه " شدة الحر من فيح جهنم".
قوله (أنهما) أي أبا هريرة وابن عمر (حدثاه) أي حدثا من حدث صالح بن كيسان، ويحتمل أن يكون ضمير أنهما يعود على الأعرج ونافع، أي أن الأعرج ونافعا حدثاه أي صالح بن كيسان عن شيخيهما بذلك.
ووقع في رواية الإسماعيلي " أنهما حدثا " بغير ضمير فلا يحتاج إلى التقدير المذكور.
قوله (إذا اشتد) أصله اشتدد بوزن افتعل من الشدة ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى.
قوله (فأبردوا) بقطع الهمزة وكسر الراء، أي أخروا إلى أن يبرد الوقت.
يقال أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة، ومثله في المكان أنجد إذا دخل نجدا، وأتهم إذا دخل تهامة.
والأمر بالإبراد أمر استحباب، وقيل أمر إرشاد، وقيل بل هو للوجوب.
حكاه عياض وغيره، وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب، نعم قال جمهور أهل العلم يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، وخصه بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا قول أكثر المالكية، والشافعي أيضا لكن خصه بالبلد الحار، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كن فالأفضل في حقهم التعجيل، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر، واستدل له الترمذي بحديث أبي ذر الآتي بعد هذا لأن في روايته أنهم كانوا في سفر، وهي رواية للمصنف أيضا ستأتي قريبا، قال: فلو كان على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإبراد لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد.
قال الترمذي والأول أولى للاتباع.
وتعقبه الكرماني بأن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف وطلب الرعي فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة.
انتهى.
وأيضا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، وليس هناك كن يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعي، وغايته أنه استنبط من النص العام - وهو الأمر بالإبراد - معنى يخصصه، وذلك جائز على الأصح في الأصول، لكنه مبني على أن العلة في.
ذلك تأذيهم بالحر في طريقهم، وللمتمسك بعمومه أن يقول: العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء في جباههم حالة السجود، ويؤيده حديث أنس " كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر " رواه أبو عوانة في صحيحه بهذا اللفظ، وأصله في مسلم، وفي حديث أنس أيضا في الصحيحين نحوه وسيأتي قريبا.
والجواب عن ذلك أن العلة الأولى أظهر، فإن الإبراد لا يزيل الحر عن الأرض، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا.
وقالوا: معنى أبردوا صلوا في أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله، وهو تأويل بعيد، ويرده قوله " فإن شدة الحر من فيح جهنم " إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير، وحديث أبي ذر الآتي صريح في ذلك حيث قال " انتظر..انتظر " والحامل لهم على ذلك حديث خباب " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا " أي فلم يزل شكوانا، وهو حديث صحيح رواه مسلم.
وتمسكوا أيضا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة فتكون أفضل، والجواب عن حديث خباب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا عن وقت الإبراد وهو زوال حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت، فلذلك لم يجبهم، أو هو منسوخ بأحاديث الإبراد فإنها متأخرة عنه، واستدل له الطحاوي بحديث المغيرة بن شعبة قال " كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا أبردوا بالصلاة " الحديث، وهو حديث رجاله ثقات رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان.
ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الإبراد رخصة والتعجيل أفضل، وهو قول من قال إنه أمر إرشاد، وعكسه بعضهم فقال: الإبراد أفضل.
وحديث خباب يدل على الجواز وهو الصارف للأمر عن الوجوب.
كذا قيل وفيه نظر، لأن ظاهره المنع من التأخير.
وقيل معنى قول خباب " فلم يشكنا " أي فلم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد، حكي عن ثعلب، ويرده أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله " فلم يشكنا " وقال " إذا زالت الشمس فصلوا " وأحسن الأجوبة كما قال المازري الأول، والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص فهو مقدم، ولا التفات إلى من قال التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل، لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل كما في قصر الصلاة في السفر.
قوله (بالصلاة) كذا للأكثر، والباء للتعدية، وقيل زائدة.
ومعنى أبردوا أخروا على سبيل التضمين أي أخروا الصلاة.
وفي رواية الكشميهني " عن الصلاة " فقيل زائدة أيضا أو عن بمعنى الباء، أو هي للمجاوزة أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر، والمراد بالصلاة الظهر لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها، وقد جاء صريحا في حديث أبي سعيد كما سيأتي آخر الباب، فلهذا حمل المصنف في الترجمة المطلق على المقيد والله أعلم.
وقد حمل بعضهم الصلاة على عمومها بناء على أن المفرد المعرف يعم، فقال به أشهب في العصر.
وقال به أحمد في رواية عنه في الشتاء حيث قال: تؤخر في الصيف دون الشتاء، ولم يقل أحد به في المغرب ولا في الصبح لضيق وقتهما.
قوله (فإن شدة الحر) تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع؟ وهذا أظهر، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له " أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعة تسجر فيها جهنم " وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة ففعلها مظنة لطرد العذاب.
فكيف أمر بتركها؟ وأجاب عنه أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه، واستنبط له الزين بن المنير معنى يناسبه فقال: وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبا ودعاء فناسب الاقتصار عنها حينئذ.
واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله تعالى غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، سوى نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يعتذر بل طلب لكونه أذن له في ذلك.
ويمكن أن يقال سجر جهنم سبب فيحها وفيحها سبب وجود شدة الحر وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب أن لا يصلي فيها.
لكن يرد عليه أن سجرها مستمر في جميع السنة والإبراد مختص بشدة الحر فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب والله أعلم.
قوله (من فيح جهنم) أي من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح أي متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل هو من مجاز التشبيه، أي كأنه نار جهنم في الحر، والأول أولى.
ويؤيده الحديث الآتي: " اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين " وسيأتي البحث فيه.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فَقَالَ أَبْرِدْ أَبْرِدْ أَوْ قَالَ انْتَظِرْ انْتَظِرْ وَقَالَ شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ
الشرح:
قوله (عن المهاجر أبي الحسن) المهاجر اسم وليس بوصف والألف واللام فيه للمح الصفة كما في العباس، وسيأتي في الباب الذي بعده بغير ألف ولام.
قوله (عن أبي ذر) في رواية المصنف في صفة النار من طريق أخرى عن شعبة بهذا الإسناد " سمعت أبا ذر".
قوله (أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم) هو بلال كما سيأتي قريبا.
قوله (الظهر) بالنصب، أي أذن وقت الظهر، ورواه الإسماعيلي بلفظ " أراد أن يؤذن بالظهر " وسيأتي بلفظ للظهر وهما واضحان.
قوله (فقال أبرد) ظاهره أن الأمر بالإبراد وقع بعد تقدم الأذان منه، وسيأتي في الباب الذي بعده بلفظ فأراد أن يؤذن للظهر، وظاهره أن ذلك وقع قبل الأذان فيجمع بينهما على أنه شرع في الأذان فقيل له أبرد فترك، فمعنى أذن: شرع في الأذان، ومعنى أراد أن يؤذن: أي يتم الأذان، والله أعلم.
قوله (حتى رأينا فيء التلول) كذا وقع هنا مؤخرا عن قوله " شدة الحر الخ"، وفي غير هذه الرواية وقع ذلك عقب قوله " أبردوا " وهو أوضح في السياق لأن الغاية متعلقة بالإبراد، وسيأتي في الباب الذي بعده بقية مباحثه إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ
الشرح:
قوله (حفظناه من الزهري) في رواية الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن علي بن المديني شيخ المصنف فيه بلفظ " حدثنا الزهري".
قوله (عن سعيد بن المسيب) كذا رواه أكثر أصحاب سفيان عنه، ورواه أبو العباس السراج عن أبي قدامة عن سفيان عن الزهري عن سعيد أو أبي سلمة أحدهما أو كلاهما، ورواه أيضا من طريق شعيب ابن أبي حمزة عن الزهري عن سلمة وحده، والطريقان محفوظان، فقد رواه الليث وعمرو بن الحارث عند مسلم، ومعمر وابن جريج عند أحمد، وابن أخي الزهري وأسامة بن زيد عند السراج، ستتهم عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة.
قوله (واشتكت النار) في رواية الإسماعيلي " قال واشتكت النار " وفاعل قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالإسناد المذكور قبل، ووهم من جعله موقوفا أو معلقا.
وقد أفرده أحمد في مسنده عن سفيان، وكذلك السراج من طريق سفيان وغيره، وقد اختلف في هذه الشكوى هل هي بلسان المقال أو بلسان الحال؟ واختار كلا طائفة.
وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح.
وقال عياض: إنه الأظهر.
وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته.
قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى.
وقال النووي نحو ذلك ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب.
وقال نحو ذلك التوربشتي، ورجح البيضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها.
وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله.
قوله (بنفسين) بفتح الفاء، والنفس معروف وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء.
قوله (نفس في الشتاء ونفس في الصيف) بالجر فيهما على البدل أو البيان، ويجوز الرفع والنصب.
قوله (أشد) يجوز الكسر فيه على البدل، لكنه في روايتنا بالرفع.
قال البيضاوي: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره فذلك أشد.
وقال الطيبي: جعل أشد مبتدأ محذوف الخبر أولى، والتقدير أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس.
قلت: يؤيد الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ فهو أشد، ويؤيد الثاني رواية النسائي من وجه آخر بلفظ فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم، وفي سياق المصنف لف ونشر غير مرتب، وهو مرتب في رواية النسائي.
والمراد بالزمهرير شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال لأن المراد بالنار محلها وفيها طبقة زمهريرية: وفي الحديث رد على من زعم من المعتزلة وغيرهم أن النار لا تخلق إلا يوم القيامة.
(تنبيهان) الأول: قضية التعليل المذكور قد يتوهم منها مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يقل به أحد، لأنها تكون غالبا في وقت الصبح فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخرت لخرج الوقت.
الثاني: النفس المذكور ينشأ عنه أشد الحر في الصيف، وإنما لم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشده لوجود المشقة عند شديده أيضا، فالأشدية تحصل عند التنفس، والشدة مستمرة بعد ذلك فيستمر الإبراد إلى أن تذهب الشدة، والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ تَابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ
الشرح:
قوله (بالظهر) قد يحتج به على مشروعية الإبراد للجمعة.
وقال به بعض الشافعية، وهو مقتضى صنيع المصنف كما سيأتي في بابه، لكن الجمهور على خلافه كما سيأتي توجيهه إن شاء الله تعالى.
قوله (تابعه سفيان) هو الثوري.
قد وصله المؤلف في صفة النار من بدء الخلق ولفظه " بالصلاة " ولم أره من طريق سفيان بلفظ " بالظهر " وفي إسناده اختلاف على الثوري رواه عبد الرزاق عنه بهذا الإسناد فقال " عن أبي هريرة " بدل أبي سعيد أخرجه أحمد عنه، والجوزقي من طريق عبد الرزاق أيضا، ثم روى عن الذهلي قال: هذا الحديث رواه أصحاب الأعمش عنه عن أبي صالح عن أبي سعيد، وهذه الطريق أشهر.
ورواه زائدة وهو متقن عنه، فقال: عن أبي هريرة، قال: والطريقان عندي محفوظان، لأن الثوري رواه عن الأعمش بالوجهين.
قوله (ويحيى) هو ابن سعيد القطان.
وقد وصله أحمد عنه بلفظ " بالصلاة " ورواه الإسماعيلي عن أبي يعلى عن المقدمي عن يحيى بلفظ " بالظهر".
قوله (وأبو عوانة) لم أقف على من وصله عنه، وقد أخرجه السراج من طريق محمد بن عبيد، والبيهقي من طريق وكيع، كلاهما عن الأعمش أيضا بلفظ " بالظهر".
(فائدة) : رتب المصنف أحاديث هذا الباب ترتيبا حسنا، فبدأ بالحديث المطلق، وثنى بالحديث الذي فيه الإرشاد إلى غاية الوقت التي ينتهي إليها الإبراد وهو ظهور فيء التلول، وثلث بالحديث الذي فيه بيان العلة في كون ذلك المطلق محمولا على المقيد، وربع بالحديث المفصح بالتقييد.
والله الموفق.