*3* باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) أورد فيه حديث أبي سلمة عن أبي هريرة " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته " فكأنه أراد تفسير الحديث، وأن المراد بقوله " فيه سجدة " أي ركعة.
وقد رواه الإسماعيلي من طريق حسين بن محمد عن شيبان بلفظ " من أدرك منكم ركعة " فدل على أن الاختلاف في الألفاظ وقع الرواة، وستأتي رواية مالك في أبواب وقت الصبح بلفظ " من أدرك ركعة " ولم يختلف على راويها في ذلك فكان عليها الاعتماد.
وقال الخطابي: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها فسميت على هذا المعنى سجدة.
انتهى.
وقد روى البيهقي هذا الحديث من طريق محمد بن الحسين بن أبي الحسين عن الفضل بن دكين وهو أبو نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ " إذا أدرك أحدكم أول سجدة من صلاة العصر " وإنما لم يأت المصنف في الترجمة بجواب الشرط لما في لفظ المتن الذي أورده من الاحتمال وهو قوله " فليتم صلاته " لأن الأمر بالإتمام أعم من أن يكون ما يتمه أداء أو قضاء، فحذف جواب الشرط لذلك.
ويحتمل أن تكون " من " في الترجمة موصوله، وفي الكلام حذف تقديره: باب حكم من أدرك الخ، لكن سيأتي من حديث مالك بلفظ " فقد أدرك الصلاة " وهو يقتضي أن تكون أداء، وستأتي مباحثه هناك إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ أَيْ رَبَّنَا أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَا قَالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ
الشرح:
قوله: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) ظاهره أن بقاء هذه الأمة وقع في زمان الأمم السالفة، وليس ذلك المراد قطعا، وإنما معناه أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس إلى بقية النهار، فكأنه قال: إنما بقاؤكم بالنسبة إلى ما سلف الخ، وحاصله أن " في " بمعنى إلى، وحذف المضاف وهو لفظ " نسبة".
وقد أخرج المصنف هذا الحديث وكذا حديث أبي موسى الآتي بعده في أبواب الإجارة، ويقع استيفاء الكلام عليهما هناك إن شاء الله تعالى، والغرض هنا بيان مطابقتهما للترجمة والتوفيق بين ما ظاهره الاختلاف منهما.
قوله: (أوتي أهل التوراة التوراة) ظاهره أن هذا كالشرح والبيان لما تقدم من تقدير مدة الزمانين، وقد زاد المصنف من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر في فضائل القرآن هنا " وأن مثلكم ومثل اليهود والنصارى الخ " وهو يشعر بأنهما قضيتان.
قوله: (قيراطا قيراطا) كرر قيراطا ليدل على تقسيم القراريط على العمال، لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته كما يقال: اقسم هذا المال على بني فلان درهما درهما، لكل واحد درهم.
قوله في حديث ابن عمر (عجزوا) قال الداودي: هذا مشكل، لأنه إن كان المراد من مات منهم مسلما فلا يوصف بالعجز لأنه عمل ما أمر به، وإن كان من مات بعد التغيير والتبديل فكيف يعطى القيراط من حبط عمله بكفره؟ وأورده ابن التين قائلا: قال بعضهم ولم ينفصل عنه وأجيب بأن المراد من مات منهم مسلما قبل التغيير والتبديل، وعبر بالعجز لكونهم لم يستوفوا عمل النهار كله وإن كانوا قد استوفوا عمل ما قدر لهم، فقوله عجزوا أي عن إحراز الأجر الثاني دون الأول، لكن من أدرك منهم النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به أعطى الأجر مرتين كما سبق مصرحا به في كتاب الإيمان.
قال المهلب ما معناه: أورد البخاري حديث ابن عمر وحديث أبي موسى في هذه الترجمة ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذي أعطى من العصر إلى الليل أجر النهار كله، فهو نظير من يعطى أجر الصلاة كلها ولو لم يدرك إلا ركعة، وبهذا تظهر مطابقة الحديثين للترجمة.
قلت: وتكملة ذلك أن يقال إن فضل الله الذي أقام به عمل ربع النهار مقام عمل النهار كله هو الذي اقتضى أن يقوم إدراك الركعة الواحدة من الصلاة الرباعية التي هي العصر مقام إدراك الأربع في الوقت، فاشتركا في كون كل منهما ربع العمل، وحصل بهذا التقرير الجواب عمن استشكل وقوع الجميع أداء مع أن الأكثر إنما وقع خارج الوقت، فيقال في هذا ما أجيب به أهل الكتابين (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) .
وقد استبعد بعض الشراح كلام المهلب ثم قال: هو منفك عن محل الاستدلال، لأن الأمة عملت آخر النهار فكان أفضل من عمل المتقدمين قبلها، ولا خلاف أن تقديم الصلاة أفضل من تأخيرها.
ثم هو من الخصوصيات التي لا يقاس عليها، لأن صيام آخر النهار لا يجزئ عن جملته، فكذلك سائر العبادات.
قلت: فاستبعد غير مستبعد، وليس في كلام المهلب ما يقتضي أن إيقاع العبادة في آخر وقتها أفضل من إيقاعها في أوله.
وأما إجزاء عمل البعض عن الكل فمن قبيل الفضل، فهو كالخصوصية سواء.
وقال ابن المنير: يستنبط من هذا الحديث أن وقت العمل ممتد إلى غروب الشمس، وأقرب الأعمال المشهورة بهذا الوقت صلاة العصر، قال: فهو من قبيل الإشارة لا من صريح العبارة، فإن الحديث مثال، وليس المراد العمل الخاص بهذا الوقت، بل هو شامل لسائر الأعمال من الطاعات في بقية الأمهال إلى قيام الساعة.
وقد قال إمام الحرمين: أن الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال.
قلت: وما أبداه مناسب لإدخال هذا الحديث في أبواب أوقات العصر لا لخصوص الترجمة وهي " من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب " بخلاف ما أبداه المهلب وأكملناه، وأما ما وقع من المخالفة بين سياق حديث ابن عمر وحديث أبي موسى فظاهرهما أنهما قضيتان، وقد حاول بعضهم الجمع بينهما فتعسف.
وقال ابن رشيد ما حاصله: إن حديث ابن عمر ذكر مثالا لأهل الأعذار لقوله " فعجزوا " فأشار إلى أن من عجز عن استيفاء العمل من غير أن يكون له صنيع في ذلك أن الأجر يحصل له تاما فضلا من الله.
قال: وذكر حديث أبي موسى مثالا لمن أخر بغير عذر، وإلى ذلك الإشارة بقوله عنهم (لا حاجة لنا إلى أجرك) فأشار بذلك إلى أن من أخر عامدا لا يحصل له ما حصل لأهل الأعذار.
قوله في حديث أبي موسى (فقال أكملوا) كذا للأكثر بهمزة قطع وبالكاف وكذا وقع في الإجازة.
ووقع هنا للكشميهني " اعملوا " بهمزة وصل وبالعين.
قوله في حديث ابن عمر (ونحن كنا أكثر عملا) تمسك به بعض الحنفية كأبي زيد في كتاب الأسرار إلى أن وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثليه، لأنه لو كان من مصير ظل كل شيء مثله لكان مساويا لوقت الظهر، وقد قالوا (كنا أكثر عملا) فدل على أنه دون وقت الظهر، وأجيب بمنع المساواة، وذلك معروف عند أهل العلم بهذا الفن، وهو أن المدة التي بين الظهر والعصر أطول من المدة التي بين العصر والمغرب، وأما ما نقله بعض الحنابلة من الإجماع على أن وقت العصر ربع النهار فمحمول على التقريب إذا فرغنا على أن أول وقت العصر مصير الظل مثله كما قال الجمهور، وأما على قول الحنفية فالذي من الظهر إلى العصر أطول قطعا، وعلى التنزل لا يلزم من التمثيل والتشبيه التسوية من كل جهة، وبأن الخبر إذا ورد في معنى مقصود لا تؤخذ منه المعارضة لما ورد في ذلك المعنى بعينه مقصودا في أمر آخر، وبأنه ليس في الخبر نص على أن كلا من الطائفتين أكثر عملا لصدق أن كلهم مجتمعين أكثر عملا من المسلمين، وباحتمال أن يكون أطلق ذلك تغليبا، وباحتمال أن يكون ذلك قول اليهود خاصة فيندفع الاعتراض من أصله كما جزم به بعضهم، وتكون نسبة ذلك للجميع في الظاهر غير مرادة بل هو عموم أريد به الخصوص أطلق ذلك تغليبا، وبأنه لا يلزم من كونهم أكثر عملا أن يكونوا أكثر زمانا لاحتمال كون العمل في زمنهم كان أشق، ويؤيده قوله تعالى (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) .
ومما يؤيد كون المراد كثرة العمل وقلته لا بالنسبة إلى طول الزمان وقصره كون أهل الأخبار متفقين على أن المدة التي بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم دون المدة التي بين نبينا صلى الله عليه وسلم وقيام الساعة لأن جمهور أهل المعرفة بالأخبار قالوا أن مدة الفترة بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وثبت ذلك في صحيح البخاري عن سليمان، وقيل إنها دون ذلك حتى جاء عن بعضهم أنها مائة وخمس وعشرون سنة وهذه مدة المسلمين بالمشاهدة أكثر من ذلك، فلو تمسكنا بأن المراد التمثيل بطول الزمانين وقصرهما للزم أن يكون وقت العصر أطول من وقت الظهر ولا قائل به، فدل على أن المراد كثرة العمل وقلته، والله سبحانه وتعالى أعلم.