*3* باب كَمْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِرُ الْإِقَامَةَ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب كم بين الأذان والإقامة) أما " باب " فهو في روايتنا بلا تنوين و " كم " استفهامية ومميزها محذوف وتقديره ساعة أو صلاة أو نحو ذلك، ولعله أشار بذلك إلى ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال " اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته " أخرجه الترمذي والحاكم لكن إسناده ضعيف، وله شاهد من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان أخرجهما أبو الشيخ ومن حديث أبي بن كعب أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند وكلها واهية، فكأنه أشار إلى أن التقدير بذلك لم يثبت.
وقال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين، ولم يختلف العلماء في التطوع بين الأذان والإقامة إلا في المغرب كما سيأتي.
ووقع هنا في رواية نسبت للكشميهني " ومن انتظر الإقامة " وهو خطأ فإن هذا اللفظ ترجمة تلي هذه.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثَلَاثًا لِمَنْ شَاءَ
الشرح:
قوله: (حدثنا إسحاق الواسطي) هو ابن شاهين، ويحتمل أن يكون هو الذي عناه الدمياطي ونقلناه عنه في الذي مضى، لكني رأيته كما نقلته أولا بخط القطب الحلبي، وقد روى البخاري عن إسحاق بن وهب العلاف وهو واسطي أيضا لكن ليست له رواية عن خالد وهو ابن عبد الله الطحان، والجريري سعيد بن أياس وهو بضم الجيم كما تقدم في المقدمة، ووقع مسمى في رواية وهب بن بقية عن خالد عند الإسماعيلي وهي إحدى فوائد المستخرجات، وهو معدود فيمن اختلط، واتفقوا على أن سماع المتأخرين منه كان بعد اختلاطه وخالد منهم، لكن أخرجه الإسماعيلي من رواية يزيد بن زريع وعبد الأعلى وابن علية وهم ممن سمع منه قبل اختلاطه، وهي إحدى فوائد المستخرجات أيضا، وهو عند مسلم من طريق عبد الأعلى أيضا، وقد قال العجلي إنه من أصحهم سماعا من الجريري، فإنه سمع منه قبل اختلاطه بثمان سنين، ولم ينفرد به مع ذلك الجريري بل تابعه عليه كهمس بن الحسن عن ابن بريدة، وسيأتي عند المصنف بعد باب.
وفي رواية يزيد ابن زريع من الفوائد أيضا تسمية ابن بريدة عبد الله والتصريح بتحديثه للجريري.
قوله: (بين كل أذانين) أي أذان وإقامة، ولا يصح حمله على ظاهره لأن الصلاة بين الأذانين مفروضة، والخير ناطق بالتخيير لقوله " لمن شاء"، وأجرى المصنف الترجمة مجرى البيان للخبر لجزمه بأن ذلك المراد، وتوارد الشراح على أن هذا من باب التغليب كقولهم القمرين للشمس والقمر، ويحتمل أن يكون أطلق على الإقامة أذان لأنها إعلام بحضور فعل الصلاة، كما أن الأذان إعلام بدخول الوقت، ولا مانع من حمل قوله " أذانين " على ظاهره لأنه يكون التقدير بين كل أذانين صلاة نافلة غير المفروضة.
قوله: (صلاة) أي وقت صلاة، أو المراد صلاة نافلة، أو نكرت لكونها تتناول كل عدد نواه المصلي من النافلة كركعتين أو أربع أو أكثر.
ويحتمل أن يكون المراد به الحث على المبادرة إلى المسجد عند سماع الأذان لانتظار الإقامة، لأن منتظر الصلاة في صلاة، قاله الزين بن المنير.
قوله: (ثلاثا) أي قالها ثلاثا، وسيأتي بعد باب بلفظ " بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة " ثم قال في الثالثة " لمن شاء " وهذا يبين أنه لم يقل لمن شاء إلا في المرة الثالثة، بخلاف ما يشعر به ظاهر الرواية الأولى من أنه قيد كل مرة بقوله " لمن شاء".
ولمسلم والإسماعيلي " قال في الرابعة لمن شاء " وكأن المراد بالرابعة في هذه الرواية المرة الرابعة، أي أنه اقتصر فيها على قوله " لمن شاء " فأطلق عليها بعضهم رابعة باعتبار مطلق القول، وبهذا توافق رواية البخاري.
وقد تقدم في العلم حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا وكأنه قال بعد الثلاث " لمن شاء " ليدل على أن التكرار لتأكيد الاستحباب.
وقال ابن الجوزي: فائدة هذا الحديث أنه يجوز أن يتوهم أن الأذان للصلاة يمنع أن يفعل سوى الصلاة التي أذن لها، فبين أن التطوع بين الأذان والإقامة جائز في حديث أنس، وقد صح ذلك في الإقامة كما سيأتي.
ووقع عند أحمد " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت " وهو أخص من الرواية المشهورة " إلا المكتوبة".
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيَّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ شَيْءٌ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا قَلِيلٌ
الشرح:
قوله في حديث أنس (كان المؤذن إذا أذن) في رواية الإسماعيلي " إذا أخذ المؤذن في أذان المغرب".
قوله: (قام ناس) في رواية النسائي " قام كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذا تقدم للمؤلف في أبواب ستر العورة.
قوله: (يبتدرون) أي يستبقون.
و (السواري) جمع سارية، وكأن غرضهم بالاستباق إليها الاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى.
قوله: (وهم كذلك) أي في تلك الحال.
وزاد مسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس: " فيجيء الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما".
قوله: (ولم يكن بينهما) أي الأذان والإقامة.
قوله: (شيء) التنوين فيه للتعظيم، أي لم يكن بينهما شيء كثير، وبهذا يندفع قول من زعم أن الرواية المعلقة معارضة للرواية الموصولة، بل هي مبينة لها، ونفي الكثير يقتضي إثبات القليل، وقد أخرجها الإسماعيلي موصولة من طريق عثمان بن عمر عن شعبة بلفظ " وكان بين الأذان والإقامة قريب " ولمحمد بن نصر من طريق أبي عامر عن شعبة نحوه.
وقال ابن المنير: يجمع بين الروايتين يحمل النفي المطلق على المبالغة مجازا، والإثبات للقليل على الحقيقة.
وحمل بعض العلماء حديث الباب على ظاهره فقال: دل قوله " ولم يكن بينهما شيء " على أن عموم قوله " بين كل أذانين صلاة " مخصوص بغير المغرب، فإنهم لم يكونوا يصلون بينهما بل كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان ويفرغون مع فراغه.
قال: ويؤيد ذلك ما رواه البزار من طريق حيان بن عبيد الله عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مثل الحديث الأول، وزاد في آخره " إلا المغرب " ا ه.
وفي قوله " ويفرغون مع فراغه " نظر لأنه ليس في الحديث ما يقتضيه، ولا يلزم من شروعهم في أثناء الأذان ذلك، وأما رواية حيان وهو بفتح المهملة والتحتانية فشاذة لأنه وإن كان صدوقا عند البزار وغيره لكنه خالف الحفاظ من أصحاب عبد الله بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه، وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيلي: وكان بريدة يصلي ركعتين قبل صلاة المغرب فلو كان الاستثناء محفوظا لم يخالف بريدة روايته.
وقد نقل ابن الجوزي في الموضوعات عن الفلاس أنه كذب حيانا المذكور.
وقال القرطبي وغيره: ظاهر حديث أنس أن الركعتين بعد المغرب وقبل صلاة المغرب كان أمرا أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه، وهذا يدل على الاستحباب، وكأن أصله قوله صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة".
وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب.
وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث، وروى عن ابن عمر قال: ما رأيت أحدا يصليهما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما.
وهو قول مالك والشافعي، وادعى بعض المالكية نسخهما فقال: إنما كان ذلك في أول الأمر حيث نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فبين لهم بذلك وقت الجواز، ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة إدراك أول وقتها.
وتعقب بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، والمنقول عن ابن عمر رواه أبو داود من طريق طاوس عنه، ورواية أنس المثبتة مقدمة على نفيه، والمنقول عن الخلفاء الأربعة رواه محمد بن نصر وغيره من طريق إبراهيم النخعي عنهم، وهو منقطع، ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ ولا الكراهة.
وسيأتي في أبواب التطوع أن عقبة بن عامر سأل عن الركعتين قبل المغرب فقال: كنا نفعلهما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل.
فلعل غيره أيضا منعه الشغل.
وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص وأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما.
وأما قول أبي بكر ابن العربي: اختلف فيها الصحابة ولم يفعلها أحد بعدهم، فمردود بقول محمد بن نصر، وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب، ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وعبد الله بن بريدة ويحيى بن عقيل والأعرج وعامر بن عبد الله بن الزبير وعراك بن مالك، ومن طريق الحسن البصري أنه سأل عنهما فقال: حسنتين والله لمن أراد الله بهما.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين.
وعن مالك قول آخر باستحبابهما.
وعند الشافعية وجه رجحه النووي ومن تبعه.
وقال في شرح مسلم: قول من قال إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها.
قلت: ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما كما في ركعتي الفجر، قيل والحكمة في الندب إليهما رجاء إجابة الدعاء، لأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، وكلما كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر، واستدل بحديث أنس على امتداد وقت المغرب، وليس ذلك بواضح.
(تنبيهان) : (أحدهما) مطابقة حديث أنس للترجمة من جهة الإشارة إلى أن الصحابة إذا كانوا يبتدرون إلى الركعتين قبل صلاة المغرب مع قصر وقتها فالمبادرة إلى التنقل قبل غيرها من الصلوات تقع من باب الأولى، ولا يتقيد بركعتين إلا ما ضاهى المغرب في قصر الوقت كالصبح.
(الثاني) : لم تتصل لنا رواية عثمان بن جبلة - وهو بفتح الجيم والموحدة - إلى الآن.
وزعم مغلطاي ومن تبعه أن الإسماعيلي وصلها في مستخرجه، وليس كذلك، فإن الإسماعيلي إنما أخرجه من طريق عثمان بن عمر، وكذلك لم تتصل لنا رواية أبي داود وهو الطيالسي فيما يظهر لي، وقيل هو الحفري بفتح المهملة والفاء.
وقد وقع لنا مقصود روايتهما من طريق عثمان بن عمر وأبي عامر ولله الحمد.