*3* باب بَدْءُ الْأَذَانِ حذف التشكيل
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُؤًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ وَقَوْلُهُ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الشرح:
قوله: (باب بدء الأذان) أي ابتدائه.
وسقط لفظ " باب " من رواية أبي ذر، وكذلك سقطت البسملة من رواية القابسي وغيره.
قوله: (وقول الله عز وجل وإذا ناديتم إلى الصلاة) الآية) يشير بذلك إلى أن ابتداء الأذان كان بالمدينة، وقد ذكر بعض أهل التفسير أن اليهود لما سمعوا الأذان قالوا: لقد ابتدعت يا محمد شيئا لم يكن فيما مضى، فنزلت (وإذا ناديتم إلى الصلاة) الآية.
قوله: (وقوله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) يشير بذلك أيضا إلى الابتداء، لأن ابتداء الجمعة إنما كان بالمدينة كما سيأتي في بابه.
واختلف في السنة التي فرض فيها: فالراجح أن ذلك كان في السنة الأولى، وقيل بل كان في السنة الثانية، وروي عن ابن عباس أن فرض الأذان نزل مع هذه الآية.
أخرجه أبو الشيخ.
(تنبيه) : الفرق بين ما في الآيتين من التعدية بإلى واللام أن صلات الأفعال تختلف بحسب مقاصد الكلام، فقصد في الأولى معنى الانتهاء وفي الثانية معنى الاختصاص قاله الكرماني.
ويحتمل أن تكون اللام بمعنى إلى أو العكس والله أعلم.
وحديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ظاهر في أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، فإنه نفى النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقا.
وقوله في آخره " يا بلال قم فناد بالصلاة " كان ذلك قبل رؤيا عبد الله بن زيد، وسياق حديثه يدل على ذلك كما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال حدثني عبد الله بن زيد، فذكر نحو حديث ابن عمر، وفي آخره " فبينما هم على ذلك أري عبد الله النداء " فذكر الرؤيا وفيها صفة الأذان لكن بغير ترجيع، وفيه تربيع التكبير وإفراد الإقامة وتثنية " قد قامت الصلاة " وفي آخره قوله صلى الله عليه وسلم "إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال فألقها عليه فإنه أندى صوتا منك " وفيه مجيء عمر وقوله إنه رأى مثل ذلك، وقد أخرج الترمذي في ترجمة بدء الأذان حديث عبد الله بن زيد مع حديث عبد الله بن عمر، وإنما لم يخرجه البخاري لأنه على غير شرطه، وقد روي عن عبد الله بن زيد من طرق، وحكى ابن خزيمة عن الذهلي أنه ليس في طرقه أصح من هذه الطريق، وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا - ومنهم من وصله عن سعيد - عن عبد الله بن زيد، والمرسل أقوى إسنادا.
ووقع في الأوسط للطبراني أن أبا بكر أيضا رأى الأذان، ووقع في الوسيط للغزالي أنه رآه بضعة عشر رجلا، وعبارة الجيلي في شرح التنبيه أربعة عشر رجلا، وأنكره ابن الصلاح ثم النووي، ونقل مغلطاي أن في بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة، ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واه قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بهـا عمر.
(فائدتان) الأولى: وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، منها للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالا.
وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك.
وللدار قطني في " الأطراف " صلى الله عليه وسلم من حديث أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة، وإسناده ضعيف أيضا.
ولابن مردويه من حديث عائشة مرفوعا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت، وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره من حديث علي قال: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بدابة يقال لها البراق فركبها.
فذكر الحديث وفيه: إذ خرج ملك من وراء الحجاب فقال: الله أكبر، الله أكبر، وفي آخره: ثم أخذ الملك بيده فأم بأهل السماء.
وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضا.
ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون ذلك وقع بالمدينة.
وأما قول القرطبي: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللغوي وهو الإعلام ففيه نظر أيضا لتصريحه بكيفيته المشروعة فيه.
والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.
وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر ثم حديث عبد الله بن زيد.
انتهى.
وقد حاول السهيلي صلى الله عليه وسلم الجمع بينهما فتكلف وتعسف، والأخذ بما صح أولى، فقال بانيا على صحة صلى الله عليه وسلم الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت فرأى الصحابي المنام فقصها فوافقت ما كان النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فقال " إنها لرؤيا حق " وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض، وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه، والحكمة أيضا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفحم لشأنه.
انتهى ملخصا.
والثاني: حسن بديع، ويؤخذ منه عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد حتى أضيف عمر للتقوية التي ذكرها.
لكن قد يقال: فلم لا اقتصر على عمر؟ فيمكن أن يجاب ليصير في معنى الشهادة، وقد جاء في رواية ضعيفة سبقت ما ظاهره أن بلالا أيضا رأى لكنها مؤوله فإن لفظها " سبقك بها بلال " فيحمل المراد بالسبق على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد.
ومما كثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه؟ وقد وقع عند السهيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم أخرجه الترمذي من طريق تدور على عمر بن الرماح يرفعه إلى أبي هريرة ا ه.
وليس هو من حديث أبي هريرة وإنما هو من حديث يعلى بن مرة، وكذا جزم النووي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في السفر وعزاه للترمذي وقواه، ولكن وجدناه في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه الترمذي ولفظه " فأمر بلالا فأذن " فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا وأن معنى قوله " أذن " أمر بلالا به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفا، وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه آمرا به.
ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ بسند فيه مجهول عن عبد الله بن الزبير قال: أخذ الأذان من أذان إبراهيم (وأذن في الناس بالحج) الآية.
قال: فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل أن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة.
(الفائدة الثانية) : قال الزين بن المنير: أعرض البخاري عن التصريح بحكم الأذان لعدم إفصاح الآثار الواردة فيه عن حكم معين، فأثبت مشروعيته وسلم من الاعتراض.
وقد اختلف في ذلك، ومنشأ الاختلاف أن مبدأ الأذان لما كان عن مشورة أوقعها النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حتى استقر برؤيا بعضهم فأقره كان ذلك بالمندوبات أشبه، ثم لما واظب على تقريره ولم ينقل أنه تركه ولا أمر بتركه ولا رخص في تركه كان ذلك بالواجبات أشبه. انتهى.
وسيأتي بقية الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ
الشرح:
قوله: (حدثنا عبد الوارث) هو ابن سعيد، وخالد هو الحذاء كما ثبت في رواية كريمة، والإسناد كله بصريون.
قوله: (ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى) كذا ساقه عبد الوارث مختصرا، ورواية عبد الوهاب الآتية في الباب الذي بعده أوضح قليلا حيث قال " لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوسا " وأوضح من ذلك رواية روح بن عطاء عن خالد عند أبي الشيخ ولفظه " فقالوا لو اتخذنا ناقوسا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك للنصارى.
فقالوا: لو اتخذنا بوقا، فقال: ذاك لليهود.
فقالوا: لو رفعنا نارا، فقال: ذاك للمجوس " فعلى هذا ففي رواية عبد الوارث اختصار كأنه كان فيه: ذكروا النار والناقوس والبوق فذكروا اليهود والنصارى والمجوس واللف والنشر فيه معكوس، فالنار للمجوس والناقوس للنصارى والبوق لليهود.
وسيأتي في حديث ابن عمر التنصيص على أن البوق لليهود.
وقال الكرماني: يحتمل أن تكون النار والبوق جميعا لليهود جمعا بين حديثي أنس وابن عمر.
انتهى.
ورواية روح تغني عن هذا الاحتمال.
قوله: (فأمر بلال) هكذا في معظم الروايات على البناء للمفعول، وقد اختلف أهل الحديث وأهل الأصول في اقتضاء هذه الصيغة للرفع، والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه، لأن الظاهر أن المراد بالأمر من له الأمر الشرعي الذي يلزم اتباعه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيد ذلك هنا من حيث المعنى أن التقرير في العبادة إنما يؤخذ عن توقيف فيقوى جانب الرفع جدا.
وقد وقع في رواية روح بن عطاء المذكورة " فأمر بلالا " بالنصب وفاعل أمر هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بين في سياقه.
وأصرح من ذلك رواية النسائي وغيره عن قتيبة عن عبد الوهاب بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا " قال الحاكم: صرح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبة.
قلت: ولم ينفرد به، فقد أخرجه أبو عوانة من طريق مروان المروزي عن قتيبة ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهاب، وطريق يحيى عند الدار قطني أيضا، ولم ينفرد به عبد الوهاب.
وقد رواه البلاذري من طريق ابن شهاب الحناط عن أبي قلابة: وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء إلى الصلاة ظاهر في أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره كما استدل به ابن المنذر وابن حبان، واستدل بورود الأمر به من قال بوجوب الأذان.
وتعقب بأن الأمر إذا ورد بصفة الأذان لا بنفسه، وأجيب بأنه إذا ثبت الأمر بالصفة لزم أن يكون الأصل مأمورا به، قاله ابن دقيق العيد.
وممن قال بوجوبه مطلقا الأوزاعي وداود وابن المنذر وهو ظاهر قول مالك في الموطأ وحكى عن محمد بن الحسن، وقيل واجب في الجمعة فقط وقيل فرض كفاية، والجمهور على أنه من السنن المؤكدة، وقد تقدم ذكر منشأ الخلاف في ذلك، وأخطأ من استدل على عدم وجوبه بالإجماع لما ذكرناه والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ
الشرح:
قوله: (إن ابن عمر كان يقول) في رواية مسلم " عن عبد الله بن عمر أنه قال".
قوله: (حين قدموا المدينة) أي من مكة في الهجرة.
قوله: (فيتحينون) بحاء مهملة بعدها مثناة تحتانية ثم نون، أي يقدرون أحيانها ليأتوا إليها، والحين الوقت والزمان.
قوله: (ليس ينادى لها) بفتح الدال على البناء للمفعول، قال ابن مالك: فيه جواز استعمال ليس حرفا لا اسم لها ولا خبر، وقد أشار إليه سيبويه.
ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر.
قلت: ورواية مسلم تؤيد ذلك، فإن لفظه " ليس ينادى بها أحد".
قوله: (فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم اتخذوا) لم يقع لي تعين المتكلمين في ذلك، واختصر الجواب في هذه الرواية، ووقع لابن ماجه من وجه آخر عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس لما يجمعهم إلى الصلاة، فذكروا البوق، فكرهه من أجل اليهود.
ثم ذكروا الناقوس، فكرهه من أجل النصارى " وقد تقدمت رواية روح بن عطاء نحوه.
وفي الباب عن عبد الله بن زيد عند أبي الشيخ وعند أبي عمير بن أنس عن عمومته عن سعيد بن منصور.
قوله: (بل بوقا) أي بل اتخذوا بوقا، ووقع في بعض النسخ " بل قرنا " وهي رواية مسلم والنسائي.
والبوق والقرن معروفان، والمراد أنه ينفخ فيه فيجتمعون عند سماع صوته، وهو من شعار اليهود، ويسمى أيضا " الشبور " بالشين المعجمة المفتوحة والموحدة المضمومة الثقيلة.
قوله: (فقال عمر أو لا) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر كما في نظائره.
قال الطيبي: الهمزة إنكار للجملة الأولى، أي المقدرة وتقرير للجملة الثانية.
قوله: (رجلا) زاد الكشميهني " منكم".
قوله: (ينادى) قال القرطبي: يحتمل أن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم بادر عمر فقال: أولا تبعثون رجلا ينادي - أي يؤذن - للرؤيا المذكورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قم يا بلال " فعلى هذا فالفاء في سياق حديث ابن عمر هي الفصيحة، والتقدير فافترقوا فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقص عليه فصدقه فقال عمر.
قلت: وسياق حديث عبد الله بن زيد يخالف ذلك، فإن فيه أنه لما قص رؤياه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ألقها على بلال فليؤذن بها، قال فسمع عمر الصوت فخرج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد رأيت مثل الذي رأى، فدل على أن عمر لم يكن حاضرا لما قص عبد الله بن زيد رؤياه.
والظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك والله أعلم.
وقد أخرج أبو داود بسند صحيح إلى أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار.
قالوا: " اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقال: انصب راية عند حضور وقت الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا، فلم يعجبه " الحديث.
وفيه " ذكروا القنع - بضم القاف وسكون النون يعني البوق - وذكروا الناقوس، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم فأري الأذان، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان عمر رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما ثم أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما منعك أن تخبرنا؟ قال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله " ترجم له أبو داود " بدء الأذان " وقال أبو عمر بن عبد البر: روى قصة عبد الله ابن زيد جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة وهي من وجوه حسان وهذا أحسنها.
قلت: وهذا لا يخالفه ما تقدم أن عبد الله بن زيد لما قص منامه فسمع عمر الأذان فجاء فقال قد رأيت، لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بل متراخيا عنه لقوله " ما منعك أن تخبرنا " أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء، فدل على أنه لم يخبر بذلك على الفور، وليس في حديث أبي عمير التصريح بأن عمر كان حاضرا عند قص عبد الله رؤياه، بخلاف ما وقع في روايته التي ذكر بها " فسمع عمر الصوت فخرج فقال " فإنه صريح في أنه لم يكن حاضرا عند قص عبد الله، والله أعلم.
قوله: (فناد بالصلاة) في رواية الإسماعيلي " فأذن بالصلاة " قال عياض: المراد الإعلام المحض بحضور وقتها لا خصوص الأذان المشروع.
وأغرب القاضي أبو بكر بن العربي فحمل قوله " أذن " على الأذان المشروع، وطعن في صحة حديث ابن عمر وقال: عجبا لأبي عيسى كيف صححه.
والمعروف أن شرع الأذان إنما كان برؤيا عبد الله بن زيد.
انتهى.
ولا تدفع الأحاديث الصحيحة بمثل هذا مع إمكان الجمع كما قدمناه، وقد قال ابن مندة في حديث ابن عمر: إنه مجمع على صحته.
قوله: (يا بلال قم) قال عياض وغيره: فيه حجة لشرع الأذان قائما.
قلت: وكذا احتج ابن خزيمة وابن المنذر، وتعقبه النووي بأن المراد بقوله " قم " أي اذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس، قال: وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان.
انتهى.
وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ، فإن الصيغة محتملة للأمرين، وإن كان ما قاله أرجح.
ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدا لا يجوز، إلا أبا ثور ووافقه أبو الفرج المالكي.
وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية، وبأن المشهور عند الحنفية كلهم أن القيام سنة، وأنه لو أذن قاعدا صح، والصواب ما قال ابن المنذر أنهم اتفقوا على أن القيام من السنة.
(فائدة) : كان اللفظ الذي ينادي به بلال للصلاة قوله " الصلاة جامعة " أخرجه ابن سعد في الطبقات من مراسيل سعيد بن المسيب.
وظن بعضهم أن بلالا حينئذ إنما أمر بالأذان المعهود فذكر مناسبة اختصاص بلال بذاك دون غيره لكونه كان لما عذب ليرجع عن الإسلام فيقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان المشتملة على التوحيد في ابتدائه وانتهائه، وهي مناسبة حسنة في اختصاص بلال بالأذان، إلا أن هذا الموضع ليس هو محلها.
وفي حديث ابن عمر دليل على مشروعية طلب الأحكام من المعاني المستنبطة دون الاقتصار على الظواهر.
قاله ابن العربي، وعلى مراعاة المصالح والعمل بها، وذلك أنه لما شق عليهم التبكير إلى الصلاة فتفوتهم أشغالهم، أو التأخير فيفوتهم وقت الصلاة، نظروا في ذلك.
وفيه مشروعية التشاور في الأمور المهمة وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أدى إليه اجتهاده، وفيه منقبة ظاهرة لعمر.
وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي، وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضاها لينظر أيقر على ذلك أم لا، ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " سبقك بذلك الوحي " وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام، وأشار السهيلي إلى أن الحكمة في ابتداء شرع الأذان على لسان غير النبي صلى الله عليه وسلم التنويه بعلو قدره على لسان غيره ليكون أفخم لشأنه، والله أعلم.