(تنبيه) : وقع في رواية ابن نمير في الاستئذان بعد ذكر السجود الثاني " ثم ارفع حتى تطمئن جالسا".
وقد قال بعضهم: هذا يدل على إيجاب جلسة الاستراحة ولم يقل به أحد، وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وهم، فإنه عقبه بأن قال " قال أبو أسامة في الأخير حتى تستوي قائما " ويمكن أن يحمل إن كان محفوظا على الجلوس للتشهد، ويقويه رواية إسحاق المذكورة قريبا، وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ: " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا، ثم افعل ذلك في كل ركعة".
وأخرجه البيهقي من طريقه وقال: كذا قال إسحاق بن راهويه عن أبي أسامة، والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد أبي قدامة ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما " ثم ساقه من طريق يوسف بن موسى كذلك.
واستدل بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة، وبه قال الجمهور، واشتهر عن الحنفية أن الطمأنينة سنة، وصرح بذلك كثير من مصنفيهم، لكن كلام الطحاوي كالصريح في الوجوب عندهم، فإنه ترجم مقدار الركوع والسجود، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله " سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع وذلك أدناه".
قال: فذهب قوم إلى أن هذا مقدار الركوع والسجود لا يجزئ أدنى منه، قال.
وخالفهم آخرون فقالوا: إذا استوى راكعا واطمأن ساجدا أجزأ، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
قال ابن دقيق العيد: تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعلى عدم وجوب ما لم يذكر، أما الوجوب فلتعلق الأمر به، وأما عدمه فليس لمجرد كون الأصل عدم الوجوب، بل لكون الموضع تعليم وبيان للجاهل، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر ويتقوى ذلك بكونه صلى الله عليه وسلم ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وما لم تتعلق به، فدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت به الإساءة.
قال: فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه وكان مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه، وبالعكس.
لكن يحتاج أولا إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه والأخذ بالزائد فالزائد، ثم إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه عمل به، وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث قدمت.
قلت: قد امتثلت ما أشار إليه وجمعت طرقه القوية من رواية أبي هريرة ورفاعة، وقد أمليت الزيادات التي اشتملت عليها.
فمما لم يذكر فيه تصريحا من الواجبات المتفق عليها: النية، والقعود الأخير ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والسلام في آخر الصلاة.
قال النووي: وهو محمول على أن ذلك كان معلوما عند الرجل ا هـ.
وهذا يحتاج إلى تكملة، وهو ثبوت الدليل على إيجاب ما ذكر كما تقدم، وفيه بعد ذلك نظر.
قال: وفيه دليل على أن الإقامة والتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في الإحرام وغيره ووضع اليمنى على اليسرى وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ ونحو ذلك مما لم يذكر في الحديث ليس بواجب ا هـ.
وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطرق كما تقدم بيانه، فيحتاج من لم يقل بوجوبه إلى دليل على عدم وجوبه كما تقدم تقريره.
واستدل به على تعين لفظ التكبير، خلافا لمن قال يجزئ بكل لفظ يدل على التعظيم، وقد تقدمت هذه المسألة في أول صفة الصلاة.
قال ابن دقيق العيد: ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات، ولأن رتب هذه الأذكار مختلفة، فقد لا يتأدى برتبة منها ما يقصد برتبة أخرى.
ونظيره الركوع، فإن المقصود به التعظيم بالخضوع، فلو أبدله بالسجود لم يجزئ، مع أنه غاية الخضوع.
واستدل به على أن قراءة الفاتحة لا تتعين، قال ابن دقيق العيد: ووجهه أنه إذا تيسر فيه غير الفاتحة فقرأه يكون ممتثلا فيخرج عن العهدة، قال: والذين عينوها أجابوا بأن الدليل على تعينها تقييد للمطلق في هذا الحديث، وهو متعقب، لأنه ليس بمطلق من كل وجه بل هو مقيد بقيد التيسير الذي يقتضي التخيير، وإنما يكون مطلقا لو قال: اقرأ قرآنا، ثم قال: اقرأ فاتحة الكتاب.
وقال بعضهم: هو بيان للمجمل، وهو متعقب أيضا، لأن المجمل ما لم تتضح دلالته، وقوله "ما تيسر " متضح لأنه ظاهر في التخيير، قال: وإنما يقرب ذلك إن جعلت " ما " موصولة، وأريد بها شيء معين وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها، فهي المتيسرة.
وقيل هو محمول على أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسر.
وقيل: محمول على أنه منسوخ بالدليل على تعيين الفاتحة، ولا يخفى ضعفهما.
لكنه محتمل، ومع الاحتمال لا يترك الصريح وهو قوله " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " وقيل: إن قوله " ما تيسر " محمول على ما زاد على الفاتحة جمعا بينه وبين دليل إيجاب الفاتحة.
ويؤيده الرواية التي تقدمت لأحمد وابن حبان حيث قال فيها " اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت " واستدل به على وجوب الطمأنينة في الأركان.
واعتذر بعض من لم يقل به بأنه زيادة على النص، لأن المأمور به في القرآن مطلق السجود فيصدق بغير طمأنينة، فالطمأنينة زيادة والزيادة على المتواتر بالآحاد لا تعتبر.
وعورض بأنها ليست زيادة لكن بيان للمراد بالسجود، وأنه خالف السجود اللغوي لأنه مجرد وضع الجبهة فبينت السنة أن السجود الشرعي ما كان بالطمأنينة.
ويؤيده أن الآية نزلت تأكيدا لوجوب السجود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يصلون قبل ذلك، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بغير طمأنينة.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: وجوب الإعادة على من أخل بشيء من واجبات الصلاة.
وفيه أن الشروع في النافلة ملزم، لكن يحتمل أن تكون تلك الصلاة كانت فريضة فيقف الاستدلال.
وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص، المقاصد، وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه.
وفيه تكرار السلام ورده وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال.
وفيه أن القيام في الصلاة ليس مقصودا لذاته، وإنما يقصد للقراءة فيه.
وفيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه.
وفيه التسليم للعالم والانقياد له والاعتراف بالتقصير والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ وفيه أن فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن لا ما زادته السنة فيندب صلى الله عليه وسلم.
وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ولطف معاشرته، وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة.
وقد استشكل تقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على صلاته وهي فاسدة على القول بأنه أخل ببعض الواجبات، وأجاب المازري بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسيا أو غافلا فيتذكره فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التقرير الخطأ، بل من باب تحقق الخطأ.
وقال النووي نحوه، قال: وإنما لم يعلمه أولا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة.
وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته، فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك.
وقال ابن دقيق العيد: ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقا، بل لا بد من انتفاء الموانع.
ولا شك أن في زيادة قبول المتعلم لما يلقي إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم، لا سيما مع عدم خوف الفوات، إما بناء على ظاهر الحال، أو بوحي خاص.
وقال التوربشتي: إنما سكت عن تعليمه أولا لأنه لما رجع لم يستكشف الحال من مورد الوحي، وكأنه اغتر بما عنده من العلم فسكت عن تعليمه زجرا له وتأديبا وإرشادا إلى استكشاف ما استبهم عليه، فلما طلب كشف الحال من مورده أرشد إليه.
انتهى.
لكن فيه مناقشة، لأنه إن تم له في الصلاة الثانية والثالثة لم يتم له في الأولى، لأنه صلى الله عليه وسلم بدأه لما جاء أول مرة بقوله " ارجع فصل فإنك لم تصل " فالسؤال وارد على تقريره له على الصلاة الأولى كيف لم ينكر عليه في أثنائها؟ لكن الجواب يصلح بيانا للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك، والله أعلم.
وفيه حجة على من أجاز القراءة بالفارسية لكون ما ليس بلسان العرب لا يسمى قرآنا، قاله عياض.
وقال النووي: وفيه وجوب القراءة في الركعات كلها، وأن المفتي إذا سئل عن شيء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل يستحب له أن يذكره له وإن لم يسأله عنه ويكون من باب النصيحة لا من الكلام فيما لا معنى له.
وموضع الدلالة منه كونه قال " علمني " أي الصلاة فعلمه الصلاة ومقدماتها.