*3* باب الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب الدعاء قبل السلام) أي بعد التشهد، هذا الذي يتبادر من ترتيبه، لكن قوله في الحديث " كان يدعو في الصلاة " لا تقييد فيه بما بعد التشهد.
وأجاب الكرماني فقال: من حيث أن لكل مقام ذكرا مخصوصا فتعين أن يكون محله بعد الفراغ من الكل ا هـ.
وفيه نظر، لأن التعيين الذي ادعاه لا يختص بهذا المحل لورود الأمر بالدعاء في السجود، فكما أن للسجود ذكرا مخصوصا ومع ذلك أمر فيه بالدعاء فكذلك الجلوس في آخر الصلاة له ذكر مخصوص وأمر فيه مع ذلك بالدعاء إذا فرغ منه.
وأيضا فإن هذا هو ترتيب البخاري، لكنه مطالب بدليل اختصاص هذا المحل بهذا الذكر، ولو قطع النظر عن ترتيبه لم يكن بين الترجمة والحديث منافاة، لأن قبل السلام يصدق على جميع الأركان، وبذلك جزم الزين بن المنير وأشار إليه النووي، وسأذكر كلامه آخر الباب.
وقال ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أبي بكر - وهو ثاني حديثي الباب - هذا يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعين محله، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين - السجود أو التشهد - لأنهما أمر فيهما بالدعاء.
قلت: والذي يظهر لي أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض الطرق من تعيينه بهذا المحل، فقد وقع في بعض طرق حديث ابن مسعود بعد ذكر التشهد " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء " وسيأتي البحث فيه.
ثم قد أخرج ابن خزيمة من رواية ابن جريج أخبرني عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه كان يقول بعد التشهد كلمات يعظمهن جدا.
قلت في المثنى كليها؟ قال بل في التشهد الأخير، قلت: ما هي؟ قال " أعوذ بالله من عذاب القبر " الحديث.
قال ابن جريج: أخبرنيه عن أبيه عن عائشة مرفوعا.
ولمسلم من طريق محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة مرفوعا " إذا تشهد أحدكم فليقل " فذكر نحوه.
هذه رواية وكيع عن الأوزاعي عنه، وأخرجه أيضا من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بلفظ " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير " فذكره، وصرح بالتحديث في جميع الإسناد، فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد، فيكون سابقا على غيره من الأدعية.
وما ورد الإذن فيه أن المصلى يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ فَقَالَ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ
الشرح:
قوله: (من عذاب القبر) فيه رد على من أنكره، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى.
قوله: (من فتنة المسيح الدجال) قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار، قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره ا ه.
وتطلق على القتل والإحراق والنميمة وغير ذلك.
والمسيح بفتح الميم وتخفيف المهملة المكسورة وآخره حاء مهملة يطلق على الدجال وعلى عيسى بن مريم عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به.
وقال أبو داود في السنن: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى، والمشهور الأول.
وأما ما نقل الفربري في رواية المستملي وحده عنه عن خلف بن عامر وهو الهمداني أحد الحفاظ أن المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ويقال لعيسى وأنه لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين فهو رأى ثالث.
وقال الجوهري: من قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض، ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين.
وحكى بعضهم أنه قال بالخاء المعجمة في الدجال ونسب قائله إلى التصحيف.
واختلف في تلقيب الدجال بذلك، فقيل: لأنه ممسوح العين، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب، وقيل لأنه يمسح الأرض إذا خرج.
وأما عيسى فقيل: سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل لأن زكريا مسحه، وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقيل لأنه كأن يمسح الأرض بسياحته، وقيل لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل للبسه المسوح، وقيل هو بالعبرانية ماشيخا فعرب المسيح، وقيل المسيح الصديق كما سيأتي في التفسير ذكر قائله إن شاء الله تعالى.
وذكر شيخنا الشيخ مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس أنه جمع في سبب تسمية عيسى بذلك خمسين قولا أوردها في شرح المشارق.
قوله: (فتنة المحيا وفتنة الممات) قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت.
وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح يعني في حديث أسماء الآتي في الجنائز " إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال " ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله " عذاب القبر " لأن العذاب مرتب عن الفتنة والسبب غير المسبب.
وقيل أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة، وهذا من العام بعد الخاص، لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن سفيان الثوري أن الميت إذا سئل " من ربك " تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه إني أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبت له حين يسأل.
ثم أخرج بسند جيد إلى عمرو بن مرة " كانوا يستحبون إذا وضع الميت في القبر أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان".
قوله: (والمغرم) أي الدين، يقال غرم بكسر الراء أي أدان.
قيل والمراد به ما يستدان فيما لا يجوز وفيما يجوز ثم يعجز عن أدائه، ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك.
وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين.
وقال القرطبي: المغرم الغرم، وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم، والله أعلم.
قوله: (فقال له قائل) لم أقف على اسمه، ثم وجدت في رواية للنسائي من طريق معمر عن الزهري أن السائل عن ذلك عائشة ولفظها " فقلت: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ الخ".
قوله: (ما أكثر) بفتح الراء على التعجب.
و قوله: (إذا غرم) بكسر الراء.
قوله: (ووعد فأخلف) كذا للأكثر.
وفي رواية الحموي " وإذا وعد أخلف " والمراد أن ذلك شأن من يستدين غالبا.
قوله: (وعن الزهري) الظاهر أنه معطوف على الإسناد المذكور، فكأن الزهري حدث به مطولا ومختصرا، لكن لم أره في شيء من المسانيد والمستخرجات من طريق شعيب عنه إلا مطولا ورأيته باللفظ المختصر المذكور سندا ومتنا عند المصنف في كتاب الفتن من طريق صالح بن كيسان عن الزهري، وكذلك أخرجه مسلم من طريق صالح.
وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر، وأجيب بأجوبة، أحدها: أنه قصد التعليم لأمته، ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأمتي، ثالثها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقيق الإجابة لأن ذلك يحصل الحسنات ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة.
وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقيق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم " إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه " الحديث، والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
الشرح:
قوله: (عن أبي الخير) هو اليزني بالتحتانية والزاي المفتوحتين ثم نون، والإسناد كله سوى طرفيه مصريون، وفيه تابعي عن تابعي وهو يزيد عن أبي الخير، وصحابي عن صحابي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، هذه رواية الليث عن يزيد ومقتضاها أن الحديث من مسند الصديق رضي الله عنه، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي عن الليث فإن لفظه عن أبي بكر قال " قلت يا رسول الله " أخرجه البراز من طريقه.
وخالف عمرو بن الحارث الليث فجعله من مسند عبد الله ابن عمرو ولفظه " عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم " هكذا رواه ابن وهب عن عمرو، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث.
وقد أخرج المصنف طريق عمرو معلقة في الدعوات وموصولة في التوحيد، وكذلك أخرج مسلم الطريقين طريق الليث وطريق ابن وهب وزاد مع عمرو بن الحارث رجلا مبهما، وبين ابن خزيمة في روايته أنه ابن لهيعة.
قوله: (ظلمت نفسي) أي بملابسة ما يستوجب العقوبة أو ينقص الحظ.
وفيه أن الإنسان لا يعري عن تقصير ولو كان صديقا: قوله: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فيه إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة، وهو كقوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) الآية، فأثنى على المستغفرين وفي ضمن ثنائه عليهم بالاستغفار لوح بالأمر به كما قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه.
قوله: (مغفرة من عندك) قال الطيبي: دل التنكير على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرك كهنه، ووصفه بكونه من عنده سبحانه وتعالى مريدا لذلك العظم لأن الذي يكون من عند الله لا يحيط به وصف.
وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور كأنه قال لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت، والثاني - وهو أحسن - أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره.
انتهى.