قوله: (أو ليس كنت حدثتنا أنا ستأتي البيت) في رواية ابن إسحاق " كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون " وعند الواقدي وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت، فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم " ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، وأن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد، وأن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته.
قوله: (فأتيت أبا بكر) لم يذكر عمر أنه راجع أحدا في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق، وذلك لجلالة قدره وسعة علمه عنده، وفي جواب أبي بكر لعمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بأمور الدين وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى.
وقد وقع التصريح في هذا الحديث بأن المسلمين استنكروا الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك، وظهر من هذا الفصل أن الصديق لم يكن في ذلك موافقا لهم، بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وسيأتي في الهجرة أن ابن الدغنة وصف أبا بكر الصديق بنظير ما وصفت به خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء من كونه يصل الرحم ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق وغير ذلك، فلما كانت صفاتهما متشابهة من الابتداء استمر ذلك إلى الانتهاء.
وقول أبي بكر: " فاستمسك بغرزه " هو بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها زاي، وهو - أي الغرز - للإبل بمنزلة الركب للفرس، والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركب الفارس فلا يفارقه.
قوله: (قال الزهري قال عمر: فعملت لذلك أعمالا) هو موصول إلى الزهري بالسند المذكور وهو منقطع بين الزهري وعمر، قال بعض الشراح.
قوله "أعمالا " أي من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب، ولما يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه، وحثا على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الدين ا هـ.
وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء، وقد ورد عن عمر التصريح بمراده بقوله: " أعمالا ": ففي رواية ابن إسحاق " وكان عمر يقول مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به " وعند الواقدي من حديث ابن عباس " قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا، وصمت دهرا".
وأما قوله: " ولم يكن شكا " فإن أراد نفي الشك في الدين فواضح، وقد وقع في رواية ابن إسحاق " أن أبا بكر لما قال له: الزم غرزه فإنه رسول الله، قال عمر وأنا أشهد أنه رسول الله " وإن أراد نفي الشك في وجود المصلحة وعدمها فمردود، وقد قال السهيلي: هذا الشك هو ما لا يستمر صاحبه عليه، وإنما هو من باب الوسوسة، كذلك قال، والذي يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكمة في القصة وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاده الحكم بخلاف الثانية، وهي هذه القصة، وإنما عمل الأعمال المذكور لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه بل هو مأجور لأمه مجتهد فيه.
قوله: (فلما فرغ من قضية الكتاب) زاد ابن إسحاق في روايته " فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين ومنهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص وهو مشرك".
قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا) في رواية أبي الأسود عن عروة " فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون - يعني إلى جهة الحرم - حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنحر".
قوله: (فوالله ما قام منهم رجل) قيل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا ألهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم من ظهور قوتهما واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم كما سيأتي من كلام أم سلمة، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال إن الأمر للوجوب لا للندب، لما يطرق القصة من الاحتمال.
قوله: (فذكر لها ما لقي من الناس) في رواية ابن إسحاق " فقال لها ألا ترين إلى الناس؟ إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه " وفي رواية أبي المليح " فاشتد ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون، أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا، قال فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة".
قوله: (قالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم) زاد ابن إسحاق " قالت أم سلمة: يا رسول الله لا تكلمهم، فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح"، ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذا بالرخصة في حقهم وأنه هو يستمر على الإحرام أخذا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر.
وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول، وجواز مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة ووفور عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة.
كذا قال.
وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب في أمر موسى.
ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح كما سيأتي هناك من أمره لهم بالفطر في رمضان، فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب، فلما رأوه شرب شربوا.
قوله: (نحر بدنه) في رواية الكشميهني " هديه " زاد ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان سبعين بدنة كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين، وكان غنمه منه في غزوة بدر.
قوله: (ودعا حالقه فحلقه) قال ابن إسحاق: " بلغني أن الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش - بمعجمتين - ابن أمية بن الفضل الخزاعي قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: حلق رجال يومئذ وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين - الحديث، وفي آخره - قالوا يا رسول الله لم ظاهرت للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكوا".
قال ابن إسحاق قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا حتى إذا كان بين مكة والمدينة ونزلت سورة الفتح - فذكر الحديث في تفسيرها إلى أن قال - قال الزهري فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس كلم بعضهم بعضا والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، يعني من صناديد قريش.
ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه كان مقدمة بين الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجا، وكانت الهدنة مفتاحا لذلك.
ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحا كما سيأتي في المغازي، فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيما للمسلمين وفي الصورة الباطنة عزا لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
قوله: (ثم جاءه نسوة مؤمنات إلخ) ظاهره أنهن جئن إليه وهو بالحديبية، وليس كذلك وإنما جئن إليه بعد في أثناء المدة، وقد تقدم في أول الشروط من رواية عقيل عن الزهري ما يشهد لذلك حيث قال: " ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة ولو كان مسلما، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة ممن خرج، ويقال إنها كانت تحت عمرو بن العاص، وسمي من المؤمنات المذكورات أميمة بنت بشر وكانت تحت حسان - ويقال ابن دحداحة - قبل أن يسلم فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له ابنه عبد الله بن سهل، ذكر ذلك ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن أبي حبيب مرسلا، والطبري من طريق ابن إسحاق عن الزهري.
وسبيعة بنت الحارث الأسلمية وكانت تحت مسافر المخزومي ويقال صيفي بن الراهب، والأول أولى فقد ذكر ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان أن امرأة صيفي اسمها سعيدة فتزوجها عمر.
وأم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد فارتدت كما سيأتي بيانه في آخر الشروط.
وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة كانت تحت عمرو بن عبدود.
قلت.
لكن عمرو قتل بالخندق وكأنها فرت بعد قتله، وكان من سنة الجاهلية أن من مات زوجها كان أهله أحق بها.
وكان ممن خرج من النساء في تلك المدة بنت حمزة بن عبد المطلب كما سيأتي بيانه في عمرة القضية، ويأتي تفصيل ذلك في المغازي، وشرح قصة الامتحان في أواخر كتاب النكاح في " باب نكاح من أسلم من المشركات " مع بقية فوائده إن شاء الله تعالى.
(يتبع...)
(تابع... 1): الحديث:......
قوله: (ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير) بفتح الموحدة وكسر المهملة رجل من قريش هو عتبة بضم المهملة وسكون المثناة وقيل فيه عبيد بموحدة مصغر - وهو وهم - ابن أسيد بفتح الهمزة على الصحيح ابن جارية بالجيم الثقفي حليف بني زهرة سماه ونسبه ابن إسحاق في روايته، وعرف بهذا أن قوله في حديث الباب " رجل من قريش " أي بالحلف لأن بني زهرة من قريش.
قوله: (فأرسلوا في طلبه رجلين) سماهما ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة أبي بصير خنيس وهو بمعجمة ونون وآخره مهملة مصغر ابن جابر ومولى له يقال له كوثر، وفي الرواية الآتية آخر الباب أن الأخنس بن شريق هو الذي أرسل في طلبه، زاد ابن إسحاق " فكتب الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني عامر استأجراه ببكرين " ا هـ.
والأخنس من ثقيف رهط أبي بصير، وأزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير فلكل منهما المطالبة برده، ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة أو الحلف، وقيل إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران، زاد الواقدي فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
قوله: (فدفعه إلى الرجلين) في رواية ابن إسحاق " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك.
فقال: أتردني إلى المشركين يفتنوني عن ديني ويعذبونني؟ قال: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا " وفي رواية أبي المليح من الزيادة " فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف " وهذا أوضح في التعريض بقتله.
واستدل بعض الشافعية بهذه القصة على جواز دفع المطلوب لمن ليس من عشيرته إذا كان لا يخشى عليه منه، لكونه صلى الله عليه وسلم دفع أبا بصير للعامري ورفيقه ولم يكونا من عشيرته ولم يكونا من رهطه، لكنه أمن عليه منهما لعلمه بأنه كان أقوى منهما، ولهذا آل الأمر إلى أنه قتل أحدهما وأراد قتل الآخر.
وفيما استدل به من ذلك نظر، لأن العامري ورفيقه إنما كانا رسولين، ولو أن فيهما ريبة لما أرسلهما من هو من عشيرته.
وأيضا فقبيلة قريش تجمع الجميع لأن بني زهرة وبني عامر جميعا من قريش وأبو بصير كان من حلفاء بني زهرة كما تقدم، وقد وقع في رواية أبي المليح " جاء أبو بصير مسلما وجاء وليه خلفه فقال: يا محمد رده علي فرده " ويجمع بأن فيه مجازا والتقدير: جاء رسول وليه، ورسول اسم جنس يشمل الواحد فصاعدا، أو يحمل على أن الآخر كان رفيقا للرسول ولم يكن رسولا بالأصالة.
قوله: (فنزلوا يأكلون من تمر لهم) في رواية الواقدي " فلما كانوا بذي الحليفة دخل أبو بصير المسجد فصلى ركعتين وجلس يتغدى، ودعاهما فقدم سفرة لهما فأكلوا جميعا".
قوله: (فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق " للعامري " وفي رواية ابن سعد " لخنيس بن جابر".
قوله: (فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده.
قوله: (فأمكنه به) أي بيده.
وفي رواية الكشميهني " فأمكنه منه".
قوله: (فضربه حتى برد) بفتح الموحدة والراء أي خمدت حواسه، وهي كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته، وأصل البرد السكون، قاله الخطابي.
وفي رواية ابن إسحاق " فعلاه حتى قتله".
قوله: (وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق " وخرج المولى يشتد " أي هربا.
قوله: (ذعرا) أي خوفا.
وفي رواية ابن إسحاق فزعا.
قوله: (قتل صاحبي) بضم القاف، في رواية ابن إسحاق " قتل صاحبكم صاحبي".
قوله: (وإني لمقتول) أي إن لم تردوه عني، وعند الواقدي " وقد أفلت منه ولم أكد " ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة " فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما فأوثقاه، حتى إذا كان ببعض الطريق ناما فتناول السيف بفيه فأمره على الإسار فقطعه وضرب أحدهما بالسيف وطلب الآخر فهرب " والأول أصح.
وفي رواية الأوزاعي عن الزهري عند ابن عائذ في المغازي " وجمز الآخر واتبعه أبو بصير حتى دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه وقد بدا طرف ذكره والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، وأبو بصير يتبعه".
قوله: (قد والله أوفى الله ذمتك) أي فليس عليك منهم عقاب فيما صنعت أنا، زاد الأوزاعي عن الزهري " فقال أبو بصير: يا رسول الله عرفت أني إن قدمت عليهم فتنوني عن ديني ففعلت ما فعلت وليس بيني وبينهم عهد ولا عقد " ا هـ.
وفيه أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله العامري ولا أمر فيه يقود ولا دية، والله أعلم.
قوله: (ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك فهو كقولهم " لأمه الويل " قال بديع الزمان في رسالة له: والعرب تطلق " تربت يمينه " في الأمر إذا أهم ويقولون " ويل أمه " ولا يقصدون الذم.
والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي " ويلك".
وقال الفراء: أصل قولهم ويل فلان وي لفلان أي فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها وأعربوها، وتبعه ابن مالك إلا أنه قال تبعا للخليل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال واللام بعدها مكسورة ويجوز ضمها إتباعا للهمزة وحذفت الهمزة تخفيفا، والله أعلم.
قوله: (مسعر حرب) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب، أي يسعرها.
قال الخطابي: كأنه يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها، ووقع في رواية ابن إسحاق " محش " بحاء مهملة وشين معجمة وهو بمعنى مسعر، وهو العود الذي يحرك به النار.
قوله: (لو كان له أحد) أي ينصره ويعاضده ويناصره.
وفي رواية الأوزاعي " لو كان له رجال " فلقنها أبو بصير فانطلق، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم: يجوز التعريض بذلك لا التصريح كما في هذه القصة والله أعلم.
قوله: (حتى أتى سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء أي ساحله، وعين ابن إسحاق المكان فقال " حتى نزل العيص " وهو بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها مهملة قال: وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام.
قلت: وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل، وهو قريب من بلاد بني سليم.
قوله: (وينفلت منهم أبو جندل) أي من أبيه وأهله، وفي تعبيره بالصيغة المستقبلة إشارة إلى إرادة مشاهدة الحال كقوله تعال: (الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا) وفي رواية أبي الأسود عن عروة " وانفلت أبو جندل في سبعين راكبا مسلمين فلحقوا بأبي بصير فنزلوا قريبا من ذي المروة على طريق عير قريش فقطعوا مادتهم".
قوله: (حتى اجتمعت منهم عصابة) أي جماعة ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها.
وهذا الحديث يدل على أنها تطلق على أكثر من ذلك، ففي رواية ابن إسحاق أنهم بلغوا نحوا من سبعين نفسا.
وفي رواية أبي المليح: بلغوا أربعين أو سبعين، وجزم عروة في المغازي بأنهم بلغوا سبعين، وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلاثمائة رجل، وزاد عروة " فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا المدينة في مدة الهدنة خشية أن يعادوا إلى المشركين " وسمي الواقدي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة.
قوله: (ما يسمعون بعير) أي بخبر عير بالمهملة المكسورة أي قافلة.
قوله: (إلا اعترضوا لها) أي وقفوا في طريقها بالعرض، وهي كناية عن منعهم لها من السير.
قوله: (فأرسلت قريش) في رواية أبي الأسود عن عروة " فأرسلوا أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي جندل ومن معه وقالوا: ومن خرج منا إليك فهو لك حلال غير حرج".
قوله: (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم) في رواية أبي الأسود المذكورة " فبعث إليهم فقدموا عليه " وفي رواية موسى بن عقبة عن الزهري " فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير، فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا.
قال وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فل يزل بها إلى أن خرج إلى الشام مجاهدا فاستشهد في خلافة عمر، قال فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مما كرهوا " وفي قصة أبي بصير من الفوائد جواز قتل المشرك المعتدي غيلة، ولا يعد ما وقع من أبي بصير غدرا لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لأنه إذ ذاك كان محبوسا بمكة، لكنه لما خشي أن المشرك يعيده إلى المشركين درأ عن نفسه بقتله، ودافع عن دينه بذلك، ولم ينكر النبي قوله ذلك.
وفيه أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية، قد وقع عند ابن إسحاق " أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته لأنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك لأنه وفي بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره.
ولا على آل أبي بصير أيضا شيء لأنه ليس على دينهم".
وفيه أنه كان لا يرد على المشركين من جاء منهم إلا بطلب منهم، لأنهم لما طلبوا أبا بصير أول مرة أسلمه لهم، ولما حضر إليه ثانيا لم يرسله لهم، بل لو أرسلوا إليه وهو عنده لأرسله، فلما خشي أبو بصير من ذلك نجا بنفسه.
وفيه أن شرط الرد أن يكون الذي حضر من دار الشرك باقيا في بلد الإمام، ولا يتناول من لم يكن تحت يد الإمام ولا متحيزا إليه.
واستنبط منه بعض المتأخرين أن بعض ملوك المسلمين مثلا لو هادن بعض ملوك الشرك فغزاهم ملك آخر من المسلمين فقتلهم وغنم أموالهم جاز له ذلك، لأن عهد الذي هادنهم لـم يتناول من لم يهادنهم، ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يكن هناك قرينة تعميم.
قوله: (فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) كذا هنا، ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ومن حديث أنس بن مالك أيضا، وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة فظفروا بهم، فعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية.
وقيل في نزولها غير ذلك.
قوله: (معرة العر الجرب) يعني أن المعرة مشتقة من العر بفتح المهملة وتشديد الراء.
قوله: (تزيلوا تميزوا، حميت القوم منعتهم حماية إلخ) هذا القدر من تفسير سورة الفتح في المجاز لأبي عبيدة وهو في رواية المستملي وحده.
قوله: (قال عقيل عن الزهري) تقدم موصولا بتمامه في أول الشروط، وأراد المصنف بإيراده بيان ما وقع في رواية معمر من الإدراج.
قوله: (وبلغنا) هو مقول الزهري، وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق عقيل.
وقوله: (وبلغنا أن أبا بصير إلخ) هو من قول الزهري أيضا والمراد به أن قصة أبي بصير في رواية عقيل من مرسل الزهري.
وفي رواية معمر موصولة إلى المسور، لكن قد تابع معمرا على وصلها ابن إسحاق كما تقدم، وتابع عقيلا الأوزاعي على إرسالها.
فلعل الزهري كان يرسلها تارة ويوصلها أخرى والله أعلم.
ووقع في هذه الرواية الأخيرة من الزيادة " وما نعلم أن أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها " وفيها قوله: " أن أبا بصير بن أسيد بفتح الهمزة قدم مؤمنا " كذا للأكثر.
وفي رواية السرخسي والمستملي " قدم من منى " وهو تصحيف.
قوله: (أن عمر طلق امرأتين قريبة) يأتي ضبطها وبيان الحكم في ذلك في كتاب النكاح في " باب نكاح من أسلم من المشركات".
وقوله: (فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم) يشير إلى قوله تعالى: (واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) وقد بينه عبد الرزاق في روايته عن معمر عن الزهري فذكر القصة وفيها " لما نزلت حكم على المشركين بمثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يرد الصداق إلى زوجها، قال الله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فأتاه المؤمنون فأقروا بحكم الله، وأما المشركون فأبوا أن يقروا، فأنزل الله: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) .
قوله: (والعقب إلخ) بفتح العين المهملة وكسر القاف.
قوله: (وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها) هو كلام الزهري، وأراد بذلك الإشارة إلى أن العاقبة المذكورة بالنسبة إلى الجانبين إنما وقعت في الجانب الواحد، لأنه لم يعرف أحدا من المؤمنات فرت من المسلمين إلى المشركين بخلاف عكسه، وقد ذكر ابن أبي حاتم من طريق الحسن أن أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت وفرت من زوجها عياض بن شداد فتزوجها رجل من ثقيف ولم يرتد من قريش غيرها ولكنها أسلمت بعد ذلك مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت ذلك فيجمع بينه وبين قول الزهري بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أشياء تتعلق بالمناسك: منها أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة للحاج والمعتمر، وأن تقليد الهدي وسوقه سنة للحاج والمعتمر فرضا كان أو سنة، وأن الإشعار سنة لا مثلة، وأن الحلق أفضل من التقصير، وأنه نسك في حق المعتمر محصورا كان أو غير محصور، وأن المحصر ينحر هديه حيث أحصر ولو لم يصل إلى الحرم، ويقاتل من صده عن البيت، وأن الأولى في حقه ترك المقاتلة إذا وجد إلى المسالمة طريقا، وغير ذلك مما تقدم بسط أكثره في كتاب الحج.
وفيه أشياء تتعلق بالجهاد: منها جواز سبي ذراري الكفار إذا انفردوا عن المقاتلة ولو كان قبل القتال.
وفيه الاستتار عن طلائع المشركين، ومفاجأتهم بالجيش لطلب غرتهم، وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الطريق الوعر لدفع المفسدة وتحصيل المصلحة، واستحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة المسلمين، وجواز الخداع في الحرب، والتعريض بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من خصائصه أنه منهي عن خائنة الأعين.
وفي الحديث أيضا فضل الاستشارة لاستخراج وجه الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين، واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحا في أصله إذا تعين ذلك طريقا للسلامة في الحال والصلاح في المآل سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال بل عليه التسليم، لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالبا بكثرة التجربة ولا سيما مع من هو مؤيد بالوحي.
وفيه جواز الاعتماد على خبر الكافر إذا قامت القرينة على صدقه، قاله الخطابي مستدلا بأن الخزاعي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عينا له ليأتيه بخبر قريش كان حينئذ كافرا، وإنما اختاره لذلك مع كفره ليكون أمكن له في الدخول فيهم والاختلاط بهم والاطلاع على أسرارهم، قال: ويستفاد من ذلك جواز قبول قول الطبيب الكافر.
قلت: ويحتمل أن يكون الخزاعي المذكور كان قد أسلم ولم يشتهر إسلامه حينئذ، فليس ما قاله دليلا على ما ادعاه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.