3* باب لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب لا وصية لوارث) هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري فترجم به كعادته واستغنى بما يعطي حكمه.
وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري.
وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي: حديث حسن.
وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي، وعن أنس عند ابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدار قطني وعن جابر عند الدار قطني أيضا وفال: الصواب إرساله، وعن علي عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا، بل جنح الشافعي في " الأم " إلى أن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح " لا وصية لوارث " ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد.
وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره، والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم، لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة كما سيأتي بيانه، وروى الدار قطني من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا " لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة " كما سيأتي بيانه، ورجاله ثقات، إلا أنه معلول: فقد قيل إن عطاء هو الخراساني والله أعلم.
وكأن البخاري أشار إلى ذلك فترجم بالحديث.
وأخرج من طريق عطاء وهو ابن أبي رباح عن ابن عباس حديث الباب وهو موقوف لفظا، إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقدير، ووجه دلالته للترجمة من جهة أن نسخ الوصية للوالدين وإثبات الميراث لهما بدلا منها يشعر بأنه لا يجمع لهما بين الميراث والوصية، وإذا كان كذلك كان من دونهما أولى بأن لا يجمع ذلك له، وقد أخرجه ابن جرير من طريق مجاهد بن جبر عن ابن عباس بلفظ " وكانت الوصية للوالدين والأقربين إلخ " فظهرت المناسبة بهذه الزيادة؛ وقد وافق محمد بن يوسف - وهو الفريابي في روايته إياه عن ورقاء - عيسى بن ميمون كما أخرجه ابن جرير، وخالف ورقاء شبل عن ابن أبي نجيح فجعل مجاهدا موضع عطاء أخرجه ابن جرير أيضا، ويحتمل أنه كان عند ابن أبي نجيح على الوجهين والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ
الشرح:
قوله (وجعل للمرأة الثمن والربع) أي في حالين وكذلك للزوج، قال جمهور العلماء: كانت هذه الوصية في أول الإسلام واجبة لوالدي الميت وأقربائه على ما يراه من المساواة والتفضيل، ثم نسخ ذلك بآية الفرائض، وقيل كانت للوالدين والأقربين دون الأولاد فإنهم كانوا يرثون ما يبقى بعد الوصية، وأغرب ابن شريح فقال كانوا مكلفين بالوصية للوالدين والأقربين بمقدار الفريضة التي في علما الله قبل أن ينزلها؛ واشتد إنكار إمام الحرمين عليه في ذلك.
وقيل إن الآية مخصوصة لأن الأقربين أعم من أن يكونوا وراثا، وكانت الوصية واجبة لجميعهم فخص منها من ليس بوارث بآية الفرائض وبقوله صلى الله عليه وسلم: " لا وصية لوارث " وبقي حق من لا يرث من الأقربين من الوصية على حاله قاله طاوس وغيره، وقد تقدمت الإشارة إليه قبل.
واختلف في تعيين ناسخ آية (الوصية للوالدين والأقربين) فقيل آية الفرائض وقيل الحديث المذكور، وقيل دل الإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله.
واستدل بحديث " لا وصية لوارث " بأنه لا تصح الوصية للوارث أصلا كما تقدم، وعلى تقدير نفاذها من الثلث لا تصح الوصية له ولا لغيره بما زاد على الثلث ولو أجازت الورثة، وبه قال المزني وداود، وقواه السبكي واحتج له بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد فإن فيه عند مسلم " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قولا شديدا " وفسر القول الشديد في رواية أخرى بأنه قال: " لو علمت ذلك ما صليت عليه " ولم ينقل أنه راجع الورثة فدل على منعه مطلقا، وبقوله في حديث سعد بن أبي وقاص: " وكان بعد ذلك الثلث جائزا " فإن مفهومه أن الزائد على الثلث ليس بجائز، وبأنه صلى الله عليه وسلم منع سعدا من الوصية بالشطر ولم يستثن صورة الإجازة واحتج من أجازه بالزيادة المتقدمة وهي قوله: " إلا أن يشاء الورثة " فإن صحت هذه الزيادة فهي حجة واضحة.
واحتجوا من جهة المعنى بأن المنع إنما كان في الأصل لحق الورثة، فإذا أجازوه لم يمتنع واختلفوا بعد ذلك في وقت الإجازة فالجمهور على أنهم إن أجازوا في حياة الموصي كان لهم الرجوع متى شاءوا، وإن أجازوا بعده نفذ، وفصل المالكية في الحياة بين مرض الموت وغيره فألحقوا مرض الموت بما بعده، واستثنى بعضهم ما إذا كان المجيز في عائلة الموصي وخشي من امتناعه انقطاع معروفه عنه لو عاش فإن لمثل هذا الرجوع.
وقال الزهري وربيعة ليس لهم الرجوع مطلقا واتفقوا على اعتبار كون الموصي له وارثا بيوم الموت حتى لو أوصى لأخيه الوارث حيث لا يكون له ابن يحجب الأخ المذكور فولد له ابن قبل موته يحجب الأخ فالوصية للأخ المذكور صحيحة، ولو أوصى لأخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارث، واستدل به على منع وصية من لا وارث له سوى بيت المال لأنه ينتقل إرثا للمسلمين، والوصية للوارث باطلة، وهو وجه ضعيف جدا حكاه القاضي حسين، ويلزم قائله أن لا يجيز الوصية للذمي أو يقيد ما أطلق، والله أعلم.
*3* باب الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب الصدقة عند الموت) أي جوازها، وإن كانت في حال الصحة أفضل.
أورد فيه حديث أبي هريرة قال: " قال رجل: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال أن تصدق وأنت صحيح " الحديث، وقد تقدم في كتاب الزكاة من وجه آخر، وبينت هناك اختلاف ألفاظه.
ووقع التصريح بالتحديث هناك في جميع إسناده بدل العنعنة هنا.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ
الشرح:
قوله: (أن تصدق) بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين، وأصله أن تتصدق.
وبالتشديد على إدغامها.
قوله: (ولا تمهل) بالإسكان على أنه نهي، وبالرفع على أنه نفي، ويجوز النصب.
قوله: (قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال.
وقال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى له وفلان الأخير الوارث لأنه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه.
وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد بالجميع من يوصى له وإنما أدخل " كان " في الثالث إشارة إلى تقدير القدر له بذلك.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأول الوارث والثاني المورث والثالث الموصى له.
قلت: ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقرارا، وقد وقع في رواية ابن المبارك عن سفيان عند الإسماعيلي " قلت اصنعوا لفلان كذا وتصدقوا بكذا " ووقع في حديث بسر بن جحاش وهو يضم الموحدة وسكون المهملة وأبوه بكسر الجيم وتخفيف المهملة وآخره شين معجمة عند أحمد وابن ماجة وصححه واللفظ لابن ماجة " بزق النبي صلى الله عليه وسلم في كفه ثم وضع إصبعه السبابة وقال.
يقول الله أني يعجزني ابن آدم، وقد خلقتك من قبل من مثل هذه، فإذا بلغت نفسك إلى هذه - وأشار إلى حلقه - قلت أتصدق، وأني أوان الصدقة " وزاد في رواية أبي اليمان " حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا وتصدقوا بكذا " وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: " وأنت صحيح حريص تأمل الغنى إلخ " لأنه في حال الصحة يصعب علبه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال كما قال تعالى (الشيطان يعدكم الفقر) الآية، وأيضا فإن الشيطان ربما زين له الحيف في الوصية أو الرجوع عن الوصية فيتمحض تفضيل الدقة الناجزة، قال بعض السلف عن بعض أهل الترف: يعصون الله في أموالهم مرتين: يبخلون بها وهي في أيديهم يعني في الحياة، ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم، يعني بعد الموت.
وأخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا قال: " مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع"، وهو يرجع إلى معنى حديث الباب، وروى أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا " لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة".