*3* باب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ حذف التشكيل
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ وَقَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ
الشرح:
قوله: (باب عمل صالح قبل القتال.
وقال أبو الدرداء إنما تقاتلون بأعمالكم) هكذا وقع عند الجميع ولعله كان قاله أبو الدرداء وقال " إنما تقاتلون بأعمالكم " وإنما قلت ذلك لأنني وجدت ذلك في " المجالسة للدينوري " من طريق أبي إسحاق الفزاري " عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد أن أبا الدرداء قال: أيها الناس عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم".
ثم ظهر لي سبب تفصيل البخاري، وذلك أن هذه الطريق منقطعة بين ربيعة وأبي الدرداء، وقد روى ابن المبارك في كتاب الجهاد عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن ابن حلبس بفتح المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة وآخره سين مهملة " عن أبي الدرداء قال: (إنما تقاتلون بأعمالكم) ولم يذكر ما قبله فاقتصر البخاري على ما ورد بالإسناد المتصل فعزاه إلى أبي الدرداء، ولذلك جزم به عنه، واستعمل بقية ما ورد عنه بالإسناد المنقطع في الترجمة إشارة إلى أنه لم يغفله.
قوله: (وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون - إلى قوله - بنيان مرصوص) ذكر فيه حديث البراء في قصة الذي قتل حين أسلم، قال ابن المنير: مناسبة الترجمة والآية للحديث ظاهرة وفي مناسبة الترجمة للآية خفاء وكأنه من جهة أن الله عاتب من قال إنه يفعل الخير ولم يفعله، وأثنى على من وفى وثبت عند القتال، أو من جهة أنه أنكر على من قدم على القتال قولا غير مرضي فكشف الغيب أنه أخلف، فمفهومه ثبوت الفضل في تقديم الصدق والعزم الصحيح على الوفاء وذلك من أصلح الأعمال انتهى.
وهذا الثاني أظهر فيما أرى والله أعلم.
وقال الكرماني: المقصود من الآية في هذه الترجمة قوله في آخرها (صفا كأنهم بنيان مرصوص) لأن الصف في القتال من العمل الصالح قبل القتال، انتهى.
وسيأتي تفسير قوله: (مرصوص) في التفسير.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا
الشرح:
قوله: (حدثني محمد بن عبد الرحيم) هو الحافظ المعروف بصاعقة، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي.
قوله: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل) لم أقف على اسمه ووقع عند مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق أنه من الأنصار ثم من بني النبيت بفتح النون وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوق ولولا ذلك لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش بفتح الواو والقاف بعدها معجمة وهو المعروف بأصرم بن عبد الأشهل، فإن بني عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس وهم غير بني النبيت، وقد أخرج ابن إسحاق في المغازي قصة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول " أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة؟ ثم يقول: هو عمرو بن ثابت " قال ابن إسحاق قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود ابن لبيد: كيف كانت قصته؟ قال: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس فقاتل حتى وقع جريحا، فوجده قومه في المعركة فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما أصابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل الجنة " وروى أبو داود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة " كان عمرو يأبى الإسلام لأجل ربا كان له في الجاهلية، فلما كان يوم أحد قال: أين قومي؟ قالوا بأحد، فأخذ سيفه ولحقهم، فلما رأوه قالوا: إليك عنا، قال: إني قد أسلمت، فقاتل حتى جرح، فجاءه سعد بن معاذ فقال: خرجت غضبا لله ولرسوله، ثم مات فدخل الجنة وما صلى صلاة.
فيجمع بين الروايتين بأن الذين رأوه وقالوا له: إليك عنا، ناس غير قومه، وأما قومه فما شعروا بمجيئه حتى وجدوه في المعركة.
ويجمع بينهما وبين حديث الباب بأنه جاء أولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستشاره ثم أسلم ثم قاتل، فرآه أولئك الذين قالوا له إليك عنا.
ويؤيد هذا الجمع قوله لهم " قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكأن قومه وجدوه بعد ذلك فقالوا له ما قالوا.
ويؤيد الجمع أيضا ما وقع في سياق حديث البراء عند النسائي، فإنه أخرجه من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق نحو رواية إسرائيل وفيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أني حملت على القوم فقاتلت حتى أقتل أكان خيرا لي ولم أصل صلاة؟ قال نعم " ونحوه لسعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي إسحاق وزاد في أوله أنه قال " أخير لي أن أسلم؟ قال نعم: فأسلم " فإنه موافق لقول أبي هريرة " إنه دخل الجنة وما صلى لله صلاة " وأما كونه من بني عبد الأشهل ونسب في رواية مسلم إلى بني النبيت فيمكن أن يحمل على أن له في بني النبيت نسبة ما، فإنهم إخوة بني عبد الأشهل يجمعهم الانتساب إلى الأوس.
قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون مشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب.
قوله: (وأجر كثيرا) بالضم على البناء أي أجر أجرا كثيرا، وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير فضلا من الله وإحسانا.