*3* باب الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ حذف التشكيل
يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ أَنْكَحْنَاهُمْ
الشرح:
قوله: (الحور العين وصفتهن) كذا لأبي ذر بغير باب وثبت لغيره، ووقع عند ابن بطال " باب نزول الحور العين إلخ " ولم أره لغيره.
قوله: (يحار فيها الطرف) أي يتحير، قال ابن التين: هذا يشعر بأنه رأى أن اشتقاق الحور عن الحيرة، وليس كذلك، فإن الحور بالواو والحيرة بالياء، وأما قول الشاعر " حوراء عيناء من العين الحير " فهو للاتباع.
قلت: لعل البخاري لم يرد الاشتقاق الأصغر.
قوله: (شديدة سواد العين شديدة بياض العين) كأنه يريد تفسير العين، والعين بالكسر جمع عيناء وهي الواسعة العين الشديدة السواد والبياض قاله أبو عبيدة.
قوله: (وزوجناهم بحور: أنكحناهم) هو تفسير أبي عبيدة ولفظه: زوجناهم أي جعلناهم أزواجا أي اثنين اثنين كما تقول زوجت النعل بالنعل.
وقال في موضع آخر: أي جعلنا ذكران أهل الجنة أزواجا بحور من النساء.
وتعقب بأن زوج لا يتعدى بالباء قاله الإسماعيلي وغيره، وفيه نظر لأن صاحب المحكم حكاه لكن قال: أنه قليل، والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى
الشرح:
قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي، وهو من شيوخ البخاري يروى عنه تارة بواسطة كما هنا وتارة بلا واسطة كما في كتاب الجمعة.
قوله: (حدثنا أبو إسحاق) هو الفزاري إبراهيم بن محمد.
الحديث:
قَالَ وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
الشرح:
اشتمل هذا السياق على أربعة أحاديث: الأول يأتي شرحه بعد ثلاثة عشر بابا، الثاني تقدم شرحه في الذي قبله، الثالث والرابع يأتي شرحهما في صفة الجنة من كتاب الرقاق.
وقوله في الباب " ولقاب قوس أحدكم " تقدم شرح، " القاب " في الذي قبله، وقوله هنا " أو موضع قيد يعني سوطه " شك من الراوي هل قال قاب أو قيد، وقد تقدم أنهما بمعنى وهو المقدار.
وقوله "يعني سوطه " تفسير للقيد غير معروف، ولهذا جزم بعضهم بأنه تصحيف وأن الصواب " قد " بكسر القاف وتشديد الدال وهو السوط المتخذ من الجلد.
قلت: ودعوى الوهم في التفسير أسهل من دعوى التصحيف في الأصل ولا سيما والقيد بمعنى القاب كما بينته، والمقصود من ذلك لهذه الترجمة الأخير، وقوله فيه، " ولنصيفها " بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء هو الخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، قال المهلب: إنما أورد حديث أنس هذا ليبين المعنى الذي من أجله يتمنى الشهيد أن يرجع إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى في سبيل الله، لكونه يرى من الكرامة بالشهادة فوق ما في نفسه، إذ كل واحدة يعطاها من الحور العين لو اطلعت على الدنيا لأضاءت كلها انتهى.
وروى ابن ماجه من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال " ذكر الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجاته من الحور العين وفي يد كل واحدة منها حلة خير من الدنيا وما فيها " ولأحمد والطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا " أن للشهيد عند الله سبع خصال " فذكر الحديث وفيه " ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين " إسناده حسن، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب وصححه.
*3* باب تَمَنِّي الشَّهَادَةِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب تمني الشهادة) تقدم توجيهه في أول كتاب الجهاد وأن تمنيها والقصد لها مرغب فيه مطلوب.
وفي الباب أحاديث صريحة في ذلك منها عن أنس مرفوعا " من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم يصبها أي أعطي ثوابها ولو لم يقتل " أخرجه مسلم، وأصرح منه في المراد ما أخرجه الحاكم بلفظ " من سأل القتل في سبيل الله صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد " وللنسائي من حديث معاذ مثله، وللحاكم من حديث سهل ابن حنيف مرفوعا " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه".
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ
الشرح:
قوله: (أن أبا هريرة) هذا الحديث رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين منهم سعيد بن المسيب هنا وأبو زرعة بن عمرو في " باب الجهاد من الإيمان " من كتاب الإيمان، وأبو صالح وهو في " باب الجعائل والحملان " في أثناء كتاب الجهاد، والأعرج وهو في كتاب التمني، وهمام وهو عند مسلم وسأذكر ما في رواية كل واحد منهم من زيادة فائدة.
قوله: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم) في رواية أبي زرعة وأبي صالح " لولا أن أشق على أمتي " ورواية الباب تفسر المراد بالمشقة المذكورة وهي أن نفوسهم لا تطيب بالتخلف ولا يقدرون على التأهب لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره وتعذر وجوده عند النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك في رواية همام ولفظه " لكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي " وفي رواية أبي زرعة عند مسلم نحوه، ورواه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري وفيه " ولو خرجت ما بقي أحد فيه خير إلا انطلق معي، وذلك يشق علي وعليهم) ، ووقع في رواية أبي صالح من الزيادة " ويشق على أن يتخلفوا عني".
قوله: (والذي نفسي بيده لوددت) وقع في رواية أبي زرعة المذكورة بلفظ " ولوددت أني أقتل " بحذف القسم، وهو مقدر لما بينته هذه الرواية، فظهر أن اللام لام القسم وليست بجواب لولا، وفهم بعض الشراح أن قوله " لوددت " معطوف على قوله " ما قعدت " فقال: يجوز حذف اللام وإثباتها من جواب لولا، وجعل الودادة ممتنعة خشية وجود المشقة لو وجدت، وتقدير الكلام عنده: لولا أن أشق على أمتي لوددت أني أقتل في سبيل الله.
ثم شرع يتكلف استشكال ذلك والجواب عنه، وقد بينت رواية الباب أنها جملة مستأنفة وأن اللام جواب القسم.
ثم النكتة في إيراد هذه الجملة عقب ثلث إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، وكأنه قال: الوجه الذي يسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أني أقتل مرات، فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد، فراعى خواطر الجميع.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وتخلف عنه المشار إليهم، وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم، وسيأتي بيان ذلك في " باب من حبسه العذر".
قوله: (أقتل في سبيل الله) استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل، وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة، والذي يظهر في الجواب أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم " وددت لو أن موسى صبر " كما سيأتي في مكانه، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه، قال ابن التين: وهذا أشبه.
وحكى شيخنا ابن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله " ولوددت " مدرج من كلام أبي هريرة قال: وهو بعيد، قال النووي: في هذا الحديث الحض على حسن النية، وبيان شدة شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واستحباب طلب القتل في سبيل الله، وجواز قول وددت حصول كذا من الخير وإن علم أنه لا يحصل.
وفيه ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة، وفيه جواز تمني ما يمتنع في العادة، والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين.
وفيه أن الجهاد على الكفاية إذ لو كان على الأعيان ما تخلف عنه أحد قلت: وفيه نظر، لأن الخطاب إنما يتوجه للقادر، وأما العاجز فمعذور، وقد قال سبحانه (غير أولي الضرر) وأدلة كون الجهاد فرض كفاية تؤخذ من غير هذا، وسيأتي البحث في " باب وجوب النفير " إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ وَقَالَ مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ
الشرح:
قوله: (حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار) بالمهملة وتشديد الفاء، كوفي ثقة يكنى أبا يعقوب، لم يخرج عنه البخاري سوى هذا الحديث، ورجال الإسناد من شيخه إسماعيل بن علية فصاعدا بصريون، وسيأتي شرح المتن في غزوة مؤتة من كتاب المغازي، ووجه دخوله في هذه الترجمة من قوله " ما يسرهم أنهم عندنا " أي لما رأوا من الكرامة بالشهادة فلا يعجبهم أن يعودوا إلى الدنيا كما كانوا من غير أن يستشهدوا مرة أخرى، وبهذا التقرير يحصل الجمع بين حديثي الباب، ودليل ما ذكرته من الاستثناء ما سيأتي بعد أبواب من حديث أنس أيضا مرفوعا " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد " الحديث.