*2*كِتَاب الْمَنَاقِبِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الشرح:
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم باب المناقب) كذا في الأصول التي وقفت عليها من كتاب البخاري، وذكر صاحب الأطراف وكذا في بعض الشروح أنه قال " كتاب المناقب " فعلى الأول هو من جملة كتاب أحاديث الأنبياء، وعلى الثاني هو كتاب مستقل، والأول أولى فإنه يظهر من تصرفه أنه قصد به سياق الترجمة النبوية بأن يجمع فيه أمور النبي صلى الله عليه وسلم من المبدأ إلى المنتهى، فبدأ بمقدماتها من ذكر ما يتعلق بالنسب الشريف فذكر أشياء تتعلق بالأنساب ومن ثم ذكر أمورا تتعلق بالقبائل، ثم النهي عن دعوى الجاهلية لأن معظم فخرهم كان بالأنساب ثم ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله ومعجزاته، واستطرد منها لفضائل أصحابه؛ ثم أتبعها بأحواله قبل الهجرة وما جرى له بمكة فذكر المبعث، ثم إسلام الصحابة وهجرة الحبشة والمعراج ووفود الأنصار والهجرة إلى المدينة، ثم ساق المغازي على ترتيبها عنده ثم الوفاة، فهذا آخر هذا الباب وهو من جملة تراجم الأنبياء وختمها بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
*3* باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حذف التشكيل
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وَقَوْلِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا وَمَا يُنْهَى عَنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ الشُّعُوبُ النَّسَبُ الْبَعِيدُ وَالْقَبَائِلُ دُونَ ذَلِكَ
الشرح:
قوله: (وقول الله عز وجل (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) الآية) يشير إلى ما تضمنته هذه الآية من أن المناقب عند الله إنما هي بالتقوى بأن يعمل بطاعته ويكف عن معصيته، قد ورد في الحديث ما يوضح ذلك: ففي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان وتفسير ابن مردويه من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال " خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال: أما بعد يا أيها الناس، فإن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها.
يا أيها الناس، الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله ثم تلا (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) ورجاله ثقات إلا أن ابن مردويه ذكر أن محمد بن المقري راويه عن عبد الله بن رجاء عن موسى بن عقبة وهم في قوله موسى بن عقبة وإنما هو موسى بن عبيدة، وابن عقبة ثقة وابن عبيدة ضعيف، وهو معروف برواية موسى بن عبيدة، كذلك أخرجه ابن أبي حاتم وغيره، وروى أحمد والحارث وابن حاتم من طريق أبي نضرة " حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وهو على بعير يقول: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، خيركم عند الله أتقاكم".
قوله: (لتعارفوا) أي ليعرف بعضكم بعضا بالنسب يقول فلان ابن فلان وفلان ابن فلان، أخرجه الطبري عن مجاهد.
قوله: (وقوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) قال ابن عباس: أي اتقوا الأرحام وصلوها، أخرجه ابن أبي حاتم عنه، والأرحام جمع رحم، وذوو الرحم الأقارب يطلق على كل من يجمع بينه وبين الآخر نسب، والقراءة المشهورة " والأرحام " نصبا وعليها جاء التفسير، وقرأ حمزة " والأرحام " بالجر، واختلف في توجيهه فقيل معطوف على الضمير المجرور في " به " من غير إعادة الجار وهو جائز عند جمع، ومنعه البصريون، وقرأها ابن مسعود فيما قيل بالرفع فإن ثبت فهو مبتدأ والخبر محذوف تقديره مما يتقي أو مما يسأل به، والمراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى الاحتياج إلى معرفة السبب أيضا لأنه يعرف به ذوو الأرحام المأمور بصلتهم، وذكر ابن حزم في مقدمة " كتاب النسب " له فصلا في الرد على من زعم أن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر بأن في علم النسب ما هو فرض على كل أحد، وما هو فرض على الكفاية، وما هو مستحب.
قال: فمن ذلك أن يعلم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ابن عبد الله الهاشمي، فمن زعم أنه لم يكن هاشميا فهو كافر، وأن يعلم أن الخليفة من قريش، وأن يعرف من يلقاه بنسب في رحم محرمة ليجتنب تزويج ما يحرم عليه منهم، وأن يعرف من يتصل به ممن يرثه أو يجب عليه بره من صلة أو نفقة أو معاونة وأن يعرف أمهات المؤمنين وأن نكاحهن حرام على المؤمنين، وأن يعرف الصحابة وأن حبهم مطلوب، وأن يعرف الأنصار ليحسن إليهم لثبوت الوصية بذلك ولأن حبهم إيمان وبغضهم نفاق، قال: ومن الفقهاء من يفرق في الجزية وفي الاسترقاق بين العرب والعجم فحاجته إلى علم النسب آكد، وكذا من يفرق بين نصارى بني تغلب وغيرهم في الجزية وتضعيف الصدقة.
قال: وما فرض عمر رضي الله عنه الديوان إلا على القبائل، ولولا علم النسب ما تخلص له ذلك، وقد تبعه على ذلك عثمان وعلي وغيرهما.
وقال ابن عبد البر في أول كتابه النسب: ولعمري لم ينصف من زعم أن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر انتهى.
وهذا الكلام قد روي مرفوعا ولا يثبت، وروي عن عمر أيضا ولا يثبت بل ورد في المرفوع حديث " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم " وله طرق أقواها ما أخرجه الطبراني من حديث العلاء بن خارجة، وجاء هذا أيضا عن عمر ساقه ابن حزم بإسناد رجاله موثوقون إلا أن فيه انقطاعا، والذي يظهر حمل ما ورد من ذمه على التعمق فيه حتى يشتغل عما هو أهم منه، وحمل ما ورد في استحسانه على ما تقدم من الوجوه التي أوردها ابن حزم، ولا يخفى أن بعض ذلك لا يختص بعلم النسب والله المستعان.
قوله: (وما ينهى عن دعوى الجاهلية) سيأتي الكلام عليه بعد أبواب قلائل.
قوله: (الشعوب النسب البعيد والقبائل دون ذلك) هو قول مجاهد أخرجه الطبري عنه، وذكر أبو عبيدة مثال الشعب مضر وربيعة، ومثال القبيلة من دون ذلك، وأنشد لعمرو بن أحمر: من شعب همدان أو سعد العشيرة أو خولان أو مذحج هاجوا له طربا
الحديث:
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا قَالَ الشُّعُوبُ الْقَبَائِلُ الْعِظَامُ وَالْقَبَائِلُ الْبُطُونُ
الشرح:
قوله: (حدثنا أبو بكر) هو ابن عياش الكوفي وكذا سائر الإسناد، وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم.
قوله: (الشعوب القبائل العظام والقبائل البطون) أي أن المراد بلفظ القبائل في القرآن ما هو في اصطلاح أهل النسب البطون، وقد روى الطبري هذا الحديث عن خلاد بن أسلم وأبي كريب كلاهما عن أبي بكر بن عياش بهذا الإسناد، لكن قال في المتن " الشعوب الجماع " أي الذي يجمع متفرقات البطون، قال خلاد قال أبو بكر: القبائل مثل بني تميم، ودونها الأفخاذ انتهى.
وقد قسمها الزبير بن بكار في " كتاب النسب " إلى شعب ثم قبيلة ثم عمارة بكسر العين ثم بطن ثم فخذ ثم فصيلة، وزاد غيره قبل الشعب الجذم وبعد الفصيلة العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة ثم العترة، فمثال الجذم عدنان ومثال الشعب مضر ومثال القبيلة كنانة ومثال العمارة قريش وأمثلة ما دون ذلك لا تخفى.
ويقع في عباراتهم أشياء مرادفة لما تقدم كقولهم حي وبيت وعقيلة وأرومة وجرثومة ورهط وغير ذلك، ورتبها محمد بن أسعد النسابة المعروف بالحراني جميعها وأردفها فقال: جذم ثم جمهور لم شعب ثم قبيلة ثم عمارة ثم بطن ثم فخذ ثم عشيرة ثم فصيلة ثم رهط ثم أسرة ثم عترة ثم ذرية.
وزاد غيره في أثنائها ثلاثة وهي بيت وحي وجماع فزادت على ما ذكر الزبير عشرة.
وقال أبو إسحاق الزجاج: القبائل للعرب كالأسباط لبني إسرائيل، ومعنى القبيلة الجماعة، ويقال لكل ما جمع على شيء واحد قبيلة أخذا من قبائل الشجرة وهو غصونها أو من قبائل الرأس وهو أعضاؤه، سميت بذلك لاجتماعها.
ويقال: المراد بالشعوب في الآية بطون العجم وبالقبائل بطون العرب.
ثم ذكر المصنف في الباب سبعة أحاديث:
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ
الشرح:
حديث أبي هريرة " قيل يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال أتقاهم " الحديث، أورده مختصرا، وقد مضى في قصة يوسف، والغرض منه واضح، وإنما أطلق على يوسف أكرم الناس لكونه رابع نبي في نسق ولم يقع ذلك لغيره، فإنه اجتمع له الشرف في نسبه من وجهين.
الحديث:
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ قُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ مِنْ مُضَرَ قَالَتْ فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ
الشرح:
قوله: (حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد.
قوله: (حدثنا كليب بن وائل) هذا هو المحفوظ، ورواه عفان عن عبد الواحد فقال " عن عاصم بن كليب " أخرجه الإسماعيلي وهو خطأ من عفان، وكليب بن وائل تابعي وسط كوفي أصله من المدينة، وهو ثقة عند الجميع إلا أن أبا زرعة ضعفه بغير قادح، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث.
قوله: (حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم) هي بنت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (قالت ممن كان إلا من مضر) في رواية الكشميهني " فمن كان " بزيادة فاء في الجواب وهو استفهام إنكار، أي لم يكن إلا من مضر.
قوله: (مضر) هو ابن نزار بن معد بن عدنان والنسب ما بين عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم مختلف فيه كما سيأتي، وأما من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان فمتفق عليه.
وقال ابن سعد في " الطبقات " حدثنا هشام بن الكلبي قال " علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهو شيبة الحمد ابن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصي واسمه زيد ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وإليه جماع قريش، وما كان فوق فهر فليس بقرشي بل هو كناني، ابن مالك بن النضر واسمه قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عمرو بن إلياس بن مضر.
وروى الطبراني بإسناد جيد عن عائشة قالت " استقام نسب الناس إلى معد بن عدنان " ومضر بضم الميم وفتح المعجمة يقال سمي بذلك لأنه كان مولعا بشرب اللبن الماضر وهو الحامض، وفيه نظر لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل أن يتصف بهذه الصفة، نعم ممكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفا به حالة التسمية، وهو أول من حدا الإبل.
وروى ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال " مات عدنان أبو وابنه معد وربيعة ومضر وقيس وتميم وأسد وضبة على الإسلام على ملة إبراهيم " وروى الزبير بن بكار من وجه آخر عن ابن عباس " لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين"، ولابن سعد من مرسل عبد الله بن خالد رفعه " لا تسبوا مضر فإنه كان قد أسلم".
قوله: (من بني النضر بن كنانة) أي المذكور، وروى أحمد وابن سعد من حديث الأشعث بن قيس الكندي قال " قلت يا رسول الله إنا نزعم أنكم منا - يعني من اليمن - فقال نحن بنو النضر بن كنانة"، وروى ابن سعد من حديث عمرو بن العاص بإسناد فيه ضعف مرفوعا " أنا محمد بن عبد الله، وانتسب حتى بلغ النضر بن كنانة، قال فمن قال غير ذلك فقد كذب " انتهى.
وإلى النضر تنتهي أنساب قريش، وسيأتي بيان ذلك في الباب الذي يليه، وإلى كنانة تنتهي أنساب أهل الحجاز، وقد روى مسلم من حديث واثلة مرفوعا " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " ولابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر: ثم اختار بني هاشم من قريش ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا كُلَيْبٌ حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظُنُّهَا زَيْنَبَ قَالَتْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَقُلْتُ لَهَا أَخْبِرِينِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ كَانَ مِنْ مُضَرَ كَانَ قَالَتْ فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ
الشرح:
قوله: (حدثنا موسى) هو ابن إسماعيل التبوذكي.
قوله: (وأظنها زينب) كأن قائله موسى، لأن قيس بن حفص في الرواية التي قبلها قد جزم بأنها زينب، وشيخهما واحد.
لكن أخرجه الإسماعيلي من رواية حبان بن هلال عن عبد الواحد وقال: لا أعلمها إلا زينب، فكأن الشك فيه من شيخهم عبد الواحد، كان يجزم بها تارة ويشك فيها أخرى.
قوله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدباء) بضم المهملة وتشديد الموحدة سيأتي شرحه في كتاب الأشربة، وأورده هنا لكونه سمع الحديث على هذه الصورة وهذا هو المرفوع منه فلم ير حذفه من السياق، على أنه لم يطرد له في ذلك عمل: فإنه تارة يأتي بالحديث على وجهه كما صنع هنا، وتارة يقتصر على موضع حاجته منه كما تقدم في عدة مواطن.
قوله: (والمقير والمزفت) كذا وقع هنا بالميم والقاف المفتوحة، قال أبو ذر: هو خطأ والصواب النقير يعني بالنون وكسر القاف وهو واضح لئلا يلزم منه التكرار إذا ذكر المزفت.
الحديث:
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ
الشرح:
قوله: (حدثني إسحاق بن إبراهيم) هو ابن راهويه.
قوله: (تجدون الناس معادن) أي أصولا مختلفة، والمعادن جمع معدن وهو الشيء المستقر في الأرض، فتارة يكون نفيسا وتارة يكون خسيسا، وكذلك الناس.
قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام) وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية، وأما قوله إذا فقهوا ففيه إشارة إلى أن الشرف الإسلامي لا يتم إلا بالتفقه في الدين، وعلى هذا فتنقسم الناس أربعة أقسام مع ما يقابلها: الأول شريف في الجاهلية أسلم وتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية لم يسلم ولم يتفقه.
الثاني شريف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية لم يسلم وتفقه، الثالث شريف في الجاهلية لم يسلم ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية أسلم ثم تفقه.
الرابع شريف في الجاهلية لم يسلم وتفقه ويقابله مشروف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه فأرفع الأقسام من شرف في الجاهلية ثم أسلم وتفقه، ويليه من كان مشروفا ثم أسلم وتفقه، ويليه من كان شريفا في الجاهلية ثم أسلم ولم يتفقه، ويليه من كان مشروفا ثم أسلم ولم يتفقه.
وأما من لم يسلم فلا اعتبار به سواء كان شريفا أو مشروفا سواء تفقه أو لم يتفقه والله أعلم.
والمراد بالخيار والشرف وغير ذلك من كان متصفا بمحاسن الأخلاق، كالكرم والعفة والحلم وغيرها، متوقيا لمساويها كالبخل والفجور والظلم وغيرها.
قوله: (إذا فقهوا) بضم القاف ويجوز كسرها.
قوله: (ويجدون خير الناس في هذا الشأن) أي الولاية والإمرة، وقوله "أشدهم له كراهية " أي أن الدخول في عهدة الإمرة مكروه من جهة تحمل المشقة فيه، وإنما تشتد الكراهة له ممن يتصف بالعقل والدين، لما فيه من صعوبة العمل بالعدل وحمل الناس على رفع الظلم، ولما يترتب عليه من مطالبة الله تعالى للقائم به من حقوق عباده، ولا يخفى خيرية من خاف مقام ربه.
وأما قوله في الطريق التي بعد هذه " وتجدون من خير الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه " فإنه قيد الإطلاق في الرواية الأولي وعرف أن من فيه مراده، وأن من اتصف بذلك لا يكون خير الناس على الإطلاق.
وأما قوله " حتى يقع فيه " فاختلف في مفهومه فقيل: معناه أن من لم يكن حريصا على الأمرة غير راغب فيها إذا حصلت له بغير سؤال تزول عنه الكراهة فيها لما يرى من إعانة الله له عليها، فيأمن على دينه ممن كان يخاف عليه منها قبل أن يقع فيها، ومن ثم أحب من أحب استمرار الولاية من السلف الصالح حتى قاتل عليها، وصرح بعض من عزل منهم بأنه لم تسره الولاية بل ساءه العزل.
وقيل المراد بقوله " حتى يقع فيه " أي فإذا وقع فيه لا يجوز له أن يكرهه، وقيل معناه أن العادة جرت بذلك وأن من حرص على الشيء ورغب في طلبه قل أن يحصل له، ومن أعرض عن الشيء وقلت رغبته فيه يحصل له غالبا والله أعلم.
قوله: (وتجدون شر الناس ذا الوجهين) سيأتي شرحه في كتاب الأدب، فقد أورده من وجه آخر مستقلا.
الحديث:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ وَالنَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الشَّأْنِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ
الشرح:
قوله: (الناس تبع لقريش) بمعنى الأمر، ويدل عليه قوله في رواية أخرى " قدموا قريشا ولا تقدموها " أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح، لكنه " مرسل وله شواهد، وقيل هو خبر على ظاهره، والمراد بالناس بعض الناس وهم سائر العرب من غير قريش، وقد جمعت في ذلك تأليفا سميته " لذة العيش، بطرق الأئمة من قريش " وسأذكر مقاصده في كتاب الأحكام مع إيضاح هذه المسألة.
قال عياض: استدل الشافعية بهذا الحديث على إمامة الشافعي وتقديمه على غيره، ولا حجة فيه لأن المراد به هنا الخلفاء.
وقال القرطبي: صحبت المستدل بهذا غفلة مقارنة لصميم التقليد.
وتعقب بأن مراد المستدل أن القرشية من أسباب الفضل والتقدم كما أن من أسباب التقدم الورع مثلا، فالمستويان في خصال الفضل إذا تميز أحدهما بالورع مثلا كان مقدما على رفيقه، فكذلك القرشية، فثبت الاستدلال بها على تقدم الشافعي ومزيته على من ساواه في العلم والدين لمشاركته له في الصفتين وتميز عليه بالقرشية، وهذا واضح، ولعل الغفلة والعصبية صحبت القرطبي فلله الأمر.
وقوله "كافرهم تبع لكافرهم " وقع مصداق ذلك لأن العرب كانت تعظم قريشا في الجاهلية بسكناها الحرم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله بوقف غالب العرب عن اتباعه وقالوا ننظر ما يصنع قومه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت قريش تبعتهم العرب ودخلوا في دين الله أفواجا، واستمرت خلافة النبوة في قريش، فصدق أن كافرهم كان تبعا لكافرهم وصار مسلمهم تبعا لمسلمهم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى قَالَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
الشرح:
قوله: (حدثني عبد الملك) هو ابن ميسرة، وقع منسوبا في تفسير حم عسق ويأتي شرحه مستوفى هناك، ودخوله في هذه الترجمة واضح من جهة تفسير المودة المطلوبة في الآية بصلة الرحم التي بينه وبين قريش وهم الذين خوطبوا بذلك، وذلك يستدعي معرفة النسب التي تحقق بها صلة الرحم، قال عكرمة: كانت قريش تصل الأرحام في الجاهلية، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله خالفوه وقاطعوه، فأمرهم بصلة الرحم التي بينه وبينهم.
وسيأتي بيان الاختلاف في المراد بقوله (المودة في القربى) في التفسير وقوله هنا: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة فنزلت فيه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم " كذا وقع هنا من رواية يحيى، وهو القطان عن شعبة، ووقع في التفسير من رواية محمد بن جعفر وهو غندر عن شعبة بلفظ " إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " وهذه الرواية واضحة والأولى مشكلة لأنها توهم أن المذكور بعد قوله " فنزلت " من القرآن وليس كذلك، وقد مشى بعض الشراح على ظاهره فقال: كان هذا قرآنا فنسخ.
وقال غيره يحتمل أن هذا الكلام معنى الآية فنسب إلى النزول مجازا، وهو كقول حسان في قصيدته المشهورة: وقال الله قد أرسلت عبدا يقول الحق ليس به خفاء يريد أنه من قول الله بالمعنى.
قلت: والذي يظهر لي أن الضمير في قوله " فنزلت " للآية المسئول عنها وهي قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) وقوله " إلا أن تصلوا " كلام ابن عباس تفسير لقوله تعالى (إلا المودة في القربى) وقد أوضحت ذلك رواية الإسماعيلي من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة فقال في روايته " فقال ابن عباس: إنه لم يكن بطن من بطون قريش إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فيه قرابة فنزلت (قل لا أسألكم عليه أجرا) إلا أن تصلوا قرابتي منكم " وله من طريق يزيد بن زريع عن شعبة مثله لكن قال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة فعرف بهذا أن المراد ذكر بعض الآية بالمعنى على جهة التفسير، وسبب ذلك خفاء معناها على سعيد بن جبير، وسيأتي ذكر ما يتعلق بذلك في التفسير إن شاء الله تعالى.