الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي عَامِرٌ قَالَ حَدَّثَنِي جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ أَبِي تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَلَيْسَ عِنْدِي إِلَّا مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ وَلَا يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ سِنِينَ مَا عَلَيْهِ فَانْطَلِقْ مَعِي لِكَيْ لَا يُفْحِشَ عَلَيَّ الْغُرَمَاءُ فَمَشَى حَوْلَ بَيْدَرٍ مِنْ بَيَادِرِ التَّمْرِ فَدَعَا ثَمَّ آخَرَ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ فَقَالَ انْزِعُوهُ فَأَوْفَاهُمْ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ
الشرح:
حديث جابر في قصة وفاء دين أبيه، أورده مختصرا وقد ذكره في مواضع أخرى مطولا.
قوله: (حدثنا زكريا) هو ابن أبي زائدة، وعامر هو الشعبي.
قوله: (أن أباه) هو عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين.
وفي رواية مغيرة عن الشعبي في البيوع " توفي عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دين " وفي رواية فراس عن الشعبي في الوصايا " أن أباه استشهد يوم أحد وترك ست بنات وترك عليه دينا " وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر " أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى " وفي رواية ابن كعب بن مالك في الاستقراض والهبة عن جابر " أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا " ووقع عند أحمد من طريق نبيح العنزي عن جابر قال: " قال لي أبي: يا جابر لا عليك أن يكون في قطاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا - فذكر قصة قتل أبيه ودفنه قال - وترك أبي عليه دينا من التمر، فاشتد علي بعض غرمائه في التقاضي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له وقلت: فأحب أن تعينني عليه لعله أن ينظرني طائفة من تمره إلى هذا الصرام المقبل، قال: نعم آتيك إن شاء الله قريبا من نصف النهار " فذكر الحديث في الضيافة وفيه " ثم قال: ادع فلانا - لغريمي الذي اشتد في الطلب - فجاء فقال: أنظر جابرا طائفة من دينك الذي على أبيه إلى الصرام المقبل، فقال: ما أنا بفاعل، واعتل.
وقال إنما هو مال يتامى".
قوله: (وليس عندي إلا ما يخرج نخله) يعني أنه لم يترك مالا إلا البستان المذكور.
قوله: (ولا يبلغ ما يخرج نخله سنين) أي في مدة سنين (ما عليه) أي من الدين.
قوله: (فانطلق معي لكيلا يفحش علي الغرماء فمشى) فيه حذف تقديره: فقال نعم، فانطلق فوصل إلى الحائط فمشى.
وقد تبين من الروايات الأخرى التصريح بما وقع من ذلك، ففي رواية مغيرة " فقال اذهب فصنف تمرك أصنافا، ثم أرسل إلي، ففعلت، فجاء فجلس على أعلاه " وفي رواية فراس في البيوع " اذهب فصنف تمرك أصنافا: العجوة على حدة، وعذق زيد على حدة " وقوله: عذق زيد بفتح المهملة، وزيد الذي نسب إليه اسم لشخص كأنه هو الذي كان ابتدأ غراسه فنسب إليه، والعجوة من أجود تمر المدينة.
قوله: (بيدر) بفتح الموحدة وكسر المهملة وهو فعل أمر، أي اجعل التمر في البيادر كل صنف في بيدر، والبيدر بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الدال المهملة للتمر كالجرن للحب.
قوله: (فدعا) في رواية ابن كعب بن مالك " فغدا علينا فطاف في النخل ودعا في تمره بالبركة " وفي رواية الديال بن حرملة عن جابر " فجاء هو وأبو بكر وعمر فاستقرأ النخل، يقوم تحت كل نخلة لا أدري ما يقول، حتى مر على آخرها " الحديث أخرجه أحمد.
قوله: (ثم آخر) أي مشى حول بيدر آخر فدعا.
وفي رواية فراس " فدخل النبي صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها فقال أفرغوه " أي أفرغوه من البيدر.
وفي رواية مغيرة " ثم قال: كل للقوم، فكلتهم حتى أوفيتهم " وفي رواية فراس " ثم قال لجابر: جد فأوف الذي له، فجده بعدما رجع النبي صلى الله عليه وسلم".
قوله: (فأوفاهم الذي لهم وبقي مثل ما أعطاهم) في رواية مغيرة " وبقي تمري وكأنه لم ينقص منه شيء " وفي رواية ابن كعب " وبقي لنا من تمرها بقية " ووقع في رواية وهب بن كيسان " فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت له سبعة عشر وسقا"، ويجمع بالحمل على تعدد الغرماء، فكان أصل الدين كان منه ليهودي ثلاثون وسقا من صنف واحد فأوفاه وفضل من ذلك البيدر سبعة عشر وسقا، وكان منه لغير ذلك اليهودي أشياء أخر من أصناف أخرى فأوفاهم وفضل من المجموع قدر الذي أوفاه، ويؤيده قوله في رواية نبيح العنزي عن جابر " فكلت له من العجوة فأوفاه الله وفضل لنا من التمر كذا وكذا، وكلت له من أصناف التمر فأوفاه الله وفضل لنا من التمر كذا وكذا " ووقع في رواية فراس عن الشعبي ما قد يخالف ذلك، فعنه " ثم دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة " أي أنهم شددوا عليه في المطالبة لعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم قال: " فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات ثم جلس عليه ثم قال: ادعهم، فما زال يكيل لهم حتى أدى الله أمانة والدي، وأنا راض أن يؤديها الله ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها حتى أني أنظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه لم ينقص منه تمرة واحدة " ووجه المخالفة فيه أن ظاهره أن الكيل جميعه كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن التمر لم ينقص منه شيء البتة، والذي مضى ظاهره أن ذلك بعد رجوعه وأن بعض التمر نقص، ويجمع بأن ابتداء الكيل كان بحضرته صلى الله عليه وسلم وبقيته كان بعد انصرافه، وكان بعض البيادر التي أوفى منها بعض أصحاب الدين حيث كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقص منه شيء البتة، ولما انصرف بقيت آثار بركته فلذلك أوفى من أحد البيادر ثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر.
وفي رواية نبيح ما يؤيد ذلك، ففي روايته قال: " كل له فإن الله سوف يوفيه " وفي حديثه " فإذا الشمس قد دلكت فقال: الصلاة يا أبا بكر، فاندفعوا إلى المسجد فقلت له - أي للغريم - قرب أوعيتك " وفيه " فجئت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني شرارة، فوجدته قد صلى، فأخبرته فقال: أين عمر؟ فجاء يهرول.
فقال: سل جابرا عن تمره وغريمه، فقال: ما أنا بسائله، قد علمت أن الله سيوفيه " الحديث.
وقصة عمر قد وقعت في رواية ابن كعب ففيها " ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر: اسمع يا عمر، قال: ألا نكون قد علمنا أنك رسول الله؟ والله إنك لرسول الله " وفي رواية وهب " فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن الله فيها " وقوله في رواية ابن كعب " ألا نكون " بفتح الهمزة وتشديد اللام في الروايات كلها، وأصلها أن الخفيفة ضمت إليها لا النافية، أي هذا السؤال إنما يحتاج إليه من لا يعلم أنك رسول الله فلذلك يشك في الخبر فيحتاج إلى الاستدلال، وأما من علم أن رسول الله فلا يحتاج إلى ذلك.
وزعم بعض المتأخرين أن الرواية فيه بتخفيف اللام وأن الهمزة فيه للاستفهام التقريري فأنكر عمر عدم علمه بالرسالة فأنتج إنكاره ثبوت علمه بها، وهو كلام موجه، إلا أن الرواية إنما هي بالتشديد، وكذلك ضبطها عياض وغيره، وقيل: النكتة في اختصاص عمر بأعلامه بذلك أنه كان معتنيا بقصة جابر مهتما بشأنه مساعدا له على وفاء دين أبيه.
وقيل لأنه كان حاضرا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما مشى في النخل وتحقق أن التمر الذي فيه لا يفي ببعض الدين، فأراد إعلامه بذلك لكونه شاهد أول الأمر، بخلاف من لم يشاهد.
ثم وجدت ذلك صريحا في بعض طرقه، ففي رواية أبي المتوكل عن جابر عند أبي نعيم فذكر الحديث وفيه " فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر فقال: انطلق بنا حتى نطوف بنخلك هذا " فذكر الحديث.
وفي رواية أبي نضرة عن جابر عنده في هذه القصة قال: " فأتاه هو وعمر فقال: يا فلان خذ من جابر وأخر عنه، فأبى، فكاد عمر يبطش به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه يا عمر، هو حقه.
ثم قال: اذهب بنا إلى نخلك " الحديث وفيه " فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ائتني بعمر، فأتيته فقال: يا عمر سل جابرا عن نخله " فذكر القصة.
ووقع في رواية الديال بن حرملة أن أبا بكر وعمر جميعا كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره " قال فانطلق فأخبر أبا بكر وعمر، قال فانطلقت فأخبرتهما " الحديث، ونحوه في رواية وهب بن كيسان عن جابر، وجمع البيهقي بين مختلف الروايات في ذلك بأن اليهودي المذكور كان له دين من تمر، ولغيره من الغرماء ديون أخرى، فلما حضر الغرماء وطالبوا بحقوقهم وكال لهم جابر التمر ففضل تمر الحائط كأنه لم ينقص شيء فجاء اليهود بعدهم فطالب بدينه فجد له جابر ما بقي على النخلات فأوفاه حقه منه وهو ثلاثون وسقا، وفضلت منه سبعة عشر، انتهى.
وهذا الجمع يقتضي أنه لم يفضل من الذي في البيادر شيء وقد صرح في الرواية المتقدمة أنها فضلت كلها كأنه لم ينقص منها شيء، فما تقدم من الطريق التي جمعت به أولى، والله أعلم.
وفي الحديث من الفوائد جواز الاستنظار في الدين الحال، وجواز تأخير الغريم لمصلحة المال الذي يوفى منه، وفيه مشى الإمام في حوائج رعيته، وشفاعته عند بعضهم في بعض.
وفيه علم ظاهر من أعلام النبوة لتكثير القليل إلى أن حصل به وفاء الكثير وفضل منه.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَرَّةً مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ أَوْ كَمَا قَالَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ وَأَبُو بَكْرٍ ثَلَاثَةً قَالَ فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ امْرَأَتِي وَخَادِمِي بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ أَوْ ضَيْفِكَ قَالَ أَوَعَشَّيْتِهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ فَذَهَبْتُ فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَّعَ وَسَبَّ وَقَالَ كُلُوا وَقَالَ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا قَالَ وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ اللُّقْمَةِ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلُ فَنَظَرَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا شَيْءٌ أَوْ أَكْثَرُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ قَالَتْ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْنِي يَمِينَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَمَضَى الْأَجَلُ فَتَفَرَّقْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ غَيْرَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ قَالَ أَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ وَغَيْرُهُ يَقُولُ فَعَرَفْنَا مِنْ الْعِرَافَةِ
الشرح:
حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في قصة أضياف أبي بكر، والمراد منه تكثير الطعام القليل.
قوله: (عن أبيه) هو سليمان بن طرخان التيمي أحد صغار التابعين.
وفي رواية أبي النعمان عن معتمر " حدثنا أبي " كما تقدم في الصلاة.
وأبو عثمان هو النهدي.
قوله: (أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء) سيأتي ذكرهم في كتاب الرقاق، وأن الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر، وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في " الحلية " فزادوا على المائة.
قوله: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) أي من أهل الصفة المذكورين.
ووقع في رواية مسلم " فليذهب بثلاثة " قال عياض: وهو غلط، والصواب رواية البخاري لموافقتها لسياق باقي الحديث.
وقال القرطبي: إن حمل على ظاهره فسد المعنى، لأن الذي عنده طعام اثنين إذا ذهب معه بثلاثة لزم أن يأكله في خمسة وحينئذ لا يكفيهم ولا يسد رمقهم، بخلاف ما إذا ذهب بواحد فإنه يأكله في ثلاثة، ويؤيده قوله في الحديث الآخر " طعام الاثنين يكفي أربعة " أي القدر الذي يشبع الاثنين يسد رمق أربعة، ووجهها النووي بأن التقدير فليذهب بمن يتم من عنده ثلاثة، أو فليذهب بتمام ثلاثة.
قوله: (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس أو كما قال) أي فليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فليذهب بسادس مع الخامس إن كان عنده أكثر من ذلك.
والحكمة في كونه يزيد كل أحد واحدا فقط أن عيشهم في ذلك الوقت لم يكن متسعا، فمن كان عنده مثلا ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذلك الأربعة وما فوقها، بخلاف ما لو زيدت الأضياف بعدد العيال فإنما ذلك يحصل الاكتفاء فيه عند اتساع الحال.
ووقع في رواية أبي النعمان " وإن أربع فخامس أو سادس " و " أو " فيه للتنويع أو للتخيير كما في الرواية الأخرى، ويحتمل أن يكون معنى " أو سادس " وإن كان عنده طعام خمس فليذهب بسادس، فيكون من عطف الجملة على الجملة.
وقوله: (وإن أربع فخامس) بالجر فيهما، والتقدير فإن كان عنده طعام أربع فليذهب بخامس أو بسادس، فحذف عامل الجر وأبقى عمله، كما يقال مررت برجل صالح وإن لا صالح فطالح، أي إن لا أمر بصالح فقد مررت بطالح، ويجوز الرفع على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وهو أوجه، قال ابن مالك: تضمن هذا الحديث حذف فعلين وعاملي جر مع بقاء عملهما بعد إن وبعد الفاء، والتقدير من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن قام بأربعة فليذهب بخامس أو سادس ا هـ.
وهذا قاله في الرواية التي في الصلاة، وأما هذه الرواية وهي قوله: " بخامس بسادس " فيكون حذف منها شيء آخر والتقدير أو إن قام بخمسة فليذهب بسادس قوله: (وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة) عبر عن أبي بكر بلفظ المجيء لبعد منزله من المسجد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم بالانطلاق لقربه.
وقوله بعد ذلك " وأبو بكر ثلاثة " بالنصب للأكثر أي أخذ ثلاثة فلا يكون قوله قبل ذلك " جاء بثلاثة " تكرارا لأن هذا بيان لابتداء ما جاء في نصيبه، والأول لبيان من أحضرهم إلى منزله.
وأبعد من قال ثلاثة بالرفع وقدره وأبو بكر أهله ثلاثة أي عدد أضيافه، ودل ذلك على أن أبا بكر كان عنده طعام أربعة ومع ذلك فأخذ خامسا وسادسا وسابعا فكأن الحكمة في أخذه واحدا زائدا عما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يؤثر السابع بنصيبه إذ ظهر له أنه لم يأكل أولا معهم.
ووقع في رواية الكشميهني " وأبو بكر بثلاثة، فيكون معطوفا على قوله " وانطلق النبي " أي وانطلق أبو بكر بثلاثة وهي رواية مسلم، والأول أوجه، والله أعلم.