بمناسبة ذكر الدين الذي كان عليه العرب العدنانيون قبل الإسلام وهو الوثنيّة يحسن ذكر نبذة عن الديانتين النصرانية واليهودية في بلاد العرب جنوباً وشمالاً، لِيعْلم القارئ بكامل الحال التي كان عليها الناس في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وليعلم أنَّ الإسلام كان حاجة الناس في تلك البلاد كما هو حاجة كل الناس وفي كل ديارهم أمس واليوم وغداً، إذ لا كمالَ لإنسان ولا سعادة إلا به وعليه. يروي ابن إسحاق حديث وهب بن منبّه في دخول النصرانية إلى نجران جنوب مكة من بلاد اليمن فيقول: إن رجلاً يُقال له فيُمِيُون من أهل الشام، كان على دين المسيح-عليه السلام-، وكان صالحاً، ورزقه الله كرامات، فأحبه رجل من أهل البلاد، يُقال له صالح ولازمه. ولما عرف فيميون بالصلاح وظهور الكرامات خرج مع ذلك الرجل الذي أحبه فدخلا بلاد العرب فعدوا عليهما وباعوهما عبدين في مدينة نجران. وأهل نجران يومئذ على دين العرب وهو الوثنيّة، وكانت لهم نخلة يعبدونها فجعلوا لها عيداً سنوياً يأتونها فيه فيعلقون عليها أجمل الثياب، و حُلى النساء، واشترى فيميون أحد أشراف نجران، وكان فيميون إذا قام من الليل يتهجّد أشرق له البيت نوراً. فعجب سيده من هذه الكرامة، فسأله عن دينه، فأخبره بأنه على دين المسيح، وأعلمه أن ما عليه أهل نجران هو الباطل، كما أعلمه أن الله–تعالى- هو الإله الحق، وأن هذه النخلة لا تنفع ولا تضر، وأنه لو دعا الله–تعالى-عليها لأسقطها، وفعلاً دعا الله –تعالى- فعصفت بها عاصفة فاقتلعتها من جذورها. ولذلك آمن الرجل الشريف بدين المسيح، وتبعه آخرون، فكان هذا مبدأ دخول دين المسيح في نجران، ثم بمرور الزمان طرأ عليهم ما طرأ من البدع والتحريف لدين المسيح حتى أصبحت نصرانية ضالّة كما هي في سائر البلاد. ومما يذكر هنا أن عبد الله بن الثامر وكان على دين المسيح كان له أثرٌ كبيرٌ في نشر المسيحية في نجران بعد العبد الصالح فيميون. وكان من أمر ابن الثامر أنه لما انتشرت المسيحية بين الناس دعاه ملك البلاد وقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأُمثّلنّ بك وجعل يعرضه لكل ألوان التعذيب، والقتل ولم يقدر على قتله، فقال له ابن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحِّد الله –تعالى-، ففعل الملك وضرب ابن الثامر فقتله، ثم مات الملك على الفور إلى جنبه، وبذلك استجمع أهل نجران على الدين المسيحي، ثم أصابهم ما أصاب غيرهم من البدع والفساد، فكان هذا أصل النصرانية في نجران. ولما ملك ذو نواس الحميري، وكان قد دان باليهودية، ووجد أهل نجران على المسيحية فدعاهم إلى دينه فأبوا عليه، فحفر لهم الأخاديد، وأحرق عدداً كبيراً منهم بالنار ليرجعوا على دينهم، فلم يرجعوا وهم الذين ذكر –تعالى- في سورة البروج، وحدّث عنهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، ثم إن رجلاً يقال له: دوسٌ قد نجا من الحريق، وذهب إلى ملك الروم، فاستعداه على ذي نواس الذي قتل النصارى من أهل دينه، فكتب له كتاباً إلى ملك الحبشة حيث هو على دين النصارى، فأعطاه جيشاً قوامه سبعون ألفاً، غزا به ذا نواس، فهزموه، ودخلوا البلاد وحكموها بعد موت ذي نواس، وكان على رأس الجيش الحبشي أرباط وأبرهة فتنازعا الملك وغلب أبرهة أرياط وقتله. وأصبح أبرهة الحاكم العام في البلاد، وملك الحبشة يدعمه ويشد من أزره.
أما اليهودية: فإنها لم تدم طويلاً في بلاد اليمن، وسبب ذلك أن تُبّعاً ذا نواس لما دخل المدينة خرج معه حبران من أحبار اليهود وهما اللذان دعواه إلى اليهودية فقبِلَهَا ودان بها، وعذب نصارى نجران كما تقدم، وانتهى ملكه بموته على يد أرياط وأبرهة الحبشيين. إلا أن اليهودية كانت بشمال الجزيرة بفَدَك, وتيما, وخيبر, والمدينة, التي كانت تسمى يثرب، ودخول اليهود إلى الحجاز من أرض الجزيرة هو لسبب الضغط الذي أصابهم من ملوك الروم بعد بختنصر هذا من جهة، ومن جهة أخرى تطلعهم إلى النبي المُبشر به في التوراة والإنجيل، وأنه يخرج من جبال فاران، وأن مهاجرة يثرب ذات النخيل، والأرض السبخة، فنزلوا ديار الحجاز الشمالية رجاء أن يبعث نبي آخر الزمان فيؤمنوا به ويقاتلوا أعداءهم معه ويستردوا مُلكهم المسلوب منهم من عدة قرون. مع العلم أن اليهود كالنصارى قد فسد معتقدهم وضاعت شريعتهم تحت تأثير التأويل للنصوص وتحريفها وتغييرها وتبديلها لتوافق الأهواء والأطماع الخاصة والشهوات العارمة، فما أصبحت اليهودية ولا النصرانية تزكي النفوس، ولا تصلح القلوب، ولا تهذب الأخلاق بعد فسادها، فحاجة أهل الملتين إلى الإسلام كحاجة غيرهم من المجوس والوثنيين. وقد كان اليهود يستفتحون على مشركي العرب يقولون لهم: إن نبياً قد أظل زمانه، ويوم يظهر نؤمن به ونُقاتلكم معه، وقد نزل بقولهم هذا القرآن العظيم في سورة البقرة بقوله تعالى:{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}(89) سورة البقرة.
نتائج وعبر:
1. لم تكن النصرانية ولا اليهودية في بلاد العرب ذات شأن يذكر؛ إذ الوثنية هي الغالبة.
2. الفترة التي كانت النصرانية في نجران سليمة في معتقداتها وشرائعها كانت قصيرة جداً، ولذا لم يُقدَّر لها أن تنتشر في بلاد العرب، ثم ما لبثت أن دخلها الفساد، فلم تكن صالحة للهداية والإصلاح.
3. اليهودية ما دخلت بلاد العرب إلا بعد فسادها، فلذا لن ينتفع بها أهلها في دار هجرتهم فضلاً عن العرب الذين نزحوا إليهم وسكنوا ديارهم.
4. نظراً لفساد الديانتين السماويتين اليهودية والنصرانية، وفساد المجوسية والوثنية بالأصالة، فإن حال الناس تتطلب ديناً سماوياً جديداً تكمل عليه الأرواح، وتزكو وتُهُذب به الأخلاق، وتحقق به الناسُ السعادةَ والكمالَ في الدنيا والآخرة.