*3* باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين) أي هل يشترط قطعهما أو لا؟ وأورد فيه حديث ابن عمر في ذلك وحديث ابن عباس، وقد تقدم الكلام عليه في " باب ما لا يلبس المحرم من الثياب " ووقع في رواية أبي زيد المروزي " عن سالم بن عبد الله بن عمر سئل رسول صلى الله عليه وسلم " قال الجباني: الصواب ما رواه ابن السكن وغيره فقالوا " عن سالم عن ابن عمر " قلت: تصحفت " عن " فصارت ابن.
وقوله في حديث ابن عباس " ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم " أي هذا الحكم للمحرم لا الحلال، فلا يتوقف جواز لبسه السراويل على فقد الإزار.
قال القرطبي: أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد فأجاز لبس الخف والسراويل للمحرم الذي لا يجد النعلين والإزار على حالهما.
واشترط الجمهور قطع الخف وفتق السراويل، فلو لبس شيئا منهما على حاله لزمته الفدية، والدليل ثم قوله في حديث ابن عمر " وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " فيحمل المطلق على المقيد ويلحق النظير بالنظير لاستوائهما في الحكم.
وقال ابن قدامة: الأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف.
انتهى.
والأصح عند الشافعية والأكثر جواز لبس السراويل بغير فتق كقول أحمد، واشترط الفتق محمد ابن الحسن وإمام الحرمين وطائفة، وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقا، ومثله عن مالك وكأن حديث ابن عباس لم يبلغه، ففي الموطأ أنه سئل عنه فقال: لم أسمع بهذا الحديث.
وقال الرازي من الحنفية: يجوز لبسه وعليه الفدية كما قاله أصحابهم في الخفين، ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزارا لأنه في تلك الحالة يكون واجد الإزار.
*3* باب إِذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل) أورد فيه حديث ابن عباس وقد تقدم البحث فيه في الباب الذي قبله، وجزم المصنف بالحكم في هذه المسألة دون التي قبلها لقوة دليلها وتصريح المخالف بأن الحديث لم يبلغه فيتعين على من بلغه العمل به.
*3* باب لُبْسِ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ حذف التشكيل
وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلَاحَ وَافْتَدَى وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ
الشرح:
قوله: (باب لبس السلاح للمحرم) أي إذا احتاج إلى ذلك.
قوله: (وقال عكرمة إذا خشي العدو لبس السلاح وافتدى) أي وجبت عليه الفدية، ولم أقف على أثر عكرمة هذا موصولا.
وقوله "ولم يتابع عليه في الفدية " يقتضي أنه توبع على جواز لبس السلاح الخشية وخولف في وجوب الفدية، وقد نقل ابن المنذر عن الحسن أنه كره أن يتقلد المحرم السيف، وقد تقدم في العيدين قول ابن عمر للحجاج " أنت أمرت بحمل السلاح في الحرم " وقوله له " وأدخلت السلاح في الحرم ولم يكن السلاح يدخل فيه " وفي رواية " أمرت بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله " وتقدم الكلام على ذلك مستوفى في " باب من كره حمل السلاح في العيد " وذكر من روى ذلك مرفوعا.
ثم أورد المصنف في الباب حديث البراء في عمرة القضاء مختصرا، وسيأتي بتمامه في كتاب الصلح عن عبيد الله ابن موسى بإسناده هذا، ووهم المزي في " الأطراف " فزعم أن البخاري أخرجه في الحج بطوله وليس كذلك.
*3* باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ حذف التشكيل
وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِهْلَالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ
الشرح:
قوله (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) هو من عطف الخاص على العام، لأن المراد بمكة هنا البلد فيكون الحرم أعم.
قوله (ودخل ابن عمر) وصله مالك في " الموطأ " عن نافع قال " أقبل عبد الله بن عمر من مكة حتى إذا كان بقديد - يعني بضم القاف - جاءه خبر عن الفتنة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام.
قوله: (وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة ولم يذكر الحطابين وغيرهم) هو من كلام المصنف، وحاصله أنه خص الإحرام بمن أراد الحج والعمرة، واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس " ممن أراد الحج والعمرة " فمفهومه أن المتردد إلى مكة - لغير قصد الحج والعمرة - لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في هذا فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا، وفي قول يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب وأولى بعدم الوجوب، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب.
وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب.
ثم أورد المصنف في الباب حديثين، أحدهما: حديث ابن عباس وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت.
الثاني: حديث أنس في المغفر وقد اشتهر عن الزهري عنه، ووقع لي من رواية يزيد الرقاشي عن أنس في " فوائد أبي الحسن الفراء الموصلي".
وفي الإسناد إلى يزيد مع ضعفه ضعف، وقيل إن مالكا تفرد به عن الزهري، وممن جزم بذلك ابن الصلاح في " علوم الحديث " له في الكلام على الشاذ، وتعقبه شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي بأنه ورد من طريق ابن أخي الزهري وأبي أويس ومعمر والأوزاعي وقال: إن رواية ابن أخي الزهري عند البزار ورواية أبي أويس عند ابن سعد وابن عدي وأن رواية معمر ذكرها ابن عدي وأن رواية الأوزاعي ذكرها المزني ولم يذكر شيخنا من أخرج روايتهما، وقد وجدت رواية معمر في " فوائد ابن المقري " ورواية الأوزاعي في " فوائد تمام".
ثم نقل شيخنا عن ابن مسدي أن ابن العربي قال حين قبل له لم يروه إلا مالك: قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، وأنه وعد بإخراج ذلك ولم يخرج شيئا، وأطال ابن مسدي في هذه القصة وأنشد فيها شعرا، وحاصلها أنهم اتهموا ابن العربي في ذلك ونسبوه إلى المجازفة.
ثم شرع ابن مسدي يقدح في أصل القصة ولم يصب في ذلك، فراوي القصة عدل متقن، والذين اتهموا ابن العربي في ذلك هم الذين أخطئوا لقلة اطلاعهم، وكأنه بخل عليهم بإخراج ذلك لما ظهر له من إنكارهم وتعنتهم، وقد تتبعت طرقه حتى وقفت على أكثر من العدد الذي ذكره ابن العربي ولله الحمد فوجدته من رواية اثني عشر نفسا غير الأربعة التي ذكرها شيخنا وهم: عقيل في " معجم ابن جميع"، ويونس بن يزيد في " الإرشاد " للخليلي وابن أبي حفص في " الرواة عن مالك للخطيب"، وابن عيينة في " مسند أبي يعلى " وأسامة بن زيد في " تاريخ نيسابور"، وابن أبي ذئب في " الحلية"، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي في " أفراد الدار قطني " وعبد الرحمن ومحمد ابنا عبد العزيز الأنصاريان في " فوائد عبد الله بن إسحاق الخراساني"، وابن إسحاق في " مسند مالك لابن عدي"، وبحر السقاء ذكره جعفر الأندلسي في تخريجه للجيزي بالجيم والزاي، وصالح بن أبي الأخضر ذكره أبو ذر الهروي عقب حديث يحيى بن قزعة عن مالك والمخرج عند البخاري في المغازي، فتبين بذلك أن إطلاق ابن الصلاح متعقب، وأن قول ابن العربي صحيح، وأن كلام من اتهمه مردود، ولكن ليس في طرقه شيء على شرط الصحيح إلا طريق مالك، وأقرنها رواية ابن أخي الزهري فقد أخرجها النسائي في " مسند مالك " وأبو عوانة في صحيحه، وتليها رواية أبي أويس أخرجها أبو عوانة أيضا وقالوا إنه كان رقيق مالك في السماع عن الزهري، فيحمل قول من قال انفرد به مالك - أي بشرط الصحة - وقول من قال توبع أي في الجملة.
وعبارة الترمذي سالمة من الاعتراض فإنه قال بعد تخريجه: حسن صحيح غريب لا يعرف كثير أحد رواه غير مالك عن الزهري فقوله " كثير " يشير إلي أنه توبع في الجملة.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ اقْتُلُوهُ
الشرح:
قوله: (عن أنس) في رواية أبي أويس عند ابن سعد " أن أنس بن مالك حدثه".
قوله: (عام الفتح وعلى رأسه المغفر) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وقيل هو رفرف البيضة قاله في " المحكم".
وفي " المشارق " هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة.
وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك " يوم الفتح وعليه مغفر من حديد " أخرجه الدار قطني في " الغرائب " والحاكم في " الإكليل " وكذا هو في رواية أبي أويس.
قوله: (فلما نزعه جاءه رجل) لم أقف على اسمه، إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله، وقد جزم الفاكهي في " شرح العمدة " بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأي أنه هو الذي جاء مخبرا بقصته، ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي " فقال اقتله " بصيغة الإفراد.
على أنه اختلف في اسم قاتله، ففي حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطني والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال " أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا حرم: الحويرث بن نقيد بالنون والقاف مصغر، وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح قال فأما هلال بن خطل فقتله الزبير " الحديث.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في " الدلائل " نحوه لكن قال " أربعة نفر وامرأتين فقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " فذكرهم لكن قال عبد الله ابن خطل بدل هلال.
وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين وقال " فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله " الحديث.
وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جلد نحوه.
وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في الدلائل من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس " أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس: عبد العزى بن خطل، ومقيس ابن صبابة الكناني، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة.
فأما عبد العزى بن خطل فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة " وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي " أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة " وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في " البر والصلة " من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذؤيب، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل.
وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السائب بن يزيد قال " فأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة بقتل بن المقام وزمزم".
وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس: ستة رجال وأربع نسوة.
والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله " من دخل المسجد فهو آمن " ما روى ابن إسحاق في المغازي " حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال: لا يقتل أحد من قاتل، إلا نفرا سماهم فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلما، فنزل منزلا، فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الفاكهي من طريق ابن جريج قال: قال مولى ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار ورجلا من مزينة وابن خطل وقال: أطيعا الأنصاري حتى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاري وهرب المزني.
وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح.
ومن النفر الذين كان أهدر دمهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح غير من تقدم ذكره هبار بن الأسود وعكرمة ابن أبي جهل كعب بن زهير ووحشي بن حرب وأسيد بن إياس بن أبي زنيم وقينتا ابن خطل وهند بنت عتبة.
والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه أنه كان يسمى عبد العزى فلما أسلم سمى عبد الله، وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال، بين ذلك الكلبي في النسب، وقيل هو عبد الله بن هلال بن خطل، وقيل غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب.
وهذا الحديث ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره المصنف في المغازي عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث.
قال مالك: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فما نرى - والله أعلم - يومئذ محرما ا ه.
وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به، أخرجه الدار قطني في " الغرائب".
ووقع في " الموطأ " من رواية أبي مصعب وغيره قال مالك " قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما " وهذا مرسل، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ " دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام " وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال " لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة " وزعم الحاكم في " الإكليل " أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء معارضة، وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حديث عمرو بن حريث " أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء " أخرجه مسلم أيضا، وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول، وهذا الجمع لعياض.
وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم، وبهذا يندفع إشكال من قال: لا دلالة في الحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام لاحتمال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان محرما ولكنه غطى رأسه لعذر، فقد اندفع ذلك بتصريح جابر بأنه لم يكن محرما، لكن فيه إشكال من وجه آخر لأنه صلى الله عليه وسلم كان متأهبا للقتال ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله، وأما من قال من الشافعية كابن القاص: دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر، لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، لكن زعم الطحاوي أن دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي شريح وغيره إنها لم تحل له إلا ساعة من نهار، وأن المراد بذلك جواز دخولهما له بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا والعياذ بالله تعالى على مكة حل للمسلمين قتالهم قتلهم فيها وقد عكس استدلاله النووي فقال: في الحديث دلالة على أن مكة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة، فبطل ما صوره الطحاوي.
وفي دعواه الإجماع نظر فإن الخلاف ثابت كما تقدم، وقد حكاه القفال والماوردي وغيرهما، واستدل بحديث الباب على أنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة، وأجاب النووي بأنه صلى الله عليه وسلم كان صالحهم، لكن لما لم يأمن غدرهم دخل متأهبا، وهذا جواب قوي إلا أن الشأن في ثبوت كونه صالحهم فإنه لا يعرف في شيء من الأخبار صريحا كما سيأتي إيضاحه في الكلام على فتح مكة من المغازي إن شاء الله تعالى.
واستدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، قال ابن عبد البر: كان تل ابن خطل قودا من قتله المسلم.
وقال السهيلي: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب.
وقال النووي: تأول من قال لا يقتل فيها على أنه صلى الله عليه وسلم قتله في الساعة التي أبيحت له، وأجاب عنه أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك.
انتهى.