*3* باب الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج) ؟ يعني أم لا؟ ولا منافاة بين هذه الترجمة والتي قبلها، لأن التي قبلها آذنت بأن الإعسار بالكفارة لا يسقطها عن الذمة لقوله فيها " إذا جامع ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر " والثانية ترددت هل المأذون له بالتصرف فيه نفس الكفارة أم لا؟ وعلى هذا يتنزل لفظ الترجمة.
الحديث:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ الْأَخِرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً قَالَ لَا قَالَ فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا قَالَ أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لَا قَالَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَهُوَ الزَّبِيلُ قَالَ أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ قَالَ عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا قَالَ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ
الشرح:
قوله: (عن منصور) هو ابن المعتمر.
قوله: (عن الزهري عن حميد) كذا للأكثر من أصحاب منصور عنه، وكذا رواه مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن منصور، وخالفه مهران بن أبي عمر فرواه عن الثوري بهذا الإسناد فقال " عن سعيد ابن المسيب " بدل حميد بن عبد الرحمن أخرجه ابن خزيمة، وهو قول شاذ والمحفوظ الأول.
قوله: (إن الأخر) بهمزة غير ممدودة بعدها خاء معجمة مكسورة، تقدم في أوائل الباب الذي قبله، وحكى ابن القوطية فيه مد الهمزة.
قوله: (أتجد ما تحرر رقبة) ؟ بالنصب على البدل من لفظ " ما " وهي مفعول بتجد، ومثله قوله " أفتجد ما تطعم ستين مسكينا " وقد تقدم باقي الكلام عليه مستوفى في الذي قبله، وقد اعتنى به بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة، ومحصله إن شاء الله تعالى فيما لخصته مع زيادات كثيرة عليه، فلله الحمد على ما أنعم.
*3* باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ حذف التشكيل
وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا قَاءَ فَلَا يُفْطِرُ إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلَا يُولِجُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَا تَنْهَى وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ قِيلَ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ
الشرح:
قوله: (باب الحجامة والقيء للصائم) أي هل يفسدان هما أو أحدهما الصوم أو لا؟ قال الزين بن المنير: جمع بين القيء والحجامة مع تغايرهما، وعادته تفريق التراجم إذا نظمها خبر واحد فضلا عن خبرين، وإنما صنع ذلك لاتحاد مأخذهما لأنهما إخراج والإخراج لا يقتضي الإفطار، وقد أومأ ابن عباس إلى ذلك كما سيأتي البحث فيه، ولم يذكر المصنف حكم ذلك، ولكن إيراده للآثار المذكورة يشعر بأنه يرى عدم الإفطار بهما، ولذلك عقب حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " بحديث " أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم " وقد اختلف السلف في المسألتين: أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه فلا يفطر وبين من تعمده فيفطر، ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن نقل ابن بطال عن ابن عباس وابن مسعود لا يفطر مطلقا وهي إحدى الروايتين عن مالك، واستدل الأبهري بإسقاط القضاء عمن تقيأ عمدا بأنه لا كفارة عليه على الأصح عندهم قال فلو وجب القضاء لوجبت الكفارة، وعكس بعضهم فقال هذا يدل على اختصاص الكفارة بالجماع دون غيره من المفطرات، وارتكب عطاء والأوزاعي وأبو ثور فقالوا يقضي ويكفر، ونقل ابن المنذر أيضا الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء ولم يتعمده إلا في إحدى الروايتين عن الحسن.
وأما الحجامة فالجمهور أيضا على عدم الفطر بها مطلقا، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء.
وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا.
وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان.
ونقل الترمذي عن الزعفران أن الشافعي علق القول على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية، وحجة الفريقين قد ذكرها المصنف في هذا الباب، وسنذكر البحث في ذلك في آخر الباب إن شاء الله تعالى.
قوله: (وقال لي يحيى بن صالح) هكذا وقع في جميع النسخ من الصحيح، وعادة البخاري الإتيان بهذه الصيغة في الموقوفات إذا أسندها.
وقوله في الإسناد " حدثنا يحيى " هو ابن أبي كثير.
قوله: (إذا قاء فلا يفطر، إنما يخرج ولا يولج) كذا للأكثر، وللكشميهني " أنه يخرج ولا يولج " قال ابن المنير في الحاشية يؤخذ من هذا الحديث أن الصحابة كانوا يؤولون الظاهر بالأقيسة من حيث الجملة، ونقض غيره هذا الحضر بالمني فإنه إنما يخرج، وهو موجب للقضاء والكفارة.
قوله: (ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر، والأول أصح) كأنه يشير بذلك إلى ما رواه هو في " التاريخ الكبير " قال: قال لي مسدد عن عيسى بن يونس حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه قال " من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه القضاء، وإن استقاء فليقض " قال البخاري: لم يصح، وإنما يروى عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة وعبد الله ضعيف جدا.
ورواه الدارمي من طريق عيسى بن يونس، ونفل عن عيسى أنه قال: زعم أهل البصرة أن هشاما وهم فيه.
وقال أبو داود سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء.
ورواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم من طريق عيسى بن يونس به وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من رواية عيسى بن يونس عن هشام.
وسألت محمدا عنه فقال: لا أراه محفوظا.
انتهى.
وقد أخرجه ابن ماجة والحاكم من طريق حفص بن غياث أيضا عن هشام قال: وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ولا يصح إسناده ولكن العمل عليه عند أهل العلم.
قلت: ويمكن الجمع بين قول أبي هريرة " إذا قاء لا يفطر " وبين قوله " إنه يفطر " مما فصل في حديثه هذا المرفوع، فيحتمل قوله قاء أنه تعمد القيء واستدعى به، وبهذا أيضا يتأول قوله في حديث أبي الدرداء الذي أخرجه أصحاب السنن مصححا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر أي استقاء عمدا، وهو أولى من تأويل من أوله بأن المعنى قاء فضعف فأفطر والله أعلم، حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم.
وقال الطحاوي: ليس في الحديث أن القيء فطره، وإنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك.
وتعقبه ابن المنير بأن الحكم إذا عقب بالفاء دل على أنه العلة كقولهم سها فسجد.
قوله: (وقال ابن عباس وعكرمة الصوم مما دخل، وليس مما خرج) أما قول ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم قال: الفطر مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل، وروى من طريق إبراهيم النخعي أنه سئل عن ذلك فقال " قال عبد الله يعني ابن مسعود فذكر مثله " وإبراهيم لم يلق ابن مسعود وإنما أخذ عن كبار أصحابه، وأما قول عكرمة فوصله ابن أبي شيبة عن هشيم عن حصين عن عكرمة مثله.
قوله: (وكان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان يحتجم بالليل) وصله مالك في " الموطأ " عن نافع عن ابن عمر " أنه احتجم وهو صائم، ثم ترك ذلك، وكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر ورويناه في نسخة أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس عن الزهري " كان ابن عمر يحتجم وهو صائم في رمضان وغيره، ثم تركه لأجل الضعف " هكذا وجدته منقطعا، ووصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وكان ابن عمر كثير الاحتياط، فكأنه ترك الحجامة نهارا لذلك.
قوله: (واحتجم أبو موسى ليلا) وصله ابن أبي شيبة من طريق حميد الطويل " عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي العالية قال: " دخلت على أبي موسى وهو أمير البصرة ممسيا فوجدته يأكل تمرا وكامخا وقد احتجم، فقلت له ألا تحتجم نهارا؟ قال: أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم "؟ ورواه النسائي والحاكم من طريق مطر الوراق " عن بكر أن أبا رافع قال: دخلت على أبي موسى وهو يحتجم ليلا فقلت: ألا كان هذا نهارا؟ فقال: أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفطر الحاجم والمحجوم " قال الحاكم سمعت أبا على النيسابوري يقول: قلت لعبدان الأهوازي يصح في " أفطر الحاجم والمحجوم " شيء؟ قال سمعت عباسا العنبري يقول سمعت علي بن المديني يقول: قد صح حديث أبي رافع عن أبي موسى.
قلت: إلا أن مطرا خولف في رفعه فالله أعلم.
قوله: (ويذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صياما) هكذا أخرجه بصيغة التمريض، والسبب في ذلك يظهر بالتخريج، فأما أثر سعد وهو ابن أبي وقاص فوصله مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب " أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان " وهذا منقطع عن سعد، لكن ذكره ابن عبد البر من وجه آخر عن عامر بن سعد عن أبيه، وأما أثر زيد بن أرقم فوصله عبد الرزاق " عن الثوري عن يونس بن عبد الله الجرمي عن دينار قال: حجمت زيد بن أرقم وهو صائم " ودينار هو الحجام مولى جرم بفتح الجيم لا يعرف إلا في هذا الأثر.
وقال أبو الفتح الأزدي لا يصح حديثه.
وأما أثر أم سلمة فوصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري أيضا " عن فرات عن مولى أم سلمة أنه رأى أم سلمة تحتجم وهي صائمة " وفرات هو ابن عبد الرحمن ثقة لكن مولى أم سلمة مجهول الحال.
قال ابن المنذر: وممن رخص في الحجامة للصائم أنس وأبو سعيد والحسين بن علي وغيرهم من الصحابة والتابعين، ثم ساق ذلك بأسانيده.
قوله: (وقال بكير عن أم علقمة: كنا نحتجم عند عائشة فلا ننهى) أما بكير فهو ابن عبد الله ابن الأشج، وأما أم علقمة فاسمها مرجانة.
وقد وصله البخاري في تاريخه من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أم علقمة قالت " كنا نحتجم عند عائشة ونحن صيام وبنو أخي عائشة فلا تنهاهم".
قوله: (ويروى عن الحسن عن غير واحد مرفوعا: أفطر الحاجم والمحجوم) وصله النسائي من طرق عن أبي حرة عن الحسن به.
وقال علي بن المديني: روى يونس عن الحسن حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " عن أبي هريرة، ورواه قتادة عن الحسن عن ثوبان، ورواه عطاء بن السائب عن الحسن عن معقل بن يسار، ورواه مطر عن الحسن عن علي، ورواه أشعث عن الحسن عن أسامة، زاد الدار قطني في " العلل " أنه اختلف على عطاء بن السائب في الصحابي فقيل: معقل بن يسار المزني، وقبل معقل ابن سنان الأشجعي، وروي عن عاصم عن الحسن عن معقل بن يسار أيضا، وقيل عن مطر عن الحسن عن معاذ.
واختلف على قتادة عن الحسن في الصحابي فقيل أيضا على، وقيل أبو هريرة.
قلت: واختلف على يونس أيضا كما سأذكره.
قال: وقال أبو حرة " عن الحسن عن غير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال فإن كان حفظه صحت الأقوال كلها.
قلت: لم ينفرد به أبو حرة كما سأبينه.
قوله: (وقال لي عياش) بتحتانية ومعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى.
قوله: (حدثنا يونس) هو ابن عبيد (عن الحسن) مثله أي " أفطر الحاجم والمحجوم".
قوله: (قيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم.
ثم قال: الله أعلم) وهذا متابع لأبي حرة عن الحسن، وقد أخرجه البخاري في تاريخه والبيهقي أيضا من طريقه قال حدثني عياش فذكره، رواه عن ابن المديني في " العلل " والبيهقي أيضا من طريقه قال حدثنا المعتمر هو ابن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن عن غير واحد به، ورواية يونس عن الحسن عن أبي هريرة عند النسائي من طريق عبد الوهاب الثقفي عن يونس، وأخرجه من طريق بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قوله، وذكره الدار قطني من طريق عبيد الله بن تمام عن يونس عن الحسن عن أسامة، والاختلاف على الحسن في هذا الحديث واضح لكن نقل الترمذي في " العلل الكبير " عن البخاري أنه قال: يحتمل أن يكون سمعه عن غير واحد، وكذا قال الدار قطني في " العلل " إن كان قول الحسن عن غير واحد من الصحابة محفوظا صحت الأقوال كلها.
قلت: يريد بذلك انتفاء الاضطراب، وإلا فالحسن لم يسمع من أكثر للمذكورين.
ثم الظاهر من السياق أن الحسن كان يشك في رفعه وكأنه حصل له بعد الجزم تردد، وحمل الكرماني جزمه على وثوقه بخبر من أخبره به، وتردده لكونه خبر واحد فلا يفيد اليقين، وهو حمل في غاية البعد.
ونقل الترمذي أيضا عن البخاري يعني عن أبي قلابة، قال: كلاهما عندي صحيح لأن يحيى بن أبي كثير روي عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وعن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد روى الحديثين جميعا، يعني فانتفى الاضطراب وتعين الجمع بذلك.
وكذا قال عثمان الدارمي: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم من طريق ثوبان وشداد قال: وسمعت أحمد يذكر ذلك.
وقال المروزي: قلت لأحمد إن يحيى بن معين قال ليس فيه شيء يثبت، فقال: هذا مجازفة.
وقال ابن خزيمة: صح الحديثان جميعا، وكذا قال ابن حبان والحاكم، وأطنب النسائي في تخريج طرق هذا المتن وبيان الاختلاف فيه فأجاد وأفاد.
وقال أحمد: أصح بشيء في باب " أفطر الحاجم والمحجوم " حديث رافع بن خديج.
قلت: يريد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب ابن يزيد عن رافع، لكن عارض أحمد يحيى بن معين في هذا فقال: حديث رافع أضعفها.
وقال البخاري: هو غير محفوظ.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هو عندي باطل.
وقال الترمذي: سألت إسحاق بن منصور عنه فأبي أن يحدثني به عن عبد الرزاق وقال: هو غلط، قلت ما علته؟ قال: روى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد حديث " مهر البغي خبيث " وروى عن يحيى عن أبي قلابة أن أبا أسماء حدثه أن ثوبان أخبره به، فهذا هو المحفوظ عن يحيى، فكأنه دخل لمعمر حديث في حديث والله أعلم.
وقال الشافعي في " اختلاف الحديث " بعد أن أخرج حديث شداد ولفظه " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان الفتح فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان فقال وهو آخذ بيدي: أفطر الحاجم والمحجوم، ثم ساق حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم قال: وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلى احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس، والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة.
قلت: وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث ابن عباس عقب حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " وحكى الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول بأن الحجامة تفطر على صحة الحديث، قال الترمذي: كان الشافعي يقول ذلك ببغداد وأما بمصر فمال إلى الرخصة والله أعلم.
وأول بعضهم حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " أن المراد به أنهما سيفطران كقوله تعالى (إني أراني أعصر خمرا) أي ما يؤول إليه، ولا يخفى تكلف هذا التأويل، ويقربه ما قال البغوي في " شرح السنة " معنى قوله " أفطر الحاجم والمحجوم ": أي تعرضا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فيؤول أمره إلى أن يفطر، وقيل معنى أفطرا فعلا مكروها وهو الحجامة فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة، وسأذكر بقية كلامهم في الحديث الذي يليه.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ
الشرح:
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم) هكذا أخرجه من طريق وهيب عن عكرمة عن ابن عباس، وتابعه عبد الوارث عن أيوب موصولا كما سيأتي في الطب، ورواه ابن علية ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلا واختلف على حماد بن زيد في وصله وإرساله، وقد بين ذلك النسائي.
وقال مهنا: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس فيه " صائم " إنما هو " وهو محرم"، ثم ساقه من طرق عن ابن عباس لكن ليس فيها طريق أيوب هذه، والحديث صحيح لا مرية فيه.
قال ابن عبد البر وغيره: فيه دليل على أن حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " منسوخ لأنه جاء في بعض طرقه أن ذلك كان في حجة الوداع، وسبق إلى ذلك الشافعي، واعترض ابن خزيمة بأن في هذا الحديث أنه كان صائما محرما، قال ولم يكن قط محرما مقيما ببلده إنما كان محرما وهو مسافر، والمسافر إن كان ناويا للصوم فمضى عليه بعض النهار وهو صائم أبيح له الأكل والشرب على الصحيح، فإذا جاز له ذلك جاز له أن يحتجم وهو مسافر، قال: فليس في خبر ابن عباس ما يدل على إفطار المحجوم فضلا عن الحاجم ا ه.
وتعقب بأن الحديث ما ورد هكذا إلا لفائدة، فالظاهر أنه وجدت منه الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه واستمر.
وقال ابن خزيمة أيضا: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال " أفطر الحاجم والمحجوم " لأنهما كانا يغتابان، قال فإذا قيل له فالغيبة تفطر الصائم؟ قال لا، قال فعلى هذا لا يخرج من مخالفة الحديث بلا شبهة.
انتهى.
وقد أخرج الحديث المشار إليه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في " المعرفة " وغيرهم من طريق يزيد بن أبي ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان، ومنهم من أرسله، ويزيد بن ربيعة متروك وحكم علي بن المديني بأنه حديث باطل.
وقال ابن حزم: صح حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد " أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم " وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما.
انتهى.
والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدار قطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدار قطني ولفظه " أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان.
ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم.
وكان أنس يحتجم وهو صائم " ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك.
ومن أحسن ما ورد في ذل: ما رواه عبد الرزاق وأبو داود من طريق عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نهى النبي عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه " إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر، وقوله "إبقاء على أصحابه " يتعلق بقوله نهى، وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه " عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف " أي لئلا يضعف.
الحديث:
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ وَزَادَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح:
قوله: (سمعت ثابتا البناني قال: سئل أنس بن مالك) كذا في أكثر أصول البخاري " سئل " بضم أوله على البناء للمجهول.
وفي رواية أبي الوقت " سأل أنسا " وهذا غلط فإن شعبة ما حضر سؤال ثابت لأنس، وقد سقط منه رجل بين شعبة وثابت فرواه الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي من طريق جعفر بن محمد القلانسي وأبي قرصافة محمد بن عبد الوهاب وإبراهيم بن الحسين بن دريد كلهم عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري فيه فقال " عن شعبة عن حميد قال سمعت ثابتا وهو يسأل أنس بن مالك " فذكر الحديث، وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن الرواية التي وقعت للبخاري خطأ وأنه سقط منه حميد، قال الإسماعيلي: وكذلك رواه على بن سهل عن أبي النضر عن شعبة عن حميد.
قوله: (وزاد شبابة حدثنا: شعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) هذا يشعر بأن رواية شبابة موافقة لرواية آدم في الإسناد والمتن إلا أن شبابة زاد فيه ما يؤكد رفعه.
وقد أخرج ابن منده في " غرائب شعبة " طريق شبابة فقال " حدثنا محمد بن أحمد بن حاتم حدثنا عبد الله بن روح حدثنا شبابة حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد " وبه " عن شبابة عن شعبة عن حميد عن أنس " نحوه وهذا يؤكد صحة ما اعترض به الإسماعيلي ومن تبعه ويشعر بأن الخلل فيه من غير البخاري، إذ لو كان إسناد شبابة عنده مخالفا لإسناد آدم لبينه وهو واضح لا خفاء به، والله أعلم بالصواب