*2*كتاب الجزية
*3* باب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ حذف التشكيل
وَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ يَعْنِي أَذِلَّاءُ وَالْمَسْكَنَةُ مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ فُلَانٌ أَسْكَنُ مِنْ فُلَانٍ أَحْوَجُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ قَالَ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ
الشرح:
قوله: (باب الجزية) كذا للأكثر، ووقع عند ابن بطال وأبي نعيم " كتاب الجزية " ووقع لجميعهم البسملة أو له سوى أبي ذر.
قوله: (الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب) فيه لف ونشر مرتب، لأن الجزية مع أهل الذمة، والموادعة مع أهل الحرب.
والجزية من جزأت الشيء إذا قسمته ثم سهلت الهمزة، وقيل من الجزاء أي لأنها جزاء تركهم ببلاد الإسلام، أو من الإجزاء لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه.
والموادعة المتاركة، والمراد بها متاركة أهل الحرب مدة معينة لمصلحة.
قال ابن المنير: وليس في أحاديث الباب ما يوافقها إلا الحديث الأخير في تأخير النعمان بن مقرن القتال وانتظاره زوال الشمس.
قلت: وليست هذه الموادعة المعروفة، والذي يظهر أن الصواب ما وقع عند أبي نعيم من إثبات لفظ " كتاب " في صدر هذه الترجمة ويكون الكتاب معقودا للجزية والمهادنة، والأبواب المذكورة بعد ذلك مفرعة عنه، والله أعلم.
قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم ويحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام.
واختلف في سنة مشروعيتها فقيل في سنة ثمان، وقيل في سنة تسع.
قوله: (وقول الله عز وجل قاتلوا الذين إلخ) هذه الآية هي الأصل في مشروعية الجزية، ودل منطوق الآية على مشروعيتها مع أهل الكتاب، ومفهومها أن غيرهم لا يشاركهم فيها.
قوله: (يعني أذلاء) هو تفسير (وهم صاغرون) قال أبو عبيدة في المجاز: الصاغر الذليل الحقير.
قال: وقوله: (عن يد) أي عن طيب نفس، وكل من أطاع لقاهر وأعطاه عن طيب نفس من يد فقد أعطاه عن يد.
وقيل معنى قوله: (عن يد) أي نعمة منكم عليهم، وقيل يعطيها من يده ولا يبعث بها، وعن الشافعي: المراد بالصغار هنا التزام حكم الإسلام، وهو يرجع إلى التفسير اللغوي.
لأن الحكم على الشخص بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله يستلزم الذل.
قوله: (والمسكنة مصدر المسكين فلان أسكن من فلان أحوج منه ولم يذهب إلى السكون) هذا الكلام ثبت في كلام أبي عبيدة في المجاز، والقائل " ولم يذهب إلى السكون " قيل هو الفربري الراوي عن البخاري، أراد أن ينبه على أن قول البخاري " أسكن " من المسكنة لا من السكون، وإن كان أصل المادة واحدا، ووجه ذكر المسكنة هنا أنه لما فسر الصغار بالذلة وجاء في وصف أهل الكتاب أنهم (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) ناسب ذكر المسكنة عند ذكر الذلة.
قوله: (وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم) هذه بقية الترجمة، قيل وعطف العجم على من تقدم ذكره من عطف الخاص على العام، وفيه نظر، والظاهر أن بينهما خصوصا وعموما وجهيا، فأما اليهود والنصارى فهم المراد بأهل الكتاب بالاتفاق، وأما المجوس فقد ذكر مستنده في الباب، وفرق الحنفية فقالوا: تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب، وحكى الطحاوي عنهم تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم ولا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وعن مالك تقبل من جميع الكفار إلا من ارتد، وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام، وحكى ابن القاسم عنه لا تقبل من قريش، وحكى ابن عبد البر الاتفاق على قبولها من المجوس، لكن حكى ابن التين عن عبد الملك أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى فقط، ونقل أيضا الاتفاق على أنه لا يحل نكاح نسائهم ولا أكل ذبائحهم، لكن حكى غيره عن أبي ثور حل ذلك، قال ابن قدامة: هذا خلاف إجماع من تقدمه.
قلت: وفيه نظر، فقد حكى ابن عبد البر عن سعيد بن المسيب أنه لم يكن يرى بذبيحة المجوسي بأسا إذا أمره المسلم بذبحها، وروى ابن أبي شيبة عنه وعن عطاء وطاوس وعمرو بن دينار أنهم لم يكونوا يرون بأسا بالتسري بالمجوسية.
وقال الشافعي: تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلتحق بهم المجوس في ذلك، واحتج بالآية المذكورة فإن مفهومها أنها لا تقبل من غير أهل الكتاب وقد أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من المجوس فدل على إلحاقهم بهم واقتصر عليه.
وقال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب وعلى المجوس بالسنة، واحتج غيره بعموم قوله في حديث بريده وغيره " فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية " واحتجوا أيضا بأن أخذها من المجوس يدل على ترك مفهوم الآية، فلما انتفى تخصيص أهل الكتاب بذلك دل على أن لا مفهوم لقوله " من أهل الكتاب"، وأجيب بأن المجوس كان لهم كتاب ثم رفع، وروى الشافعي وغيره في ذلك حديثا عن علي، وسيأتي في هذا الباب ذكره.
وتعقب بقوله تعالى (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) ، وأجيب بأن المراد مما اطلع عليه القائلون وهم قريش لأنهم لم يشتهر عندهم من جميع الطوائف من له كتاب إلا اليهود والنصارى، وليس في ذلك نفي بقية الكتب المنزلة كالزبور وصحف إبراهيم وغير ذلك.
قوله: (وقال ابن عيينة إلخ) وصله عبد الرزاق عنه به وزاد بعد قوله أهل الشام " من أهل الكتاب تؤخذ منهم الجزية إلخ " وأشار بهذا الأثر إلى جواز التفاوت في الجزية، وأقل الجزية عند الجمهور دينار لكل سنة، وخصه الحنفية بالفقير، وأما المتوسط فعليه ديناران وعلى الغني أربعة، وهو موافق الأثر مجاهد كما دل عليه حديث عمر، وعند الشافعية أن للإمام أن يماكس حتى يأخذها منهم وبه قال أحمد، روى أبو عبيد من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب " عن عمر أنه بعث عثمان بن حنيف بوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر " وهذا على حساب الدينار باثني عشر.
وعن مالك لا يزاد على الأربعين، وينقص منها عمن لا يطيق، وهذا محتمل أن يكون جعله على حساب الدينار بعشرة، والقدر الذي لا بد منه دينار، وفيه حديث مسروق عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال: خذ من كل حالم دينارا " أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي والحاكم، واختلف السلف في أخذها من الصبي فالجمهور لا على مفهوم حديث معاذ، وكذا لا تؤخذ من شيخ فان ولا زمن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع والديارات في قول، والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخرا.
:
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ
الشرح:
قوله: (سمعت عمرا) هو ابن دينار.
قوله: (كنت جالسا مع جابر بن زيد) هو أبو الشعثاء البصري (وعمرو بن أوس) هو الثقفي المتقدم ذكر روايته عن عبد الرحمن بن أبي بكر في الحج وعن عبد الله بن عمرو في التهجد، وليست له هنا رواية، بل ذكره عمرو بن دينار ليبين أن بحالة لم يقصده بالتحدث وإنما حدث غيره فسمعه هو، وهذا وجه من وجوه التحمل بالاتفاق، وإنما اختلفوا هل يسوغ أن يقول " حدثنا "؟ والجمهور على الجواز، ومنع منه النسائي وطائفة قليلة.
وقال البرقاني: يقول " سمعت فلانا".
قوله: (فحدثهما بجالة) هو بفتح الموحدة والجيم الخفيفة تابعي شهير كبير تميمي بصري وهو ابن عبدة بفتح المهملة والموحدة، ويقال فيه عبد بالسكون بلا هاء، وماله في البخاري سوى هذا الموضع.
قوله: (عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة) أي وحج حينئذ بحالة معه، وبذلك صرح أحمد في روايته عن سفيان، وكان مصعب أميرا على البصرة من قبل أخيه عبد الله بن الزبير.
وقتل مصعب بعد ذلك بسنة أو سنتين.
قوله: (كنت كاتبا لجزء) بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة هكذا يقوله المحدثون، وضبطه أهل النسب بكسر الزاي بعدها تحتانية ساكنة ثم همزة.
ومن قاله بلفظ التصغير فقد صحف.
وهو ابن معاوية ابن حصن بن عبادة التميمي السعدي، عم الأحنف بن قيس.
وهو معدود في الصحابة.
وكان عامل عمر على الأهواز.
ووقع في رواية الترمذي أنه كان على تنادر (قلت) هي من قرى الأهواز.
وذكر البلاذري أنه عاش إلى خلافة معاوية، وولى لزياد بعض عمله.
قوله: (قبل موته بسنة) كان ذلك سنة اثنتين وعشرين، لأن عمر قتل سنة ثلاث.
قوله: (فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس) زاد مسدد وأبو يعلى في روايتهما " اقتلوا كل ساحر قال: فقتلنا في يوم ثلاث سواحر، وفرقنا بين المحارم منهم، وصنع طعاما فدعاهم وعرض السيف على فخذيه، فأكلوا بغير زمزمة " قال الخطابي: أراد عمر بالتفرقة بين المحارم من المجوس منعهم من إظهار ذلك وإفشاء عقودهم به، وهو كما شرط على النصارى أن لا يظهروا صليبهم.
قلت قد روى سعيد بن منصور من وجه آخر عن بجالة ما يبين سبب ذلك ولفظه " أن فرقوا بين المجوس وبين محارمهم كيما نلحقهم بأهل الكتاب " فهذا يدل على أن ذلك عند عمر شرط في قبول الجزية منهم، وأما الأمر بقتل الساحر فهو من مسائل الخلاف، وقد وقع في رواية سعيد بن منصور المذكورة من الزيادة " واقتلوا كل ساحر وكاهن " وسيأتي الكلام على حكم الساحر في " باب هل يعفى عن الذمي إذا سحر".
قوله: (ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف) قلت: إن كان هذا من جملة كتاب عمر فهو متصل وتكون فيه رواية عمر عن عبد الرحمن بن عوف، وبذلك وقع التصريح في رواية الترمذي ولفظه " فجاءنا كتاب عمر: انظر مجوس من قبلك فخذ منهم الجزية، فإن عبد الرحمن ابن عوف أخبرني " فذكره.
لكن أصحاب الأطراف ذكروا هذا الحديث في ترجمة بجالة بن عبدة عن عبد الرحمن ابن عوف، وليس بجيد، وقد أخرج أبو داود من طريق قشير بن عمرو عن بجالة عن ابن عباس قال " جاء رجل من مجوس هجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج قلت له: ما قضى الله ورسوله فيكم؟ قال.
شر، الإسلام أو القتل.
قال: وقال عبد الرحمن بن عوف: قبل منهم الجزية.
قال ابن عباس فأخذ الناس بقول عبد الرحمن وتركوا ما سمعت"؛ وعلى هذا فبجالة يرويه عن ابن عباس سماعا وعن عمر كتابة كلاهما عن عبد الرحمن بن عوف، وروى أبو عبيد بإسناد صحيح عن حذيفة " لولا أني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها " وفي الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه " أن عمر قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وهذا منقطع مع ثقة رجاله، ورواه ابن المنذر والدار قطني في " الغرائب " من طريق أبي علي الحنفي عن مالك فزاد فيه " عن جده " وهو منقطع أيضا لأن جده علي بن الحسين لم يلحق عبد الرحمن بن عوف ولا عمر، فإن كان الضمير في قوله " عن جده " يعود على محمد بن علي فيكون متصلا لأن جده الحسين بن علي سمع من عمر بن الخطاب ومن عبد الرحمن بن عوف، وله شاهد من حديث مسلم بن العلاء بن الحضرمي أخرجه الطبراني في آخر حديث بلفظ " سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب " قال أبو عمر: هذا من الكلام العام الذي أريد به الخاص، لأن المراد سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط.
قلت: وقع في آخر رواية أبي علي الحنفي " قال مالك في الجزية: واستدل بقوله سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب " لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن علي " كان المجوس أهل كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه، فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته، فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته، فأطاعوه وقتل من خالفه فأسرى على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شيء " وروى عبد بن حميد في تفسير سورة البروج بإسناد صحيح عن ابن أبزى " لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر: اجتمعوا.
فقال: إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم، ولا من عبدة الأوثان فنجري عليهم أحكامهم فقال علي: بل هم أهل كتاب " فذكر نحوه لكن قال " وقع على ابنته " وقال في آخره " فوضع الأخدود لمن خالفه " فهذا حجة لمن قال كان لهم كتاب، وأما قول ابن بطال: لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه ولما استثنى حل ذبائحهم ونكاح نسائهم، فالجواب أن الاستثناء وقع تبعا للأثر الوارد في ذلك لأن في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم، بخلاف النكاح فإنه مما يحتاط له.
وقال ابن المنذر: ليس تحريم نسائهم وذبائحهم متفقا عليه، ولكن الأكثر من أهل العلم عليه.
وفي الحديث قبول خبر الواحد، وأن الصحابي الجليل قد يغيب عنه علم ما اطلع عليه غيره من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه، وأنه لا نقص عليه في ذلك.
وفيه التمسك بالمفهوم لأن عمر فهم من قوله " أهل الكتاب " اختصاصهم بذلك حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف بإلحاق المجوس بهم فرجع إليه.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْفَجْرَ انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ
الشرح:
قوله: (الأنصاري) المعروف عند أهل المغازي أنه من المهاجرين وهو موافق لقوله هنا " وهو حليف لبني عامر بن لؤي " لأنه يشعر بكونه من أهل مكة، ويحتمل أن يكون وصفه بالأنصاري بالمعنى الأعم، ولا مانع أن يكون أصله من الأوس والخزرج ونزل مكة وحالف بعض أهلها فبهذا الاعتبار يكون أنصاريا مهاجريا، ثم ظهر لي أن لفظة الأنصاري وهم، وقد تفرد بها شعيب عن الزهري، ورواه أصحاب الزهري كلهم عنه بدونها في الصحيحين وغيرهما، وهو معدود في أهل بدر باتفاقهم، ووقع عند موسى بن عقبة في المغازي أنه عمير بن عوف بالتصغير، وسيأتي في الرقاق من طريق موسى بن عقبة عن الزهري بغير تصغير، وكأنه كان يقال فيه بالوجهين، وقد فرق العسكري بين عمير بن عوف وعمرو بن عوف والصواب الوحدة.
قوله: (بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين) أي البلد المشهور بالعراق، وهي بين البصرة وهجر، وقوله "يأتي بجزيتها " أي بجزية أهلها، وكان غالب أهلها إذ ذاك المجوس، ففيه تقوية للحديث الذي قبله، ومن ثم ترجم عليه النسائي " أخذ الجزية من المجوس"، وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوى عامل البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية.
قوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين) كان ذلك في سنة الوفود سنة تسع من الهجرة، والعلاء بن الحضرمي صحابي شهير واسم الحضرمي عبد الله بن مالك بن ربيعة، وكان من أهل حضرموت فقدم مكة فخالف بها بني مخزوم، وقيل كان اسم الحضرمي في الجاهلية زهرمز، وذكر عمر ابن شبة في " كتاب مكة " عن أبي غسان عن عبد العزيز بن عمران أن كسرى لما أغار بنو تميم وبنو شيبان على ماله أرسل إليهم عسكرا عليهم زهرمز فكانت وقعة ذي قار فقتلوا الفرس وأسروا أميرهم، فاشتراه صخر بن رزين الديلي فسرقه منه رجل من حضرموت فتبعه صخر حتى افتداه منه فقدم به مكة، وكان صناعا فعتق وأقام بمكة وولد له أولاد نجباء وتزوج أبو سفيان ابنته الصعبة فصارت دعواهم في آل حرب، ثم تزوجها عبيد الله بن عثمان والد طلحة أحد العشرة فولدت له طلحة.
قال وقال غير عبد العزيز أن كلثوم ابن رزين أو أخاه الأسود خرج تاجرا فرأى بحضرموت عبدا فارسا نجارا يقال له زهرمز فقدم به مكة ثم اشتراه من مولاه وكان حميريا يكنى أبا رفاعة فأقام بمكة فصار يقال له الحضرمي حتى غلب على اسمه، فجاور أبا سفيان وانقطع إليه، وكان آل رزين حلفاء لحرب بن أمية، وأسلم العلاء قديما ومات الثلاثة المذكورون أبو عبيدة والعلاء باليمين وعمرو بن عوف في خلافة عمر رضي الله عنهم.
قوله: (فقدم أبو عبيدة) تقدم في كتاب الصلاة بيان المال المذكور وقدره وقصة العباس في الأخذ منه وهي التي ذكرت هنا أيضا.
قوله: (فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافقت صلاة الصبح) يؤخذ منه أنهم كانوا لا يجتمعون في كل الصلوات في التجميع إلا لأمر يطرأ، وكانوا يصلون في مساجدهم، إذ كان لكل قبيلة مسجد يجتمعون فيه، فلأجل ذلك عرف النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اجتمعوا لأمر، ودلت القرينة على تعيين ذلك الأمر وهو احتياجهم إلى المال للتوسعة عليهم فأبوا إلا أن يكون للمهاجرين مثل ذلك، وقد تقدم هناك من حديث أنس، فلما قدم المال رأوا أن لهم فيه حقا.
ويحتمل أن يكون وعدهم بأن يعطيهم منه إذا حضر، وقد وعد جابرا بعد هذا أن يعطيه من مال البحرين فوفى له أبو بكر.
قوله: (فتعرضوا له) أي سألوه بالإشارة.
قوله: (قالوا أجل يا رسول الله) قال الأخفش: أجل في المعنى مثل نعم، لكن نعم يحسن أن تقال جواب الاستفهام، وأجل أحسن من نعم في التصديق.
قوله: (فأبشروا) أمر معناه الإخبار بحصول المقصود.
قوله: (فتنافسوها) يأتي الكلام عليه في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديث أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه، وفيه البشرى من الإمام لأتباعه وتوسيع أملهم منه، وفيه من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بما يفتح عليهم، وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين.
ووقع في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم مرفوعا " تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون " أو نحو ذلك، وفيه إشارة إلى أن كل خصلة من المذكورات مسببة عن التي قبلها، وسيأتي بقية الكلام على ذلك في الرقاق إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الْأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ فَقَالَ إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ هَذِهِ قَالَ نَعَمْ مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنْ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلَانِ فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الْآخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ فَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ وَالْجَنَاحُ الْآخَرُ فَارِسُ فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَقَامَ تَرْجُمَانٌ فَقَالَ لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ سَلْ عَمَّا شِئْتَ قَالَ مَا أَنْتُمْ قَالَ نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلَاءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنْ الْجُوعِ وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ فَقَالَ النُّعْمَانُ رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنَدِّمْكَ وَلَمْ يُخْزِكَ وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ
الشرح:
قوله: (حدثنا المعتمر بن سليمان) كذا في جميع النسخ بسكون العين المهملة وفتح المثناة وكسر الميم، وكذا وقع في مستخرج الإسماعيلي وغيره في هذا الحديث، وزعم الدمياطي أن الصواب المعمر بفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة بغير مثناة قال: لأن عبد الله بن جعفر الرقي لا يروي عن المعتمر البصري، وتعقب بأن ذلك ليس بكاف في رد الروايات الصحيحة، وهب أن أحدهما لم يدخل بلد الآخر أما يجوز أن يكونا التقيا مثلا في الحج أو في الغزو؟ وما ذكره معارض بمثله، فأن المعمر بن سليمان رقي وسعيد بن عبيد الله بصري فمهما استبعد من لقاء الرقي البصري جاء مثله في لقاء الرقي للبصري، وأيضا فالذين جمعوا رجال البخاري لم يذكروا فيهم المعمر بن سليمان الرقي وأطبقوا على ذكر المعتمر بن سليمان التيمي البصري، وأغرب الكرماني فحكى أنه قيل: الصواب في هذا معمر بن راشد يعني شيخ عبد الرزاق.
قلت: وهذا هو الخطأ بعينه، فليست لعبد الله بن جعفر الرقي عن معمر بن راشد رواية أصلا، والله المستعان.
ثم رأيت سلف الدمياطي فيما جزم به فقال ابن قرقول في المطالع: وقع في التوحيد وفي الجزية عن الفضل بن يعقوب عن عبد الله بن جعفر عن معتمر بن سليمان عن سعيد بن عبيد الله كذا للجميع في الموضعين، قالوا وهو وهم، وإنما هو المعمر بن سليمان الرقي، وكذا كان في أصل الأصيلي فزاد فيه التاء وأصلحه في الموضعين، قال الأصيلي: المعتمر هو الصحيح.
وقال غيره: المعمر هو الصحيح والرقي لا يروى عن المعتمر، قال: ولم يذكر الحاكم ولا الباجي في رجال البخاري المعمر بن سليمان، بل قال الباجي في ترجمة عبد الله بن جعفر: يروى عن المعتمر، ولم يذكر له البخاري عنه رواية.
قوله: (حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي) هو ابن جبير بن حية المذكور بعد، وزياد بن جبير شيخه هو ابن عمه.
قوله: (عن جبير بن حية) هو جد زياد وحية أبوه بمهملة وتحتانية مثقلة، وهو من كبار التابعين، واسم جده مسعود بن معتب بمهملة ومثناة ثم موحدة، ومنهم من عده في الصحابة وليس ذلك عندي ببعيد، لأن من شهد الفتوح في وسط خلافة عمر يكون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مميزا، وقد نقل ابن عبد البر أنه لم يبق في سنة حجة الوداع من قريش وثقيف أحد إلا أسلم وشهدها وهذا منهم، وهو من بيت كبير فإن عمه عروة بن مسعود كان رئيس ثقيف في زمانه والمغيرة بن شعبة ابن عمه، ووقع في رواية الطبري من طريق مبارك بن فضالة عن زياد بن جبير " حدثني أبي " ولسعيد حفيده رواية أخرى في الأشربة والتوحيد، وعمه زياد بن جبير تقدمت له روايات أخرى في الصوم والحج، وذكر أبو الشيخ أن جبير بن حية ولي إمرة أصبهان ومات في خلافة عبد الملك بن مروان.
قوله: (بعث عمر الناس في أفناء الأمصار) أي في مجموع البلاد الكبار، والأفناء بالفاء والنون ممدود جمع فنو بكسر الفاء وسكون النون، ويقال فلان من أفناء الناس إذا لم تعين قبيلته.
والمصر المدينة العظيمة، ووقع عند الكرماني " الأنصار " بالنون بدل الميم وشرح عليه ثم قال: وفي بعضها الأمصار.
قوله: (فأسلم الهرمزان) في السياق اختصار كثير لأن إسلام الهرمزان كان بعد قتال كثير بينه وبين المسلمين بمدينة تستر، ثم نزل على حكم عمر فأسره أبو موسى الأشعري وأرسل به إلى عمر مع أنس فأسلم فصار عمر يقربه ويستشيره، ثم اتفق أن عبيد الله - بالتصغير - ابن عمر بن الخطاب اتهمه بأنه واطأ أبا لؤلؤة على قتل عمر فعدا على الهرمزان فقتله بعد قتل عمر، وستأتي قصة إسلام الهرمزان بعد عشرة أبواب.
وهو بضم الهاء وسكون الراء وضـم الميم بعدها زاي، وكان من زعماء الفرس.
قوله: (إني مستشيرك في مغازي) بالتشديد، وهذه إشارة إلى ما في قصده، ووقع في رواية ابن أبي شيبة من طريق معقل بن يسار " أن عمر شاور الهرمزان في فارس وأصبهان وأذربيجان " أي بأيها يبدأ، وهذا يشعر بأن المراد أنه استشاره في جهات مخصوصة، والهرمزان كان من أهل تلك البلاد وكان أعلم بأحوالها من غيره، وعلى هذا ففي قوله في حديث الباب " فالرأس كسرى والجناح قيصر والجناح الآخر فارس " نظر، لأن كسرى هو رأس أهل فارس، وأما قيصر صاحب الروم فلم يكن كسرى رأسا لهم.
وقد وقع عند الطبري من طريق مبارك بن فضالة المذكورة قال " فإن فارس اليوم رأس وجناحان " وهذا موافق لرواية ابن أبي شيبة وهو أولى، لأن قيصر كان بالشام ثم ببلاد الشمال ولا تعلق لهم بالعراق وفارس والمشرق.
ولو أراد أن يجعل كسرى رأس الملوك وهو ملك المشرق وقيصر ملك الروم دونه ولذلك جعله جناحان لكان المناسب أن يجعل الجناح الثاني ما يقابله من جهة اليمين كملوك الهند والصين مثلا، لكن دلت الرواية الأخرى على أنه لم يرد إلا أهل بلاده التي هو عالم بها، وكأن الجيوش إذ ذاك كانت بالبلاد الثلاثة، وأكثرها وأعظمها بالبلدة التي فيها كسرى لأنه كان رأسهم.
قوله: (فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى) في رواية مبارك أن الهرمزان قال " فاقطع الجناحين يلن لك الرأس " فأنكر عليه عمر فقال " بل أقطع الرأس أولا " فيحتمل أنه لما أنكر عليه عاد فأشار عليه بالصواب.
قوله: (واستعمل علينا النعمان بن مقرن) بالقاف وتشديد الراء وهو المزني، وكان من أفاضل الصحابة هاجر هو وإخوة له سبعة وقيل عشرة.
وقال ابن مسعود " أن للإيمان بيوتا، وإن بيت آل مقرن من بيوت الإيمان " وكان النعمان قدم على عمر بفتح القادسية ففي رواية ابن أبي شيبة المذكورة " فدخل عمر المسجد فإذا هو بالنعمان يصلي فقعد، فلما فرغ قال: إني مستعملك، قال أما جابيا فلا، ولكن غازيا، قال: فإنك غاز، فخرج معه الزبير وحذيفة وابن عمرو والأشعث وعمرو بن معد يكرب " وفي رواية الطبري المذكورة " فأراد عمر المسير بنفسه، ثم بعث النعمان ومعه ابن عمر وجماعة، وكتب إلى أبي موسى أن يسير بأهل البصرة، وإلى حذيفة أن يسير بأهل الكوفة، حتى يجتمعوا بنهاوند، وهي بفتح النون والهاء والواو وسكون الثانية، قال: وإذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرن".
قوله: (حتى إذا كنا بأرض العدو) وقد عرف من رواية الطبري أنها نهاوند.
قوله: (خرج علينا عامل كسرى) سماه مبارك بن فضالة في روايته بندار، وعند ابن أبي شيبة أنه ذو الجناحين، فلعل أحدهما لقبه.
قوله: (فقام ترجمان) في رواية الطبري من الزيادة " فلما اجتمعوا أرسل بندار إليهم أن أرسلوا إلينا رجلا نكلمه، فأرسلوا إليه المغيرة " وفي رواية ابن أبي شيبة " وكان بينهم نهر.
فسرح إليهم المغيرة، فعبر النهر، فشاور ذو الجناحين أصحابه كيف نقعد للرسول؟ فقالوا له: اقعد في هيئة الملك وبهجته، فقعد على سريره ووضع التاج على رأسه وقام أبناء الملوك حوله سماطين عليهم أساور الذهب والقرطة والديباج، قال فأذن للمغيرة فأخذ بضبعيه رجلان ومعه رمحه وسيفه، فجعل يطعن برمحه في بسطهم ليتطيروا " وفي رواية الطبري " قال المغيرة: فمضيت ونكست رأسي فدفعت فقلت لهم: إن الرسول لا يفعل به هذا".
قوله: (ما أنتم) هكذا خاطبه بصيغة من لا يعقل احتقارا له، وفي روايته ابن أبي شيبة " فقال إنكم معشر العرب أصابكم جوع وجهد فجئتم، فإن شئتم مرناكم " بكسر الميم وسكون الراء أي أعطيناكم الميرة أي الزاد ورجعتم".
وفي رواية الطبري " إنكم معشر العرب أطول الناس جوعا وأبعد الناس من كل خير، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجسا لجيفكم " قال " فحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت: ما أخطأت شيئا من صفتنا، كذلك كنا، حتى بعث الله إلينا رسوله".
قوله: (نعرف أباه وأمه) زاد في رواية ابن أبي شيبة " في شرف منا، أوسطنا حسبا، وأصدقنا حديثا " قوله: (فأمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية) هذا القدر هو الذي يحتاج إليه في هذا الباب، وفيه إخبار المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المجوس حتى يؤدوا الجزية، ففيه دفع لقول من زعم أن عبد الرحمن بن عوف تفرد بذلك، وزاد في رواية الطبري " وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء حتى نغلبكم على ما في أيديكم".
قوله: (فقال النعمان) هكذا وقع في هذه الرواية مختصرا، قال ابن بطال: قول النعمان للمغيرة " ربما أشهدك الله مثلها " أي مثل هذه الشدة، وقوله "فلم يندمك " أي ما لقيت معه من الشدة " ولم يحزنك " أي لو قتلت معه لعلمك بما تصير إليه من النعيم وثواب الشهادة، قال وقوله " ولكني شهدت إلخ " كلام مستأنف وابتداء قصة أخرى ا هـ، وقد بين مبارك بن فضالة في روايته عن زياد بن جبير ارتباط كلام النعمان بما قبله، وبسياقه يتبين أنه ليس قصة مستأنفة، وحاصله أن المغيرة أنكر على النعمان تأخير القتال فاعتذر النعمان بما قاله، وما أول به قوله " فلم يندمك إلخ " فيه أيضا نظر، والذي يظهر أنه أراد بقوله " فلم يندمك " أي على التأني والصبر حتى تزول الشمس، وقوله "ولم يحزنك " شرحه على أنه بالمهملة والنون من الحزن وفي رواية المستملي بالخاء المعجمة بغير نون وهو أوجه لوفاق ما قبله، وهو نظير ما تقدم في وفد عبد القيس " غير خزايا ولا ندامى " ولفظ مبارك ملخصا أنهم " أرسلوا إليهم إما أن تعبروا إلينا النهر أو نعبر إليكم، قال النعمان اعبروا إليهم، قال فتلاقوا وقد قرن بعضهم بعضا وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا يفروا، قال فرأى المغيرة كثرتهم فقال لم أر كاليوم فشلا أن عدونا يتركون يتأهبون، أما والله لو كان الأمر إلي لقد أعجلتهم " وفي رواية ابن أبي شيبة " فصاففناهم، فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان أنه قد أسرع في الناس فلو حملت، فقال النعمان: إنك لذو مناقب، وقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلها " وفي رواية الطبري " قد كان الله أشهدك أمثالها، والله ما منعني أن أناجزهم إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قوله: (حتى تهب الأرواح) جمع ريح وأصله الواو، لكن لما انكسر ما قبل الواو الساكنة انقلبت ياء والجمع يرد الأشياء إلى أصولها، وقد حكى ابن جنى جمع ريح على أرياح.
قوله: (وتحضر الصلوات) في رواية ابن أبي شيبة " وتزول الشمس " وهو بالمعنى؛ وزاد في رواية الطبري " ويطيب القتال " وفي رواية ابن أبي شيبة " وينزل النصر " وزاد معا واللفظ لمبارك بن فضالة عن زياد بن جبير " فقال النعمان: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل الكفر والشهادة لي " ثم قال " إني هاز اللواء فتيسروا للقتال".
وفي رواية ابن أبي شيبة " فليقض الرجل حاجته وليتوطأ، ثم هازه الثانية فتأهبوا " وفي رواية ابن أبي شيبة " فلينظر الرجل إلى نفسه ويرمى من سلاحه، ثم هازه الثالثة فاحملوا، ولا يلوين أحد على أحد، ولو قتلت، فإن قتلت فعلى الناس حذيفة.
قال فحمل وحمل الناس، فوالله ما علمت أن أحدا يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر.
فثبتوا لنا، ثم انهزموا، فجعل الواحد يقع على الآخر فيقتل سبعة، وجعل الحسك الذي جعلوه خلفهم يعقرهم " وفي رواية ابن أبي شيبة " ووقع ذو الجناحين عن بغلة شهباء فانشق بطنه، ففتح الله على المسلمين " وفي رواية الطبري " وجعل النعمان يتقدم باللواء، فلما تحقق الفتح جاءته نشابة في خاصرته فصرعته، فسجاه أخوه معقل ثوبا وأخذ اللواء، ورجع الناس فنزلوا وبايعوا حذيفة، فكتب بالفتح إلى عمر مع رجل من المسلمين " قلت: وسماه سيف في " الفتوح " طريف بن سهم، وعند ابن أبي شيبة من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان هو النهدي أنه ذهب بالبشارة إلى عمر، فيمكن أن يكونا ترافقا، وذكر الطبري أن ذلك كان سنة تسع عشرة وقيل سنة إحدى وعشرين، وفي الحديث منقبة للنعمان ومعرفة المغيرة بالحرب وقوة نفسه وشهامته وفصاحته وبلاغته، ولقد اشتمل كلامه هذا الوجيز على بيان أحوالهم الدنيوية من المطعم والملبس ونحوهما، وعلى أحوالهم الدينية أولا وثانيا، وعلى معتقدهم من التوحيد والرسالة والإيمان بالمعاد، وعلى بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بالمغيبات ووقوعها كما أخبر، وفيه فضل المشورة وأن الكبير لا نقص عليه في مشاورة من هو دونه، وأن المفضول قد يكون أميرا على الأفضل، لأن الزبير بن العوام كان في جيش عليه فيه النعمان بن مقرن والزبير أفضل منه اتفاقا، ومثله تأمير عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر وعمر كما سيأتي في أواخر المغازي، وفيه ضرب المثل وجودة تصور الهرمزان ولذلك استشاره عمر، وتشبيه لغائب المجوس بحاضر محسوس لتقريبه إلى الفهم، وفيه البداءة بقتال الأهم فالأهم، وبيان ما كان العرب عليه في الجاهلية من الفقر وشظف العيش، والإرسال إلى الإمام بالبشارة، وفضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله، وقد تقدم ذلك في الجهاد، ولا يعارضه ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير صباحا لأن هذا عند المصاففة وذاك عند الغارة.