*3* باب مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ حذف التشكيل
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ
الشرح:
قوله: (باب ما أدي زكاته فليس بكنز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق صدقة) قال ابن بطال وغيره: وجه استدلال البخاري بهذا الحديث للترجمة أن الكنز المنفي هو المتوعد عليه الموجب لصاحبه النار لا مطلق الكنز الذي هو أعم من ذلك، وإذا تقرر ذلك فحديث " لا صدقة فيما دون خمس أواق " مفهومه أن ما زاد على الخمس ففيه الصدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا.
وقال ابن رشيد: وجه التمسك به أن ما دون الخمس وهو الذي لا تجب فيه الزكاة قد عفي عن الحق فيه فليس بكنز قطعا، والله قد أثنى على فاعل الزكاة، ومن أثني عليه في واجب حق المال لم يلحقه ذم من جهة ما أثني عليه فيه وهو المال.
انتهى.
ويتلخص أن يقال: ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزا لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك لأنه عفي عنه بإخراج ما وجب عنه فلا يسمى كنزا.
ثم إن لفظ الترجمة لفظ حديث روي مرفوعا وموقوفا عن ابن عمر أخرجه مالك عن عبد الله بن دينار عنه موقوفا، وكذا أخرجه الشافعي عنه، ووصله البيهقي والطبراني من طريق الثوري عن عبد الله بن دينار وقال: إنه ليس بمحفوظ.
وأخرجه البيهقي أيضا من رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ " كل ما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض " أورده مرفوعا ثم قال: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه.
وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بالكنز معناه الشرعي.
وفي الباب عن جابر أخرجه الحاكم بلفظ " إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره " ورجح أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقفه كما عند البزار.
وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي بلفظ " إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك " وقال: حسن غريب، وصححه الحاكم، وهو على شرط ابن حبان.
وعن أم سلمة عند الحاكم وصححه ابن القطان أيضا وأخرجه أبو داود.
وقال ابن عبد البر: في سنده مقال.
وذكر شيخنا في " شرح الترمذي " أن سنده جيد.
وعن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا بلفظ الترجمة، وأخرجه أبو داود مرفوعا بلفظ " أن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم " وفيه قصة.
قال ابن عبد البر: والجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته.
ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا " إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك " فذكر بعض ما تقدم من الطرق ثم قال: ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر، وسيأتي شرح ما ذهب إليه من ذلك في هذا الباب.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ
الشرح:
قوله: (وقال أحمد بن شبيب) كذا للأكثر.
وفي رواية أبي ذر " حدثنا أحمد " وقد وصله أبو داود في " كتاب الناسخ والمنسوخ " عن محمد بن يحيى وهو الذهلي، عن أحمد بن شبيب بإسناده.
ووقع لنا بعلو في جزء الذهلي وسياقه أتم مما في البخاري وزاد فيه سؤال الأعرابي " أترث العمة؟ قال ابن عمر: لا أدري.
فلما أدبر قبل ابن عمر يديه ثم قال: نعم ما قال أبو عبد الرحمن - يعني نفسه - سئل عما لا يدري فقال: لا أدري.
وزاد في آخره - بعد قوله: طهرة للأموال - ثم التفت إلي فقال: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى " وهو عند ابن ماجه من طريق عقيل عن الزهري.
قوله: (من كنزها فلم يؤد زكاتها) أفرد الضمير إما على سبيل تأويل الأموال، أو عودا إلى الفضة لأن الانتفاع بها أكثر أو كان وجودها في زمنهم أكثر من الذهب، أو على الاكتفاء ببيان حالها عن بيان حال الذهب، والحامل على ذلك رعاية لفظ القرآن حيث قال (ينفقونها) قال صاحب الكشاف: أفرد ذهابا إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد منهما جملة وافية.
وقيل: المعنى ولا ينفقونها، والذهب كذلك، وهو كقول الشاعر وإني وقيار بها لغريب أي وقيار كذلك.
قوله: " إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة) هذا مشعر بأن الوعيد على الاكتناز - وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به - كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح وقدرت نصب الزكاة، فعلى هذا المراد بنزول الزكاة بيان نصبها ومقاديرها لا إنزال أصلها.
والله أعلم.
وقال ابن عمر " لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا " كأنه يشير إلى قول أبي ذر الآتي آخر الباب.
والجمع بين كلام ابن عمر وحديث أبي ذر أن يحمل حديث أبي ذر على مال تحت يد الشخص لغيره فلا يجب أن يحبسه عنه، أو يكون له لكنه ممن يرجى فضله وتطلب عائدته كالإمام الأعظم فلا يجب أن يدخر عن المحتاجين من رعيته شيئا، ويحمل حديث ابن عمر على مال يملكه قد أدى زكاته فهو يحب أن يكون عنده ليصل به قرابته ويستغني به عن مسألة الناس، وكان أبو ذر يحمل الحديث على إطلاقه فلا يرى بادخار شيء أصلا.
قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال " هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع " انتهى.
والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر، وقد استدل له ابن بطال بقوله تعالى (ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو) أي ما فضل عن الكفاية، فكان ذلك واجبا في أول الأمر ثم نسخ.
والله أعلم.
وفي المسند من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال " كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة ويتعلق بالأمر الأول " ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث أبي سعيد في تقدير نصب زكاة الورق وغيره.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
الشرح:
قوله: (أخبرني يحيى بن أبي كثير) تعقبه الدارقطني وأبو مسعود بأن عبد الوهاب بن نجدة خالف إسحاق بن يزيد شيخ البخاري فيه فقال " عن شعيب عن الأوزاعي حدثني يحيى بن سعيد وحماد " ورواه داود بن رشيد وهشام بن خالد جميعا عن شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى غير منسوب وقال: " الوليد بن مسلم رواه عن الأوزاعي عن عبد الرحمن بن اليمان عن يحيى بن سعيد.
وقال الإسماعيلي: هذا الحديث مشهور عن يحيى بن سعيد رواه عنه الخلق، وقد رواه داود بن رشيد عن شعيب فقال " عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد " انتهى.
وقد تابع إسحاق بن يزيد سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن شعيب بن إسحاق أخرجه أبو عوانة والإسماعيلي من طريقه، وذلك دال على أنه عند شعيب عن الأوزاعي على الوجهين، لكن دلت رواية الوليد بن مسلم على أن رواية الأوزاعي عن يحيى بن سعيد بغير واسطة موهومة أو مدلسة، ولذلك عدل عنها البخاري واقتصر على طريق يحيى بن أبي كثير.
والله أعلم.
قوله: (عن أبيه يحيى بن عمارة) في رواية يحيى بن سعيد عن عمرو أنه سمع أباه، وسيأتي الكلام عليه مستوفى بعد بضعة وعشرين بابا.
ثانيها حديث أبي ذر مع معاوية.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ سَمِعَ هُشَيْمًا أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا قَالَ كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ اقْدَمْ الْمَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ
الشرح:
قوله: (حدثنا علي سمع هشيما) كذا للأكثر.
وفي رواية أبي ذر عن مشايخه " حدثنا علي بن أبي هاشم " وهو المعروف بابن طبراخ بكسر المهملة وسكون الموحدة وآخره معجمة، ووقع في " أطراف المزي " عن علي بن عبد الله المديني وهو خطأ.
قوله: (عن زيد بن وهب) هو التابعي الكبير الكوفي أحد المخضرمين.
قوله: (بالربذة) بفتح الراء والموحدة والمعجمة مكان معروف بين مكة والمدينة، نزل به أبو ذر في عهد عثمان ومات به، وقد ذكر في هذا الحديث سبب نزوله، وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر، وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره.
نعم أمره عثمان بالتنحي عن المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور فاحتار الربذة، وقد كان يغدو إليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر عنه، وفيه قصة له في التيمم.
وروينا في فوائد أبي الحسن بن جذلم بإسناده إلى عبد الله بن الصامت قال " دخلت مع أبي ذر على عثمان، فحسر عن رأسه فقال: والله ما أنا منهم يعني الخوارج.
فقال.
إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة.
فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالربذة.
قال: نعم".
ورواه أبو داود الطيالسي من هذا الوجه دون آخره وقال بعد قوله ما أنا منهم " ولا أدركهم، سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت " وفي " طبقات ابن سعد " من وجه آخر " أن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية - يعني فنقاتله - فقال: لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت".
قوله: (كنت بالشام) يعني بدمشق، ومعاوية إذ ذاك عامل عثمان عليها.
وقد بين السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى من طريق أخرى عن زيد بن وهب " حدثني أبو ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ البناء - أي بالمدينة سلعا ترتحل إلى الشام.
فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام فسكنت بها " فذكر الحديث نحوه.
وعنده أيضا بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس قال " استأذن أبو ذر على عثمان فقال.
إنه يؤذينا، فلما دخل قال له عثمان: أنت الذي تزعم أنك خير من أبي بكر وعمر؟ قال.
لا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أحبكم إلي وأقربكم مني من بقي على العهد الذي عاهدته عليه، وأنا باق على عهده".
قال فأمر أن يلحق بالشام.
وكان يحدثهم ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم، فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر.
فكتب إليه عثمان أن اقدم علي، فقدم.
قوله: (في والذين يكنزون الذهب والفضة) سيأتي في تفسير براءة من طريق جرير عن حصين بلفظ " فقرأت والذين يكنزون الذهب والفضة " إلى آخر الآية.
قوله: (نزلت في أهل الكتاب) في رواية جرير " ما هذه فينا".
قوله: (فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني) في رواية الطبري.
أنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، قال فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام.
قوله: (إن شئت تنحيت) في رواية الطبري " فقال له تنح قربيا.
وقال: والله لن أدع ما كنت أقوله " وكذا لابن مردويه من طريق ورقاء عن حصين بلفظ " والله لا أدع ما قلت".
قوله: (حبشيا) في رواية ورقاء " عبدا حبشيا " ولأحمد وأبي يعلى من طريق أبي حرب بن أبي الأسود عن عمه عن أبي ذر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ أي المسجد النبوي، قال: آتي الشام.
قال: كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قال.
أعود إليه.
أي المسجد.
قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: أضرب بسيفي.
قال: أدلك على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشدا، قال: تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك".
وعند أحمد أيضا من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن أبي ذر نحوه، والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.
وتعقبه النووي بالإبطال.
لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وهؤلاء لم يخونوا.
قلت.
لقوله محمل.
وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذ من يفعله.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لاتفاق أبي ذر ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب.
وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه حتى كاتب من هو أعلى منه في أمره، وعثمان لم يحنق على أبي ذر مع كونه كان مخالفا له في تأويله.
وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة، وجواز الاختلاف في الاجتهاد، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى ذلك إلى فراق الوطن، وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه لأن كلا منهما كان مجتهدا.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ جَلَسْتُ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى مَلَإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ لَا أُرَى الْقَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ قَالَ إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا قَالَ لِي خَلِيلِي قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لَا وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ
الشرح:
قوله: (حدثنا عياش) هو ابن الوليد الرقام، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، والجريري بضم الجيم هو سعيد، وأبو العلاء هو يزيد بن عبد الله بن الشخير.
وأردف المصنف هذا الإسناد بالإسناد الذي بعده وإن كان أنزل منه لتصريح عبد الصمد وهو ابن عبد الوارث فيه بتحديث أبي العلاء للجريري، والأحنف لأبي العلاء.
وقد روى الأسود بن شيبان عن أبي العلاء يزيد المذكور عن أخيه مطرف عن أبي ذر طرفا من آخر هذا الحديث أيضا، وأخرجه أحمد، وليس ذلك بعلة لحديث الأحنف لأن حديث الأحنف أتم سياقا وأكثر فوائد، ولا مانع أن يكون ليزيد فيه شيخان.
قوله: (جلست إلى ملأ) في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق إسماعيل بن علية عن الجريري " قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة من قريش".
قوله: (خشن الشعر إلخ) كذا للأكثر بمعجمتين من الخشونة، وللقابسي بمهملتين من الحسن، والأول أصح.
ووقع في رواية مسلم " أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام عليهم " وليعقوب بن سفيان من طريق حميد بن هلال عن الأحنف " قدمت المدينة فدخلت مسجدها إذ دخل رجل آدم طوال أبيض الرأس واللحية يشبه بعضه بعضا فقالوا.
هذا أبو ذر".
قوله: (بشر الكانزين) في رواية الإسماعيلي " بشر الكنازين".
قوله: (برضف) بفتح الراء وسكون المعجمة بعدها فاء هي الحجارة المحماة واحدها رضفة.
قوله: (نغض) بضم النون وسكون المعجمة بعدها ضاد معجمة: العظم الدقيق الذي على طرف الكتف أو على أعلى الكتف، قال الخطابي: هو الشاخص منه، وأصل النغض الحركة فسمي ذلك الموضع نغضا لأنه يتحرك بحركة الإنسان.
قوله: (يتزلزل) أي يضطرب ويتحرك، في رواية الإسماعيلي " فيتجلجل " بجيمين، وزاد إسماعيل في هذه الرواية " فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا.
قال: فأدبر، فاتبعته حتى جلس إلى سارية".
قوله: (وأنا لا أدري من هو) زاد مسلم من طريق خليد العصري عن الأحنف " فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، فقمت إليه فقلت: ما شيء سمعتك تقوله؟ قال: ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم".
وفي هذه الزيادة رد لقول من قال إنه موقوف على أبي ذر فلا يكون حجة على غيره.
ولأحمد من طريق يزيد الباهلي عن الأحنف " كنت بالمدينة، فإذا أنا برجل يفر منه الناس حين يرونه، قلت: من أنت؟ قال: أبو ذر.
قلت: ما نفر الناس عنك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز التي كان ينهاهم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قوله: (إنهم لا يعقلون شيئا) بين وجه ذلك في آخر الحديث حيث قال " إنما يجمعون الدنيا".
وقوله "لا أسألهم دنيا " في رواية إسماعيل المذكورة " فقلت: ما لك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم ولا تصيب منهم؟ قال: وربك لا أسألهم دنيا إلخ".
قوله: (قلت: ومن خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم) فاعل قال هو أبو ذر والنبي صلى الله عليه وسلم خبر المبتدأ كأنه قال: خليلي النبي صلى الله عليه وسلم وسقط بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال فقط، وكأن بعض الرواة ظنها مكررة فحذفها ولا بد من إثباتها.
قوله: (يا أبا ذر أتبصر أحدا) وهو حديث مستقل سيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الرقاق.
وعلى ما وقع في هذه الرواية من قوله " إلا ثلاثة دنانير " إن شاء الله تعالى.
وإنما أورده أبو ذر للأحنف لتقوية ما ذهب إليه من ذم اكتناز المال، وهو ظاهر في ذلك إلا أنه ليس على الوجوب، ومن ثم عقبه المصنف بالترجمة التي تليه.
قوله: (وإن هؤلاء لا يعقلون) هو من كلام أبي ذر كرره تأكيدا لكلامه ولربط ما بعده عليه.