*3* باب صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب صاع من زبيب) أي إجزائه، وكأن البخاري أراد بتفريق هذه التراجم الإشارة إلى ترجيح التخيير في هذه الأنواع، إلا أنه لم يذكر الأقط وهو ثابت في حديث أبي سعيد، وكأنه لا يراه مجزئا في حال وجدان غيره كقول أحمد، وحملوا الحديث على أن من كان يخرجه كان قوته إذ ذاك أو لم يقدر على غيره، وظاهر الحديث يخالفه، وعند الشافعية فيه خلاف، وزعم الماوردي أنه يختص بأهل البادية وأما الحاضرة فلا يجزئ عنهم بلا خلاف، وتعقبه النووي في " شرح المهذب " وقال: قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَكِيمٍ الْعَدَنِيَّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ حَدَّثَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ قَالَ أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ
الشرح:
قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري.
قوله: (عن أبي سعيد) تقدم في رواية مالك بلفظ " أنه سمع أبا سعيد".
قوله: (كنا نعطيها) أي زكاة الفطر.
قوله: (في زمان النبي صلى الله عليه وسلم) هذا حكمه الرفع لإضافته إلى زمنه صلى الله عليه وسلم ففيه إشعار باطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره له ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره وهو الآمر بقبضها وتفرقتها.
قوله: (صاعا من طعام أو صاعا من تمر) هذا يقتضي المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده، وقد حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة وأنه اسم خاص به قال: ويدل على ذلك ذكر الشعير وغيره من الأقوات والحنطة أعلاها فلولا أنه أرادها بذلك لكان ذكرها عند التفصيل كغيرها من الأقوات ولا سيما حيث عطفت عليها بحرف " أو " الفاصلة.
وقال هو وغيره: وقد كانت لفظة " الطعام " تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح، وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه، لأن ما غلب استعمال اللفظ فيه كان خطوره عند الإطلاق أقرب انتهى.
وقد رد ذلك ابن المنذر وقال: ظن بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد " صاعا من طعام " حجة لمن قال صاعا من حنطة، وهذا غلط منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره، ثم أورد طريق حفص بن ميسرة المذكورة في الباب الذي يلي هذا وهي ظاهرة فيما قال ولفظه " كنا نخرج صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر " وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى عن عياض وقال فيه " ولا يخرج غيره " قال وفي قوله " فلما جاء معاوية وجاءت السمراء " دليل على أنها لم تكن قوتا لهم قبل هذا، فدل على أنها لم تكن كثيرة ولا قوتا فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجودا؟ انتهى كلامه.
وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم عن عياض بن عبد الله قال: قال أبو سعيد وذكروا عنده صدقة رمضان فقال " لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط، فقال له رجل من القوم: أو مدين من قمح، فقال: لا تلك قيمة معاوية مطوية لا أقبلها ولا أعمل بها " قال ابن خزيمة ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم، وقوله "فقال رجل إلخ " دال على أن ذكر الحنطة في أول القصة خطأ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم كانوا يخرجون منها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا لما كان الرجل يقول له: أو مدين من قمح، وقد أشار أبو داود إلى رواية ابن إسحاق هذه وقال: إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ، وذكر أن معاوية بن هشام روى في هذا الحديث عن سفيان " نصف صاع من بر " وهو وهم وإن ابن عيينة حدث به عن ابن عجلان عن عياض فزاد فيه " أو صاعا من دقيق " وأنهم أنكروا عليه فتركه، قال أبو داود: وذكر الدقيق وهم من ابن عيينة.
وأخرج ابن خزيمة أيضا من طريق فضيل ابن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال " لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن الحنطة " ولمسلم من وجه آخر عن عياض عن أبي سعيد " كنا نخرج من ثلاثة أصناف: صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير " وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة.
وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذرة فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن وهي قوت غالب لهم.
وقد روى الجوزقي من طريق ابن عجلان عن عياض في حديث أبي سعيد " صاعا من تمر، صاعا من سلت أو ذرة " وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله " صاعا من شعير إلخ " بعد قوله " صاعا من طعام " من باب عطف الخاص على العام، لكن محل العطف أن يكون الخاص أشرف، وليس الأمر هنا كذلك.
وقال ابن المنذر أيضا: لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم.
ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح انتهى.
وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية، لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي.
وكأن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان، فلا فرق بين الحنطة وغيرها.
هذه حجة الشافعي ومن تبعه، وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير فقد فعل ذلك بالاجتهاد بناء منه على أن قيم ما عدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن، لكن يلزم على قولهم أن تعتبر القيمة في كل زمان فيختلف الحال ولا ينضبط، وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من حنطة، ويدل على أنهم لحظوا ذلك ما روى جعفر الفريابي في " كتاب صدقة الفطر " أن ابن عباس لما كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر وبين لهم أنها صاع من تمر، إلى أن قال: أو نصف صاع من بر.
قال: فلما جاء علي ورأى رخص أسعارهم قال: اجعلوها صاعا من كل، فدل على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبو سعيد إلى الكيل كما سيأتي.
ومن عجيب تأويله قوله: أن أبا سعيد ما كان يعرف القمح في الفطرة، وإن الخبر الذي جاء فيه أنه كان يخرج صاعا أنه كان يخرج النصف الثاني تطوعا، وأن قوله في حديث ابن عمر " فجعل الناس عدله مدين من حنطة " أن المراد بالناس الصحابة، فيكون إجماعا.
وكذا قوله في حديث سعيد عند أبي داود " فأخذ الناس بذلك " وأما قول الطحاوي: إن أبا سعيد كان يخرج النصف الآخر تطوعا فلا يخفى تكلفه.
والله أعلم.
قوله: (فلما جاء معاوية) زاد مسلم في روايته " فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر " وزاد ابن خزيمة " وهو يومئذ خليفة".
قوله: (وجاءت السمراء) أي القمح الشامي.
قوله: (يعدل مدين) في رواية مسلم " أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر " وزاد " قال أبو سعيد: أما أنا لا أزال أخرجه أبدا ما عشت " وله من طريق ابن عجلان عن عياض " فأنكر ذلك أبو سعيد وقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولأبي داود من هذا الوجه " لا أخرج أبدا إلا صاعا " وللدارقطني وابن خزيمة والحاكم " فقال له رجل مدين من قمح، فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها " وقد تقدم ذكر هذه الرواية وما فيها.
ولابن خزيمة " وكان ذلك أول ما ذكر الناس المدين " وهذا يدل على وهن ما تقدم عن عمر وعثمان إلا أن يحمل على أنه كان لم يطلع على ذلك من قصتهما، قال النووي: تمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة، وفيه نظر، لأنه فعل صحابي قد خالفه فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الاتباع والتمسك بالآثار وترك للعدول إلى الاجتهاد مع وجود النص، وفي صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الاجتهاد وهو محمود.
لكنه مع وجود النص فاسد الاعتبار.