الطب النبوي.. والأمراض المعدية
هناك تعارض واضح لا تخطئه العين في جملة الأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث في موضوع العدوى بالرغم من أن أغلب هذه الأحاديث صحيحة، وقد أثبت ابن القيم وغيره وجود هذا التعارض، لدرجة أن هذه الأحاديث تدخل تحت بند "مختلف الحديث". فإذا استعرضنا بعض الأحاديث التي تثبت إمكانية حدوث العدوى ووجوب الاحتراز منها فإننا نجد الآتي:
ورد في صحيح مسلم: أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل له النبي صلى الله عليه وسلم "أن ارجع قد بايعناك".
روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فِر من المجذوم كما تفر من الأسد".
وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُورِدن مُمْرض على مُصِحّ".
وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة، فلما أراد الدخول بها وجد بكشحها بياضًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحقي بأهلك".
وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون رجز أُرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارًا منه".
وفي مقابل هذه الأحاديث التي تثبت حدوث العدوى فإننا نجد بعض الأحاديث الصحيحة الأخرى تنفي إمكانية حدوث العدوى أو تشير إلى عدم احتراز الرسول صلى الله عليه وسلم منها، كالآتي:
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى ولا طيرة". فقيل له: إن النقبة تقع بمشقر البعير فيجرب لذلك الإبل. قال صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول؟!".
روى الترمذي وابن ماجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، وقال: "كُل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه".
وبالطبع فإن إمكانية حدوث العدوى من الناحية العلمية موضوع -لا أقول- شبه محسوم؛ ولكنه محسوم يقينًا، لا يجادل فيه إلا جاهل أو غافل. ولقد اجتهد ابن القيم -رحمه الله- بنفسه ونقلاً عن غيره في إثبات عدم التناقض بين هذه الأحاديث الشريفة؛ فأورد ثلاثة احتمالات لنفي هذا التناقض وهي:
1- إما أن يكون أحد الحديثين المتناقضين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونهم ثقات. والثقة ربما غلط.
2- وإما أن يكون التناقض في فهم السامع لا في نفس كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- وإما أن يكون أحد الحديثين المتناقضين ناسخًا للآخر إذا كان يقبل النسخ.
ودعنا الآن نناقش هذه الاحتمالات التي أوردها ابن القيم -رحمه الله-:
لم نشكك أبدًا في نسبة الأحاديث الصحيحة إلى الرسول، وإنما الاعتراض منصبٌّ على اعتبار كل الأحاديث الصحيحة - والتي تعالج أمور الدنيا - ملزمة ووحيًا. |
|
فالاحتمال الأول -وهو تغليط الثقة- ربما يفتح بابًا لكل صاحب مصلحة أو رأي يغاير ما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن يدعم رأيه باحتمال خطأ الرواة الثقات.
ونحن لم نشكك أبدًا في نسبة الأحاديث الصحيحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما الاعتراض منصبٌّ على اعتبار كل الأحاديث الصحيحة -والتي تعالج أمور الدنيا- ملزمة وصالحة لكل زمان ومكان؛ ولكن دون التشكيك في صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الاحتمال الثاني الذي ساقه ابن القيم، فهو أن يكون التعارض في فهم السامع وليس في كلامه صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وهو أفصح العرب وأكثرهم بلاغة لم يكن ليتحدث حديثًا يلتبس على العامة، ناهيك عن الخاصة.
أما الاحتمال الثالث الذي ساقه ابن القيم وهو احتمال وجود ناسخ ومنسوخ في أحاديث العدوى؛ فإننا قد نتفق معه في هذه الاحتمالية، حيث إن النسخ في الأمور العلمية وارد، فالعلم ربما تغير أو تبدل. وقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتقد في بداية بعثته بعدم إمكانية حدوث العدوى، ثم اقتنع بعد ذلك بهذه الإمكانية. وقد ورد أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يروي حديث "لا عدوى" ثم شك فيه فتركه وراجعوه فيه. فقالوا: سمعناك تحدث به. فأبى أن يحدث به. وهذا من ناحية أخرى يؤكد على بشرية هذه الأحاديث (في الطب خاصة)، فلو كانت (أحاديث الطب) وحيًا من عند الله ما نسخ بعضها بعضًا، حيث إن (الحقيقة العلمية) مقررة في علم الله لا تقبل التغيير ولا التبديل، وإن كانت تتغير في علم الإنسان من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان