7-تقييم الحجامة الإسلامية:
لم تكن الحجامة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرشحة لعلاج كل الأمراض كما هو واقع الحال الآن، فالتطبيق العملي للحجامة في هذا العهد كان يتمثل في أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم أو أمر بالحجامة في الأحوال المرضية الآتية:
1- نبيغ الدم أو هيجانه وهو ما يعرف الآن بارتفاع ضغط الدم.
2- تسكين الألم في أجزاء الجسم المختلفة. فالثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم على الرأس من صداع في رأسه، واحتجم على الكاهل والأخدعين والورك وسطح القدم لتهدئة الألم في هذه الأماكن، وذلك بالطبع بغض النظر عن السبب الحقيقي لهذه الآلام والذي لم يكن معروفًا في ذلك الزمان.
3- إخراج السموم من الجسم، فلقد احتجم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالاحتجام بعد أن أكل من الشاة المسمومة في خيبر هو وأصحابه.
4- الاحتجام على سبيل الوقاية، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "هي من العام إلى العام شفاء". وقال: "نعم العادة الحجامة".
والشيء المدهش - حقًّا - أن استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم للحجامة لم يخرج أبدًا عن الإطار الذي وضعها فيه الطب الحديث ، فنحن نقر أن استنزاف الدم وسيلة من وسائل تخفيض الضغط المرتفع، ونقر أن الأثر الذي تتركه الحجامة هو مثل أثر التدليك أو المساج، وهو وسيلة من وسائل تخفيف الإحساس بالألم في أماكن الحجامة، ونقر أيضًا بأن استخراج الدم بعد التسمم هو طريقة مفيدة، بل ما تزال تستخدم حتى الآن بعد لدغات العقارب والثعابين السامة.
وأخيرًا فإنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حبب في اعتياد الحجامة حتى دون مرض، فإننا نشير إلى أن الطب الحديث يؤكد على هذه العادة وينصح بها، ولكن في صورة عصرية - لا تفيد الشخص نفسه فحسب بل تفيد المجتمع كله - ألا وهي التبرع بالدم.
إذًا هذا هو الحجم الحقيقي للحجامة الآن، وهو تقريبًا نفس الحجم الذي وضعها فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من 1400 سنة. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر مثلاً بالحجامة في الأمراض المعدية أو النزيف أو كعلاج للمفؤود أو المبطون أو في ذات الجنب، وغير ذلك من الأمراض التي كانت معروفة على عهده، ناهيك عن الأمراض التي لم تكن معروفة في ذلك الزمان.
الطب الحديث يؤكد على الحجامة وينصح بها، لكن في صورة عصرية - لا تفيد الشخص نفسه فحسب بل تفيد المجتمع كله - ألا وهي التبرع بالدم. |
|
أما حجامو هذا الزمان فإنهم لم يلزموا أنفسهم بشيء من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الحجامة إلا اسمها، فهم يمارسون الحجامة في كل وقت وزمان دون التقيد بالمواعيد الواردة في السنة، ويحجمون في كل مكان بالجسم دون التقيد بالأماكن الواردة في السنة، ويحجمون في كل الأمراض دون التقيد بالإطار الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم للحجامة، وهو نفس الإطار في مفهوم العلم الحديث. فهم يحجمون تحت شعار السنة ولكن داخل عباءة الطب الصيني والشعبي.
إن الحجامة هي أخطر الممارسات التي تمارس تحت شعار "الطب النبوي"، فالحجامة وهي عمل "شبه جراحي" يقوم به في الغالب أشخاص غير مؤهلين للعمل الطبي مثل المشايخ والدعاة وأنصافهم والحلاقين والعشابين وغيرهم، ويتم ذلك في أمكان غير مخصصة للعمل الطبي مثل المنازل والمساجد ودكاكين الحلاقة ومحلات العطارة وغيرها.
بل إنه لمن المحزن حقًا أن كثيرًا من الأطباء الذين امتهنوا هذه المهنة لا يتوخون الإجراءات الطبية السليمة..
الخــلاصـة
ولعلنا نخلص من هذا البحث بالآتي:
1- أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بدين وشريعة، ولم يرسله بعلوم دنيوية وخبرات حياتية.
2- إن الطب المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا طبّ كان سائدًا في جزيرة العرب قبل البعثة وأثناءها تعامل معه فأخذ منه وترك، وكانت له فيه آراء واجتهادات وأحاديث مثل غيره من أمور الدنيا.
3- لا يمكن مقارنة هذا الطب البدائي بالطب الحديث؛ فأين وسائل التشخيص الحديثة من مختبرات ومعامل وأشعة من تشخيص المريض لمرضه بنفسه؟! وأين علم مسببات
ما يسمى بـ "الطب النبوي" لا مكان له الآن على خريطة الطب الحديث، ولكن مكانه الطبيعي يقع داخل إطار ما يسمى بـ"الطب الشعبي" أو "الطب البديل" أو "طب البركة". |
|
الأمراض من قصة السموم والأخلاط؟! وأين أفرع الطب المختلفة من التقسيمات الساذجة؟! وأين علم أمراض القلب من المفؤود؟! وأين علم الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي من المبطون؟! وأين علم أمراض الكلى والمسالك البولية من ذات الجنب؟! وأين علم الأمراض النفسية والعصبية من المس والسحر؟! وأين وسائل العلاج الحديثة مثل الجراحة والليزر والأقربازين (علم الأدوية) من الحجامة والكي والسنا والسنوت والقسط الهندي؟!... إلى غير ذلك.
إن محاولة تسويق هذا الطب على أساس أنه "طب معجزة" بغض النظر عن ثقله العلمي والتقني، لهي محاولة محكوم عليها بالفشل؛ فالله سبحانه وتعالى لم يرد للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة حسية - سواء كانت طبية أم غير طبية - كتلك المعجزات التي سيرها على يد غيره من الرسل مثل عيسى - عليه السلام - الذي أنزل عليه مائدة من السماء، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل موسى - عليه السلام - الذي كلمه الله، والذي ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى. وإنما شاءت إرادة الله أن تكون معجزة هذا النبي صلى الله عليه وسلم - التي تحدى بها قومه - معجزة لفظية بيانية متمثلة في "القرآن الكريم". (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)[الإسراء:90- 93].
4- إن ما يسمى بـ "الطب النبوي" لا مكان له الآن على خريطة الطب الحديث، ولكن مكانه الطبيعي يقع داخل إطار ما يسمى بـ"الطب الشعبي" أو "الطب البديل" أو "طب البركة". إذ إن أهم سمات هذه الأنواع من الطب هي مخاصمة الأصول والقواعد العلمية، والاعتماد على الخبرات الشخصية والوصفات الشعبية والطب التاريخي والتراثي، ويستطيع أي إنسان - طبيبًا كان أو غير طبيب - أن يجعل من نفسه طبيبًا بديلاً أو شعبيًا أو نبويًا دون سند علمي أو شرعي أو قانوني، كما أنه يستطيع أن يمارس علوم هذا الطب أو يتخصص في علم من علومه كأن يكون حجَّامًا أو عشَّابًا أو عسَّالاً أو صاحب رقية أو طبيب جنّ وعفاريت.
5- إن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الطب فيها الصحيح والضعيف، ومنها المكذوب. ولقد أشار بحث د. سليمان الأشقر إلى أنه حتى إذا ثبت صحة نسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذا الحديث الصحيح قد يكون غير صحيح من الناحية العلمية المجردة.
ولقد أثبتنا - بالفعل - أن بعض الأحاديث الصحيحة لا تتفق مع ما يقره العلم الحديث، وذلك مثل حديث "الذبابة"، وحديث "لا عدوى". وفي المقابل فإن هناك أحاديث تتفق مع العلم الحديث، بل سبقت العلم الحديث في الإشارة إلى بعض الحقائق العلمية مثل حديث "الحمى"، وحديث "الطاعون". كل ذلك يؤكد على بشرية هذه الأحاديث وأنها اجتهاد شخصي من الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست وحيًا.
6- إننا نرى أن أدعياء الطب النبوي والمتاجرين به، أخذوا من هذا الطب اسمه، ثم أفرغوه من محتواه، وكانوا أشد الناس انقلابًا عليه، وفصلوه بما يتفق مع أهوائهم ومصالحهم.
وفي الختام فإن كنت قد أحسنت فمن الله، وإن كنت أسأت فمن نفسي وإني أتوب إلى الله متابًا.
طالع أوراق الملف: