الكي.. وحدود التداوي به
ورد في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار. وأنا أنهى أمتي عن الكي". وفي لفظ آخر: "وما أحب أن أكتوي". والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كوى أصحابه أو أمر بالكي في حالات مرضية معينة مثل: النزيف وتعقيم الجروح بعد استخراج الأجسام الغريبة مثل الشوكة وفي ذات الجنب.
ولقد أشكل أمر الكي على ابن القيم -رحمه الله- ولم يستطع تحديد حكم شرعي معين للكي، فقال: الثابت في أحاديث الكي أربعة أحكام:
أحدهما: فعله. والثاني: عدم محبة الرسول له. والثالث: الثناء على تركه. والرابع: النهي عنه.
ولقد اجتهد ابن القيم في التوفيق بين هذه الأحكام الأربعة، وقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الطريقة العلاجية لما فيها من إيذاء النفس البشرية، لذلك جعلها آخر الدواء.
ولقد استخدم الطب الحديث الكي لأغراض مماثلة للأغراض التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نحوها، وإن اختلفت الطريقة: حيث يستخدم التخدير قبل الكي وتستعمل أجهزة طبية معينة لأغراض الكي المختلفة، مثل إيقاف النزيف في العمليات الجراحية وكي القروح، مثل قرحة الرحم، وإزالة الأورام الجلدية الحميدة. ولعل آخر صيحة في عالم الكي هي حرق الأورام في الأعضاء الداخلية، مثل الكبد إذا اكتشفت في حالة مبكرة.
ما نود أن نقوله هو أن "الكي" أصبح محصورًا الآن في بعض الحالات المرضية المحددة ويقوم به الأطباء تحت تأثير المخدر، سواء كان موضعيًا أم عامًا. |
|
هذا ما كان من أمر السنة وأمر الطب الحديث بخصوص الكي. ولكن أدعياء الطب النبوي لم يرقهم هذا المجال الضيق للكي. فأخذوا مقولة آخر العلاج الكي ووظفوها أسوأ توظيف، وجعلوا من الكي بدلاً لعلاج كل الأمراض في حالة تأخر الشفاء بالوسائل الطبية المعتمدة. بل إن بعضهم يستخدم الكي كروتين قبل اللجوء إلى الطبيب، ويتم الكي على أيدي هؤلاء بوسائل بدائية، وغير إنسانية ودون تخدير.
وليس لديَّ إحصائيات دقيقة لمدى تفشي ظاهرة الكي في العالم العربي والإسلامي، ولكن الذي أعرفه أن هذه الظاهرة ما تزال متفشية في مصر بغرض علاج الصداع وآلام الظهر، وكذلك كي جلد البطن في حالة تضخم أعضاء البطن الداخلية مثل الطحال، ومن المعتاد أن يلجأ كل مريض في المناطق الريفية في مصر للكي بغرض علاج الطحال المتضخم، وذلك قبل أن يلجأ إلى الجراحة أو ينتهي به الأمر إلى الموت.
أما في السعودية فظاهرة الكي متفشية بصورة مزعجة جدًّا، خاصة في الأطفال الرضع، ولا يكاد ينجو طفل من الكي في طفولته المبكرة أكثر من مرة، وبالذات في مشاكل الجهاز الهضمي، مثل القيء، وانتفاخ البطن والمغص وغيرها، وبالطبع لا يكون للكي في مثل هذه الحالات أدنى فائدة، وتنتهي كل نوبة كي بزيارة الطبيب، ولقد بُحت أصوات الأطباء من التحذير والنهي عن هذه الممارسات، ولكن الناس في كل مرة يعودون لما نهوا عنه.
ما نود أن نقوله هو أن "الكي" أصبح محصورًا الآن في بعض الحالات المرضية المحددة، ويقوم به الأطباء تحت تأثير المخدر، سواء كان موضعيًّا أم عامًّا. أما الكي بمفهوم الحلاقين والمشعوذين والعجائز تحت شعار "الطب النبوي" فهذا أمر لا يقره العلم ولا السنة ولا الإنسانية.
حديث الذبابة.. وبول الجمال
ورد في صحيح البخاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه (اغمسوه) فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء". وهذا الحديث لا جدال في صحته، حيث ورد في أصح كتب الحديث ألا وهو "صحيح البخاري".
أما من الناحية الطبية البحتة فهذا الكلام لم تثبت صحته حتى الآن.. بالرغم من أني قرأت أكثر من مرة وفي أكثر من مصدر أنه: "ثبت علميًّا أن الميكروبات موجودة في أحد جناحي الذبابة وفي الجناح الآخر توجد مضادات لهذه الميكروبات". ولم يقدم هؤلاء الزاعمون بحثًا علميًّا واحدًا تم بطريقة منهجية ومنضبطة ونشر في مجلة علمية متخصصة في بلد من بلاد المسلمين أو غير المسلمين يثبت صحة هذا الكلام من الناحية العلمية.
ولقد حضرتُ ندوات ومناظرات كثيرة بين علماء الطب وعلماء الدين بخصوص هذا الحديث، لم يخرج رأي علماء الدين عن أن الحديث صحيح، ولم يخرج رأي علماء الطب عن أن العلم لم يثبت حتى الآن صحة ذلك.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوظف المتاح والمتوارث والمتعارف عليه من العلاجات السائدة في زمانه. |
|
وقد يكون لهذا الحديث ما يبرره على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث إنه عاش صلى الله عليه وسلم في بيئة صحراوية تعاني من ندرة الماء والغذاء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دائم الخروج هو وأصحابه للجهاد ونشر الدعوة، وكانوا يحملون الماء والزاد في سفرهم وترحالهم، وكان الذباب والهواء يكثر في هذه البيئة الصحراوية، فلو أن كل إنسان وقع في طعامه أو شرابه ذبابة فتخلص من هذا الطعام أو الشراب لهلك الناس جوعًا وعطشًا في ذلك الزمان. أما في هذا الزمان الذي نعيشه الآن فالطعام والشراب متوفر والسيطرة على الذباب ليست مشكلة.
كما أن العلم حتى هذه اللحظة لا يرى في الذباب غير مصدر معتبر من مصادر العدوى والمرض؛ لذا فإننا نرى -ومن منطلق بحث د. الأشقر- أن العمل بهذا الحديث غير ملزم بالرغم من صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى لو ثبت مستقبلاً صحة الحديث من الناحية العلمية، لأن هذا العمل من الأمور التي تعافها النفس البشرية وتكرهها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في هذا المجال، فقد كره الكي وهو علاج أساسي في زمانه، وكانت نفسه تعاف أكل البصل والثوم ولحم الضب، وهي أطعمة حلال.
وشأن حديث الذبابة كشأن التداوي ببول الجمال، فالثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم نصح بالتداوي ببول الجمال في حالات الاستسقاء البطني، ولكن مَن منَّا الآن يقبل أن يتداوى ببول الجمال حتى لو ثبتت فاعليته من الناحية العلمية؟!
ولا أظن أن هناك بحثًا علميًا معتبرًا نشر عن مدى فاعلية بول الجمال في علاج الاستسقاء أو غيره من الأمراض، وبالرغم من هذا فإني قرأت في أحد المواقع الخاصة بالطب النبوي على "شبكة الإنترنت" مقالاً يشير إلى أن البحوث العلمية أثبتت قدرة "بول الجمال" على علاج أمراض الاستسقاء، بالإضافة إلى أورام الكبد والسرطان وسرطان الدم...إلخ. ولا ندري أين هي هذه البحوث، ولا ندري مَن قام بها، وفي أي الأماكن، ولا ندري من هم هؤلاء المتطوعون الأبطال الذين تجرعوا أبوال الجمال لعلاج هذه الأمراض.
إن الأمر ببساطة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوظف المتاح والمتوارث والمتعارف عليه من العلاجات السائدة في زمانه. والسؤال الآن: إذا مَنَّ الله على عباده بعلاجات أكثر مصداقية وأكثر فاعلية وأكثر قبولاً لدى الناس من بول الجمال، فهل نترك هذه العلاجات ونعود إلى بول الجمال تحت زعم أنه طب نبوي؟!