العسل.. وما شفاؤه؟
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل:68، 69].
وفي الصحيحين أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أخي يشتكي بطنه". وفي رواية: "استطلق بطنه (أي أصابه إسهال) فقال: "اسقه عسلاً". فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغنِ عنه شيئًا". وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقًا - مرتين أو ثلاثًا -. كل ذلك يقول له: "اسقه عسلاً". فقال له في الثالثة أو الرابعة: "صدق الله وكذب بطن أخيك".
والعسل طعام قديم ودواء قديم قِدم الإنسان نفسه، وهو طعام طيب وسهل الهضم، ومناسب لغذاء الأصحاء والمرضى والكبار والصغار (وإن كانت هناك بعض المحاذير الطبية على استخدامه في الرضع). والعسل غني بالسكريات مثل الفراكتوز والجلوكوز، وكذلك يحتوي على كثير من الأحماض الأمينية والأملاح المعدنية والفيتامينات وبعض الأنزيمات التي لها دور في إتمام العمليات الحيوية داخل الخلايا، ولكن لم يرد أنه اكُتشفت فيه مادة علاجية محددة لعلاج مرض معين.
ومن الناحية الطبية فإن تقييم العسل كدواء لا يخرج عن كونه مادة مسهلة وطاردة للبلغم، كما أنه يستخدم بنجاح في علاج الجروح والقروح والحروق المستعصية؛ لأنه مادة مركزة لا تصلح لنمو البكتريا بصفة عامة، أما دور غذاء ملكات النحل في التنشيط الجنسي فهو دور تاريخي ومعروف للناس في كل زمان ومكان.
لذلك فإننا نعتقد أن دور العسل كوقاية قد يكون أفضل من دوره كعلاج، حيث إن المحتوى الغذائي للعسل متنوع وغني، وقد تساعد المداومة على تناوله على توفير عدد من الفيتامينات والأملاح المعدنية، والتي تقي من كثير من الأمراض الغذائية، وتساعد في تحسين الصحة وتعزيز المناعة وتنشيط الجسم بصفة عامة. وقد استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل كغذاء طيب ومحمود، وكوقاية أكثر مما استخدمه كعلاج ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق، وفي سنن ابن ماجه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء". ولم يرد في كتاب ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدم العسل كعلاج إلا مرة واحدة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستخدامه كمسهل لتنظيف بطن رجل أصيب بالتخمة والامتلاء، وهو ما ورد في الحديث الذي ذكرناه سلفًا.
ولعل الآية الكريمة قصدت دوره الوقائي أكثر من دوره العلاجي. والوقاية خير أنواع العلاج أو خير من العلاج، وهذا ما أكده فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص العسل.
أما دعاة "الطب النبوي" والمتاجرون به فإنهم حَمَّلوا الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ما لا تحتمل، وسلكوا نفس الطريق الذي يسلكه بعض هواة "التفسير العلمي للقرآن". فاستندوا إلى لفظة "شفاء" ليجعلوا من العسل مدرسة طبية علاجية شاملة، بل إنهم جعلوا للعسل منزلة خاصة تفوق منزلة ما عداه من مفردات الطب النبوي لدرجة أنهم أسموه "الطب الإلهي"، وكأن العسل طب من عند الله وما عداه ليس من عند "من له ملكوت السماوات والأرض".
بل إن بعض الغلاة وصلوا إلى مرحلة قصر العلاج شرعًا على أمرين اثنين: العسل لعلاج الأبدان والقرآن لعلاج النفوس. وذلك استنادًا إلى آية العسل، وآية: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء:82]. وجعلوا ما عداهما من العلاجات من قبيل البدع والمستحدثات.
ولقد أصبح العسل على أيديهم "علاجًا لكل داء" دون سند علمي أو شرعي؛ فهناك عسل لعلاج الضغط، وعسل لعلاج الربو، وعسل لعلاج الصدفية والبهاق، وعسل لعلاج القولون، بل وعسل لعلاج السكري والسرطان. وهكذا لم يتركوا مرضًا لم يجعلوا له عسلاً. ونحن لا ندري هل هم يوظفون الهندسة الوراثية لخلق أنواع من النحل تختص بكل مرض. أم أنهم يستخدمون العسل كقاعدة دوائية يضيفون إليها المواد العلاجية المتعارف عليها لعلاج هذه الأمراض، أم أنهم لا يفعلون لا هذا ولا ذاك ويكتفون بمجرد كتابة اسم المرض على عبوة العسل، وهذا هو أغلب الظن، ولقد رأينا كثيرًا من الناس فُتِنوا في دينهم، وراحوا ضحية النصائح الخاطئة بإيقاف العلاج الطبي واستخدام العسل أو العسل المخلوط بالحبة السوداء كعلاج أوحد لبعض الأمراض المزمنة والخطيرة.
وإذا كان لنا كلمة أخيرة في "موضوع العسل" فإننا نقول: إن سورة النحل نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، أي في مراحل الدعوة المبكرة، وليس من الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غير اتجاه الطب بعد نزول آية العسل، أو أمر بالاكتفاء بالعسل كطب تأسيسًا على هذه الآية الكريمة، ولكن الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم مقولة "شفاء من كل داء" في أشياء أخرى خلاف العسل مثل الحبة السوداء والسنا والسنوت، ولم يستخدمها في العسل.
والحديث الشهير الذي أمر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم باستخدام العسل وكان استخدام العسل فيه صحيحًا من الناحية العلمية، حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعلاج رجل أصيب بالتخمة والامتلاء بالعسل لإحداث إسهال يطرد الفضلات والأخلاط من البطن. وقد أسلفنا أنه من الثابت علميًا أن العسل يستخدم كمادة مسهلة، وفي المقابل فإن هناك أمورًا كثيرة عرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يأمر فيها بالعسل، وإنما رشح وسائل طبية أخرى. فالثابت مثلاً أنه احتجم من صداع في رأسه، وأمر بالكي لإيقاف النزيف، ورشح السنا كمادة مسهلة، ورشح القسط البحري والزيت لعلاج ذات الجنب. وهكذا.. هذا ما كان من شأن "العسل" مع من نزلت على قلبه "آية العسل" فما بال أقوام اليوم يجعلون للعسل شأنًا آخر، ويرسمون له طريقًا مختلفًا؟!.