(...)»[5]
ولاشك أن انشغال جمال بوطيب بتجريب نوع جديد من الكتابة الأدبية تقوم على هدم الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، وفي مقدمتها الشعر والسرد، وابتكار نوع جديد يقف في التخوم الفاصلة بينهما، لا يدخل ضمن طموح أدبي فحسب، ولكنه يندرج ضمن انشغالاته العلمية والأكاديمية.
3-جمال بوطيب ناقدا :
يشكل موضوع السرد والشعر جزءا من المشروع النقدي لجمال بوطيب ، وهو مشروع استهله بكتابين هامين هما: الجسد السردي، أحادية الدال وتعدد المرجع (2006) ؛والسردي والشعري، مساءلات نصية (2007) ، ساءل فيهما حدود التداخل والتمايز القائمة بين الشعر والسرد ، ودرس أبرز القضايا والإشكالات التي ترتبط بهما، انطلاقا من رؤية منهجية تتوسل بالمقاربة النصية والتحليل الأسلوبي لكل منهما ، عبر نماذج منتقاة من مختلف عصور الأدب العربي.
ينطلق جمال بوطيب في كتابه الأول : الجسد السردي من فكرة جوهرية مؤداها : أن السرد - باعتباره فعلا ينتج حكيا - يمثل الحقيقة الكونية والجوهرية التي توحد - وتدور في فلكها- كل الظواهر الطبيعية والكائنات الحية بما فيها الإنسان، لا فرق في ذلك بين الذات/الجسد، والمنقوشات، والأخبار، والأصنام والرحلات، والحيوانات، بل وحتى الأشعار، وبذلك يغدو كل التراث إبداعا، لكونه يتضمن - مهما اختلفت مواضيعه وأساليبه- محكيا سرديا ، لأن« السرد باعتباره منقولا خبريا يوجد في منقوش ما، لتضمن هذا المنقوش لـ: السارد/ الناقش، والمنقوش له/ المسرود له - وإن كان الذات - والناقش الحقيقي والناقش الضمني والموضوع السردي. ثم إن صانع الصنم أو مشكله يحاكي ويحكي أثناء خلق الأجساد، ويخلق حكايتها، ويضمن عبادتها، ويخاطبها وينطقها في حالات ومواقف مختلفة ومتباينة، فرحا وحزنا وغضبا ورضا ...إلخ
ألا تحكي جمال العرب ونوقهم، ومحمولاتهم في رحلاتهم، وسلعهم، أخبار وقصص بلدانهم ومصادر الرحلة ومنتهياتها .
ألا تقوم معلقة امرئ القيس كلها - وهي الشعر- على الحكي سواء أكان مضمرا أم معلنا(...)»[6]
وفي رأي بوطيب أن الحضور السردي اللافت في كثير من الأشعار القديمة يستلزم مراجعة الأحكام التي سطرها النقاد والدارسون، قديما وحديثا، وصنفوا من خلالها العديد من " القصائد" ضمن الجنس الشعري ، بالرغم من كونها حافلة بالحكي السردي. ولذلك يؤكد ضرورة إعادة تسمية كثير من النصوص التراثية ، وفي مقدمتها الشعر، والنظر إليها ليس باعتبارها قصائد ، وإنما مسردات ، لأن السرد حاضر فيها وبجلاء، فـ«الأخطل يحكي، وجرير أيضا. والفرزدق نظم سردا موزونا. وانتظم من والاهم أو من عاصرهم للبنية السردية العامة في الكتابة: "عمر بن أبي ربيعة" و "عكاشة العمي" و " جميل بثينة" و " مجنون ليلى" و " المتنبي" و " أبو تمام" ، بل أكثر من ذلك ابتدعت نصوص سردية نواة للنص السردي الكبير وصدرت بها النصوص.»[7]
ولم يكتف جمال بوطيب في الاستدلال على قوة طرحه ونجاعته بالنظر في الشعر فحسب، ولكنه وسع مجال دراسته وتحليله ليشمل مستويات متعددة ومتنوعة من الموروث العربي الذي تنتظم بنيته النصية وتتشكل على أساس الحكي السردي، فكشف عن المرجع الرمزي المتحكم في : كليلة ودمنة، وتناول المرجع الإحالي في : ألف ليلة وليلة، وقارب المرجع الخيالي الرمزي في: المقامة، وأبرز المرجع المثال في : السير الشخصية، والمرجع الواقعي في :الرحلات....إلخ
وإذا كان بوطيب قد ظل منشغلا في : الجسد السردي بالاستدلال على كون المحكي السردي هو المتحكم في بنيات النصوص التي درسها ومضامينها، فقد أفرد للعلاقة بين السردي والشعري كتابا خاصا، حاول في ثناياه مساءلة المتبقي من خصائص كل واحد منهما ، في ظل التداخل القائم بينهما على مستوى أجناس الكتابة وفروعها، والذي يتجلى أساسا في تخلي بعض النصوص السردية عن سرديتها لصالح الشعر، وهكذا وقف -بعد أن سطر تحديدا مفهوميا لجملة من المفاهيم كالشعري والسردي ، والشعرية والسردية...- عند بعض النصوص السردية والشعرية ليثبت نجاعة الفرضية التي يقوم عليها الكتاب والمتمثلة في « غياب الاستقلالية الجنسية في الكتابة وهجانة النوع الأدبي، واستعصائه الدائم والمستمر على التصنيفات المدرسية الصارمة، ومروقه ونزه عن المناهج التحليلية التي قد تصر بمرجعياتها الفكرية والنظرية ، وبمفاهيمها الضابطة وتمثلاتها التطبيقية على خنق حرية النص المؤسسة على سؤاله الدائم والمستوجب للمساءلة النصية الدائمة أيضا»[8]
لقد مكنت الرؤية المنهجية والتحليل الأسلوبي الذي تبناه جمال بوطيب في كتابه : السردي والشعري من الكشف عن الشعرية الكامنة في النصوص الروائية التي اشتغل عليها ، دون اختيار مسبق ومقصود لها، فانتهى إلى أن طريقة التسلسل المتناغم للأحداث في : مخلوقات الأشواق الطائرة، لإدوارد الخراط، كما أن الانزياح عن التقسيم الثلاثي للزمن الذي يتخلى عن وظيفته في تنمية السرد لصالح تكثيف الشحنة الإيحائية للحظة السرد ، والحرص على الإطناب في الوصف المغرق في الذاتية ، فضلا عن توظيف طاقات الخرق والتجاوز والانزياح في اللغة المستعملة كل ذلك -وغيره مما فصل بوطيب القول فيه- يجعل أسلوب الكتابة الشعرية حاضرا في رواية إدوارد الخراط بشكل لافت. والأمر نفسه يتحقق في كثير من الدواوين الشعرية كما أوضح في كتابه من خلال النماذج المدروسة.
ومضة الختام:
سعت هذه الورقة المتواضعة إلى الإيماء إلى أهمية أعمال الأستاذ الباحث والأديب المبـدع : د. جمال بوطيب عبر تقديم إشارات متفرقة ، وتسجيل ملاحظات أولية تومئ إلى بعض جوانب الخصوصية والتميز في تجربته التخييلية وممارسته النقدية، وإذا كان ثابتا أنه راكم تجربة غنية وهامة في الأدب والنقد ، فمما لاشك فيه أن كل عمل من أعماله يحتاج إلى قراءات فاحصة ومستفيضة للوقوف بدقة على طبيعة وحدود إسهامه في إثراء المشهد الثقافي المغربي الراهن.
[1]جمال بوطيب: سوق النساء أو ص.ب: 26، ط1، 2006، ص18.
[2]نفسه، ص31.
[3] جمال بوطيب: أوراق الوجد الخفية،شعر، منشورات ما بعد الحداثة، فاس، ط1، 2007، ص 10.
[4]نفسه ، ص 16.
[5]جمال بوطيب: أوراق الوجد الخفية، مذكور ،ص 31-32.
[6]جمال بوطيب: الجسد السردي، أحادية الدال وتعدد المرجع، دراسات في الموروث السردي العربي،IMBH، آسفي، ط1، 2006، ص10.
[7] نفسه، ص 11- 12.
[8]جمال بوطيب: السردي والشعري، مساءلات نصية، منشورات الديوان-7،آسفي، ط1، 2007، ص8.