يعد محمد بلبال بوغنيم من الشعراء المغاربة المعاصرين الذين اهتموا كثيرا بشعرية الفضاء والأبواب والمدن و الماء بطريقة قائمة على التشخيص والأنسنة وتوظيف الصورة الرؤيا كما يتجلى ذلك واضحا في ديوانه الشعري الأول" رتاج المدائن" . ويعني هذا أن مبدعنا هو الشاعر الأول في أدبنا المعاصر الذي صور الأبواب وأقفالها على ضوء رؤية شاعرية فلسفية ومرجعية يتقاطع فيها ماهو ذاتي وما هو موضوعي. ويكفيه فخرا أن يكون من السباقين إلى ذلك أيضا في الشعر المغربي المعاصر بدون منازع. وقد رصد الشاعر في هذا الديوان الأول تجارب الأبواب بأفضيتها استقراء واستكشافا بريشة تشكيلية فنية تجمع بين الأصباغ اللونية الطبيعية والرموز الفنية الأدبية. وقد كان الشاعر في ذلك مصورا ناجحا حيث ربط كل مدينة ببابها الدلالي ومعادلها الموضوعي. وبذلك يكون محمد بلبال بوغنيم من بين الشعراء الأوائل الذين خلقوا شاعرية الأبواب وساهموا في" شعرنة" فضاء المدن من خلال رؤية إيحائية تضمينية.إذا،ً ماهي دلالات الديوان؟ وماهي مرتكزاته الفنية والمرجعية والمناصية؟
1- المستوى المناصي:
صدر "رتاج المدائن" وهو أول ديوان شعري للمبدع المغربي محمد البلبال بوغنيم سنة 2001م عن مطبعة ويدان بتطوان في 120 صفحة من الحجم المتوسط. ويتبين لنا من خلال العنوان الخارجي أن الشاعر يشعرن الفضاء وأبوابه من خلال رؤى دلالية ومرجعية مختلفة بصياغة فنية وأدبية رائعة تشبه ماكتبه گاستون باشلارG.Bachelard عن جمالية الفضاء وعناصره الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب في كتابه "شعرية الفضاء". هذا، وقد أرفق الشاعر نصوصه الشعرية بمقتبسات نصية لشعراء مغاربة تضيء القصائد وتسعف القارئ على فهمها وتفسيرها وتأويلها . كما أرفقت بسياقاتها النصية التي تساهم في تفكيك القصيدة وتشريحها معنى ودلالة. وتم تصنيف الفهرس العنواني اعتمادا على الأبواب بمداخلها ومخارجها . وبذلك يكون هذا التصنيف تصنيفا فضائيا وتشكيليا في أبعاده السيميائية والشعرية. ويرد الإهداء في حلة رمزية تجريدية أساسها التجاذب الرومانسي العاطفي والتجريد الروحي العرفاني.
2- المستوى الدلالي:
للديوان الشعري الذي أبدعه محمد البلبال بوغنيم مدخل في شكل تقديم شعري معنون بالشهوة التي تؤشر على الرغبة الإيروسية التي تطبعها ملامح صوفية ورومانسية، ومخرج يكمن في باب السؤال في المعنى واللامعنى، وهنا يفلسف الشاعر الوجود بعوالمه الممكنة طارحا الأسئلة الذاتية والمصيرية.
يعلن الشاعر منذ بداية قصيدته أنه يدخل باب الحب والشهوة، ويبدو الشاعر رومانسيا صوفيا من رأسه حتى أخمص قدميه يفلسف حبه المثالي وعشقه الروحي ويدعو حسناءه الجميلة إلى الانصهار في بوتقة الحب والجمال. ويذكرنا الشاعر بتجارب الشعراء الرومانسيين المهجريين وخاصة جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة. وتطغى النزعة الوجدانية على مدخل الحب والشهوة وتتقاطع مع التجربة الروحية العرفانية لتشكل رؤية الشاعر الانجذابية نحو الآخر/ الأنثى:
<BLOCKQUOTE class=spip_poesie>
تعالي نبني عشا في الفضا
ننشر عطرا من ياسمين
في سمانا نرسم الغرام
لوحة تحكي حبنا المتين
كفانا شربا من تباريح
الجوى هلمي فالقلب سجين
سنكتب النيازك أحرفا
حتى لو كان كلامنا أنين
حبنا غيث سامق يروي
جنان أهل المتون السامعين
</BLOCKQUOTE>
ويتحول الحب في قصيدة " سيدة المنافي" إلى تجربة وجدانية ذاتية وروحية حيث ينتقل الحب من رمز وجداني مثالي إلى رمز عرفاني ثم إلى رمز مكاني حميمي:
سيدتي كوني مراياي ودعيني أصغي لماء جدولك الحجري دعيني، أصغي إلى أجمل آية فيك، ماعشقت غيرك، ولا أخفيت عليك، سرا من الإسرار، يا سيدتي يا سيدة المنافي.
ويصبح الماء عند الشاعر ميسما طاغيا على غرار مائيات الشاعرين المغربيين: محمد الأشعري وجمال أزراغيد. ويرمز الماء في الديوان إلى الخصوبة والنماء والصفاء والانشراح النفسي،وهو كذلك رمز للحياة والتحدي والصمود والمقاومة وتحرير الإنسان من شرنقة العبودية وتطهيره من الغل والحقد. ويتجسد هذا الماء في النضال البشري والمقاومة العربية للطغاة الصهاينة المتغطرسين الذين يتعطشون إلى إسالة دم الأبرياء من أطفال ونساء وضعفاء. ويتحول محمد الدرة وعرفات والمسيح إلى رموز مائية تحيل على أسطورة الموت والانبعاث التي تحدثت عنها الناقدة ريتا عوض لدى الشعراء التموزيين أمثال: أدونيس وخليل الحاوي وبدر شاكر السياب:
<BLOCKQUOTE class=spip_poesie>
إن الماء مشاكس فارحموه،
يا شهر الماء قلت لي يوما
الماء جيشنا والنار أبراج تعلو الفضاء،
قلت لك الماء ماؤنا ولو استطعت أعدت ترميمك وترتيبك،
فكيف تخزن ماءك في الماء؟
سأعيد ترميمك أيها الماء
كيف لا يحررك كل هذا الهواء؟
كيف لا ومحمد وصمة عار في جبين كل الأوفياء
في وطن بين الماء والماء،
وفي قصيدة " باب الرقراق" يصور الشاعر معاناته المأساوية وإحساسه بالاغتراب الذاتي والمكاني وتجسيد فواجع الإنسان من فقر وضياع وتآكل الوطن بين أنياب الرياح والعويل. أي إن باب أبي رقراق بنهره الغامر هو باب الغربة والحزن والضياع:
<BLOCKQUOTE class=spip_poesie>لن يرو خرير مائك ظمأ أحزان ضحكاتي،
غربة ابتساماتي
وأحلام فقرائي،
اخترقت مداك في المدى
وهاته غربتي
مهرا
إذا عسعس الليل الشبقي
ضاعت آفاقي
نهر الرقراق يا شفرة شعري
يامرآة قمري، ونجماتي،
على ماءك السلام
وفي قصيدة " باب سلا " يحضر الخطاب الصوفي من خلال التقاء الذات العاشقة بالذات المعشوقة ليتحقق بعد ذلك الوصال من خلال ميل الشاعر ولهانا وحضرة إلى الجمال القدسي والسر الأبدي:
حين ناولتني
تحت المحراب
قيثارة،
معطف مطر،
رسمت على خدي
لون خاتم أحمر،
كانت فوهة جمال
تزحف نحوي،
تباغتني
تلملمني قدر،
تلحن ركض خيل
سمفونيات عشق
تنساب هيفاء حوراء،
جذور حفيف الشجر
حرارة بقداسة السر،
تمتشق بريق حرقتي،
ترشفني كؤوس شاي،
وتجافيني عيونا سفر.
وتتجسد تجليات الرؤية الصوفية من خلال استحضار الجمال الرباني والتجلي الإلهي في قصيدته الرائعة( وصايا مجدلية):
لأشجارك دموعها،
وللجبال شموخها،
الله طرز الدنيا،
شق السماء،
لاح ضياء الفجر والشمس غسقا شفقا
وبنى هيكلا
تأملته المجدلية فلاح بصرها رأس الجسد:
صاحت: تعلم الخروج من الأشياء التي لاتأتيك من دأب
واستلهم الانسياب
قبل موسم العبور من لغتك الجميلة
من غبش الفجر الطاهر وأحلام
العذارى، أوصد باب الامتشاق من
عدم
وافتح صدرك للثريا،
لطيور الشعر حلقت فوق عرائش السرو
تنادي ألق الأمواج،
وتختفي بك موالا خالدا للصبايا/ الوطن
ومن " باب التصوف" إلى" باب تطوان" حيث البحر والأحلام والاشتياق والإخفاق والصمت والموت والخوف. هناك نجد الشاعر يتلذذ بالذكريات والسهرات الماجنة، وتتداخل في ذاكرته تقاطيع الذات وآلام تطوان الحمامة واغتراب الوطن:
باغتتني دهشة تطوان الحمامة
تلعق من نبيذ الآخر، تتألم،
آه يا وطني:
أحبك في البداية والنهاية،
كيف لا تدخل نيمبا
وكيف لا تتعلم ظبى سيرينيا
خبرني كيف لا والوطن
لا يرى ضوء الشمس
سوى في الذكرى المذبوحة
على صلبان الأحلام؟
</BLOCKQUOTE>
</BLOCKQUOTE>