*3* باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ حذف التشكيل
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ
الشرح:
قوله: (باب فضل اتباع الجنائز) قال ابن رشيد ما محصله مقصود الباب بيان القدر الذي يحصل به مسمى الاتباع الذي يجوز به القيراط، إذ في الحديث الذي أورده إجمال، ولذلك صدره بقول زيد بن ثابت، وآثر الحديث المذكور على الذي بعده وإن كان أوضح منه في مقصوده كعادته المألوفة في الترجمة على اللفظ المشكل ليبين مجمله، وقد تقدم طرف من بيان ما يحصل به مسمى الاتباع في " باب السرعة بالجنازة"، وله تعلق بهذا الباب، وكأنه قصد هناك كيفية المشي وأمكنته، وقصد هنا ما الذي يحصل به الاتباع وهو أعم من ذلك، قال: ويمكن أن يكون قصد هنا ما الذي يحصل به المقصد إذ الاتباع إنما هو وسيلة إلى تحصيل الصلاة منفردة أو الدفن منفردا أو المجموع.
قال: وهذا كله يدل على براعة المصنف ودقة فهمه وسعة علمه.
وقال الزين بن المنير ما محصله: مراد الترجمة إثبات الأجر والترغيب فيه لا تعيين الحكم، لأن الاتباع من الواجبات على الكفاية، فالمراد بالفضل ما ذكرناه لا قسيم الواجب، وأجمل لفظ الاتباع تبعا للفظ الحديث الذي أورده لأن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن لا لمن اتبع مثلا وشيع ثم انصرف بغير صلاة كما سيأتي بيان الحجة لذلك في الباب الذي يليه، وذلك لأن الاتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين: إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المرتب على المفصود، وإن كان يرجى أن يحصل لفاعل ذلك فضل ما بحسب نيته.
وروى سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال " اتباع الجنازة أفضل النوافل " وفي رواية عبد الرزاق عنه " اتباع الجنازة أفضل من صلاة التطوع".
قوله: (وقال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك) وصله سعيد بن منصور من طريق عروة عنه بلفظ " إذا صليتم على الجنازة فقد قضيتم ما عليكم فخلوا بينها وبين أهلها " وكذا أخرجه عبد الرزاق، لكن بلفظ " إذا صليت على جنازة فقد قضيت ما عليك " ووصله ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ الأفراد ومعناه فقد قضيت حق الميت، فإن أردت الاتباع فلك زيادة أجر.
قوله: (وقال حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى ثم رجع فله قيراط) لم أره موصولا عنه، قال الزين بن المنير: مناسبته للترجمة استعارة بأن الاتباع إنما هو لمحض ابتغاء الفضل، وأنه لا يجري مجرى قضاء حق أولياء الميت فلا يكون لهم فيه حق ليتوقف الانصراف قبله على الإذن منهم.
قلت: وكأن البخاري أراد الرد على ما أخرجه عبد الرزاق من طريق عمرو بن شعيب عن أبي هريره قال " أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها " الحديث، وهذا منقطع موقوف، وروى عبد الرزاق مثله من قول إبراهيم، وأخرجه ابن أبي شيبة عن المسور من فعله أيضا، وقد ورد مثله مرفوعا من حديث جابر أخرجه البزار بإسناد فيه مقال، وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعا بإسناد ضعيف، وروى أحمد من طريق عبد الله بن هرمز عن أبي هريرة مرفوعا " من تبع جنازة فحمل من علوها وحثا في قبرها وقعد حتى يؤذن له رجع بقيراطين " وإسناده ضعيف.
والذي عليه معظم أئمة الفتوى قول حميد بن هلال، وحكي عن مالك أنه لا ينصرف حتى يستأذن.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقُولُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ فَقَالَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عَائِشَةَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ فَرَّطْتُ ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
الشرح:
قوله: (حدث ابن عمر) كذا في جميع الطرق " حدث " بضم المهملة على البناء للمجهول، ولم أقف في شيء من الطرق عن نافع على تسمية من حدث ابن عمر عن أبي هريرة بذلك، وقد أورده أصحاب الأطراف والحميدي في جمعه في ترجمة نافع عن أبي هريرة، وليس في شيء من طرقه ما يدل على أنه سمع منه وإن كان ذلك محتملا، ووقفت على تسمية من حدث ابن عمر بذلك صريحا في موضعين: أحدهما في صحيح مسلم وهو خباب بمعجمة وموحدتين الأولى مشددة وهو أبو السائب المدني صاحب المقصورة قيل إن له صحبة، ولفظه من طريق داود بن عامر بن سعد عن أبيه " أنه كان قاعدا عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة "؟ فذكر الحديث.
والثاني في جامع الترمذي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكر الحديث، قال أبو سلمة فذكرت ذلك لابن عمر فأرسل إلى عائشة.
قوله: (أن أبا هريرة يقول من تبع) كذا في جميع: الطرق لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق إبراهيم بن راشد عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، لكن أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن مهدي بن الحارث عن موسى بن إسماعيل، عن أبي أمية عن أبي النعمان، وعن التستري عن شيبان ثلاثتهم عن جرير بن حازم عن نافع قال " قيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تبع جنازة فله قيراط من الأجر " فذكره ولم يبين لمن السياق، وقد أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ كذلك، فالظاهر أن السياق له.
قوله: (من تبع جنازة فله قيراط) زاد مسلم في روايته " من الأجر".
والقيراط بكسر القاف.
قال الجوهري: أصله قراط بالتشديد لأن جمعه قراريط فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء قال: والقيراط نصف دانق.
وقال قبل ذلك: الدانق سدس الدرهم.
فعلى هذا يكون القيراط جزءا من اثني عشر جزءا من الدرهم.
وأما صاحب النهاية فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربعة وعشرين جزءا، ونقل ابن الجوزي عن ابن عقيل أنه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم أو نصف عشر دينار.
والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط.
وذكر القيراط تقريبا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، وعد من جنس ما يعرف وضرب له المثل يما يعلم انتهى.
وليس الذي قال ببعيد، وقد روى بزار من طريق عجلان عن أبي هريره مرفوعا " من أتى جنازة في أهلها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراط، فإن صلى عليها فله قيراط، فإن انتظرها حتى تدفن فله قيراط " فهذا يدل على أن لكل عمل من أعمال الجنازة قيراطا وأن اختلفت مقادير القراريط ولا سيما بالنسبة إلى مشقة ذلك العمل وسهولته، وعلى هذا فيقال: إنما خص قيراطي الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين، بخلاف باقي أحوال الميت فإنها وسائل، ولكن هذا يخالف ظاهر سياق الحديث الذي في الصحيح المتقدم في كتاب الإيمان فإن فيه " إن لمن تبعها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها قيراطين " فقط، ويجاب عن هذا بأن القيراطين المذكورين لمن شهد، والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميت فافترقا، وقد ورد لفظ القيراط في عدة أحاديث: فمنها ما يحمل على القيراط المتعارف ومنها ما يحمل على الجزء في الجملة وإن لم تعرف النسبة.
فمن الأول حديث كعب بن مالك مرفوعا " إنكم ستفتحون بلدا يذكر فيها القيراط " وحديث أبي هريرة مرفوعا " كنت أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط " قال ابن ماجه عن بعض شيوخه: يعني كل شاة بقيراط.
وقال غيره: قراريط جبل بمكة.
ومن المحتمل حديث ابن عمر في الذين أوتوا التوراة " أعطوا قيراطا قيراطا " وحديث الباب، وحديث أبي هريرة " من اقتنى كلبا نقص من عمله كل يوم قيراط " وقد جاء تعيين مقدار القيراط في حديث الباب بأنه مثل أحد كما سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه.
وفي رواية عند أحمد والطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر " قالوا: يا رسول الله مثل قراريطنا هذه؟ قال: لا بل مثل أحد " قال النووي وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في الحديثين تساويهما لأن عادة الشارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها والله أعلم.
وقال ابن العربي القاضي: الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءا من حبة والحبة ثلث القيراط، فإذا كانت الذرة تخرج من النار فكيف بالقيراط؟ قال وهذا قدر قيراط الحسنات، فأما قيراط السيئات فلا.
وقال غيره: القيراط في اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتنى له في ذلك اليوم، وذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط في حديث الباب جزء من أجزاء معلومة عند الله؛ وقد قربها النبي صلى الله عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأحد، قال الطيبي: قوله " مثل أحد " تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط، والمراد منه أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله " من الأجر " وبين المقدار المراد منه بقوله " مثل أحد".
وقال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب فمثله للعيان بأعظم الجبال خلقا وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبا، لأنه الذي قال في حقه " إنه حبل يحبنا ونحبه " انتهى.
ولأنه أيضا قريب من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته، وخص القيراط بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل.
واستدل بقوله " من تبع " على أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، لأن ذلك هو حقيقة الاتباع حسا.
قال ابن دقيق العيد: الذين رجحوا المشي أمامها حملوا الاتباع هنا على الاتباع المعنوي أي المصاحبة، وهو أعم من أن يكون أمامها أو خلفها أو غير ذلك، وهذا مجاز يحتاج إلى أن يكون الدليل الدال على استحباب التقدم راجحا انتهى.
وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في " باب السرعة بالجنازة " وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك بما يغني عن إعادته قوله: (أكثر علينا أبو هريرة) قال ابن التين: لم يتهمه ابن عمر، بل خشي عليه السهو، أو قال ذلك لكونه لم ينقل له عن أبي هريرة أنه رفعه، فظن أنه قال برأيه فاستنكره انتهى.
والثاني جمود على سياق رواية البخاري، وقد بينا أن في رواية مسلم أن رفعه، وكذا في رواية خباب عن أبي هريرة عند مسلم أيضا.
وقال الكرماني: قوله " أكثر علينا " أي في ذكر الأجر أو في كثرة الحديث، كأنه خشي لكثرة رواياته أن يشتبه عليه بعض الأمر انتهى.
ووقع في رواية أبي سلمة عند سعيد بن منصور " فبلغ ذلك ابن عمر فتعاظمه " وفي رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد أيضا ومسدد وأحمد بإسناد صحيح " فقال ابن عمر: يا أبا هريرة انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قوله: (فصدقت يعني عائشة أبا هريرة) لفظ " يعني " للبخاري، كأنه شك فاستعملها.
وقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي النعمان شيخه فلم يقلها.
وفي رواية مسلم " فبعث ابن عمر إلى عائشة يسألها فصدقت أبا هريرة " وفي رواية أبي سلمة عند الترمذي " فذكر ذلك لابن عمر، فأرسل إلى عائشة فسألها عن ذلك فقالت: صدق " وفي رواية خباب صاحب المقصورة عند مسلم " فأرسل ابن عمر خبابا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت، حتى رجع إليه الرسول فقال: قالت عائشة صدق أبو هريرة " ووقع في رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد بن منصور " فقام أبو هريرة فأخذ بيده فانطلقا حتى أتيا عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين، أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " فذكره فقالت " اللهم نعم".
ويجمع بينهما بأن الرسول لما رجع إلى ابن عمر بخبر عائشة بلغ ذلك أبا هريرة فمشى إلى ابن عمر فاسمعه ذلك من عائشة مشافهة، وزاد في رواية الوليد " فقال أبو هريرة: لم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق بالأسواق، وإنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلة يطعمنيها أو كلمة يعلمنيها " قال له ابن عمر " كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه".
قوله: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة) أي من عدم المواظبة على حضور الدفن، بين ذلك مسلم في روايته من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال " كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة " قال فذكره.
وفي هذه القصة دلالة على تميز أبي هريرة في الحفظ، وأن إنكار العلماء بعضهم على بعض قديم، وفيه استغراب العالم ما لم يصل إلى علمه وعدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ، وفيه ما كان الصحابة عليه من التثبت في الحديث النبوي والتحرز فيه والتنقيب عليه، وفيه دلالة على فضيلة ابن عمر من حرصه على العلم وتأسفه على ما فاته من العمل الصالح.
قوله: (فرطت: ضيعت من أمر الله) كذا في جميع الطرق، وفي بعض النسخ " فرطت من أمر الله أي ضيعت " وهو أشبه.
وهذه عادة المصنف إذا أراد تفسير كلمة غريبة من الحديث ووافقت كلمة من القرآن فسر الكلمة التي من القرآن، وقد ورد في رواية سالم المذكورة بلفظ " لقد ضيعنا قراريط كثيرة".
(تكملة) : وقع لي حديث الباب من رواية عشرة من الصحابة غير أبي هريرة وعائشة: من حديث ثوبان عند مسلم، والبراء، وعبد الله بن مغفل عند النسائي، وأبي سعيد عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عوانة وأسانيد هؤلاء الخمسة صحاح.
ومن حديث أبي بن كعب عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقي في الشعب، وأنس عند الطبراني في الأوسط، وواثلة بن الأسقع عند ابن عدي، وحفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف.
وسأشير إلى ما فيها من فائدة زائدة في الكلام على الحديث في الباب الذي يلي هذا.