*3* باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ حذف التشكيل
رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح:
قوله: (باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين) قال الزين بن المنير: عدل عن قوله كراهة الصلاة على المنافقين لينبه على أن الامتناع من طلب المغفرة لمن لا يستحقها، لا من جهة العبادة الواقعة من صورة الصلاة، فقد تكون العبادة طاعة من وجه معصية من وجه.
والله أعلم.
قوله: (رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم) كأنه يشير إلى حديثه في قصة الصلاة على عبد الله بن أبي أيضا، وقد تقدم في " باب القميص الذي يكف " ثم أورد المصنف الحديث المذكور من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب، وسيأتي من هذا الوجه أيضا في التفسير.
*3* باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب ثناء الناس على الميت) أي مشروعيته وجوازه مطلقا، بخلاف الحي فإنه منهي عنه إذا أفضى إلى الإطراء خشية عليه من الزهو، أشار إلى ذلك الزين بن المنير.
الحديث:
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ
الشرح:
قوله: (فأثنوا عليها خيرا) في رواية لنضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم " كنت قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بجنازة فقال: ما هذه الجنازة؟ قالوا: جنازة فلان الفلاني، كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها".
وقال ضد ذك في التي أثنوا عليها شرا.
ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشر في رواية عبد العزيز.
وللحاكم أيضا من حديث جابر " فقال بعضهم لنعم المرء، لقد كان عفيفا مسلما " وفيه أيضا " فقال بعضهم بئس المرء كان، إن كان لفظا غليظا".
قوله: (وجبت) في رواية إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عند مسلم " وجبت وجبت وجبت " ثلاث مرات.
وكذا في رواية النضر المذكورة، قال النووي: والتكرار فيه لتأكيد الكلام المبهم ليحفظ ويكون أبلغ.
قوله: (فقال عمر) زاد مسلم " فداء لك أبي وأمي " وفيه جواز قول مثل ذلك.
قوله: (قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة) فيه بيان لأن المراد بقوله " وجبت " أي الجنة لذي الخير، والنار لذي الشر، والمراد بالوجوب الثبوت إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل.
وفي رواية مسلم " من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة " ونحوه للإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة، وهو أبين في العموم من رواية آدم، وفيه رد على من زعم أن ذلك خاص بالميتين المذكورين لغيب أطلع الله نبيه عليه، وإنما هو خبر عن حكم أعلمه الله به.
قوله: (أنتم شهداء الله في الأرض) أي المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان.
وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم.
قال.
والصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين انتهى.
وسيأتي في الشهادات بلفظ " المؤمنون شهداء الله في الأرض " ولأبي داود من حديث أبي هريرة في نحو هذه القصة " إن بعضكم على بعض لشهيد " وسيأتي مزيد بسط فيه في الكلام على الحديث الذي بعده.
قال النووي: والظاهر أن الذي أثنوا علنه شرا كان من المنافقين.
قلت: يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على الذي أثنوا عليه شرا، وصلى على الآخر.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ هُوَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقُلْنَا وَثَلَاثَةٌ قَالَ وَثَلَاثَةٌ فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ الْوَاحِدِ
الشرح:
قوله: (مر) بضم الميم على البناء للمجهول.
قوله: (حدثنا عفان) كذا للأكثر.
وذكر أصحاب الأطراف أنه أخرجه قائلا فيه " قال عفان " وبذلك جزم البيهقي.
وقد وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن عفان به، ومن طريقه أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم.
قوله: (حدثنا داود بن أبي الفرات) هو بلفظ النهر المشهور، واسمه عمرو، وهو كندي من أهل مرو.
ولهم شيخ آخر يقال له داود بن أبي الفرات اسم أبيه بكر وأبو الفرات اسم جده وهو أشجعي من أهل المدينة؛ أقدم من الكندي.
قوله: (عن أبي الأسود) هو الديلي التابعي الكبير المشهور، ولم أره من رواية عبد الله بن بريدة عنه إلا معنعنا.
وقد حكى الدارقطني في " كتاب التتبع " عن علي بن المديني أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث سمعت أبا الأسود.
قلت: وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة فلعله أخرجه شاهدا واكتفى للأصل بحديث أنس الذي قبله والله أعلم.
قوله: (قدمت المدينة وقد وقع بها مرض) زاد المصنف في الشهادات عن موسى بن إسماعيل عن داود " وهم يموتون موتا ذريعا " وهو بالذال المعجمة أي سريعا.
قوله: (فأثني على صاحبها خيرا) كذا في جميع الأصول " خيرا " بالنصب، وكذا " شرا " وقد غلط من ضبط أثنى بفتح الهمزة على البناء للفاعل فإنه في جميع الأصول مبني للمفعول، قال ابن التين: والصواب الرفع وفي نصبه بعد في اللسان.
ووجهه غيره بأن الجار والمجرور أقيم مقام المفعول الأول وخيرا مقام الثاني، وهو جائز وإن كان المشهور عكسه.
وقال النووي: هو منصوب بنزع الخافض، أي أثنى عليه بخير.
وقال ابن مالك: " خيرا " صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه فنصبت، لأن " أثنى " مسند إلى الجار والمجرور.
قال: والتفاوت بين الإسناد إلى المصدر والإسناد إلى الجار والمجرور قليل.
قوله: (فقال أبو الأسود) هو الراوي، وهو بالإسناد المذكور.
قوله: (فقلت: وما وجبت) هو معطوف على شيء مقدر، أي قلت هذا شيء عجيب، وما معنى قوله لكل منهما وجبت مع اختلاف الثناء بالخير والشر.
قوله: (قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما مسلم إلخ) الظاهر أن قوله " أيما مسلم " هو المقول فحينئذ يكون قول عمر لكل منهما " وجبت " قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم "أدخله الله الجنة"، وأما اقتصار عمر على ذكر أحد الشقين فهو إما للاختصار وإما لإحالته السامع على القياس، والأول أظهر، وعرف من القصة أن المثني على كل من الجنائز المذكورة كان أكثر من واحد، وكذا في قول عمر " قلنا وما وجبت " إشارة إلى أن السائل عن ذلك هو وغيره.
وقد وقع في تفسير قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) في البقرة عند ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة أن أبي بن كعب ممن سأل عن ذلك.
قوله: (فقلنا وثلاثة) فيه اعتبار مفهوم الموافقة لأنه سأل عن الثلاثة ولم يسأل عما فوق الأربعة كالخمسة مثلا، وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلا قطعيا بل هو في مقام الاحتمال.
قوله: (ثم لم نسأله عن الواحد) قال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعادا منه أن يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب.
وقال أخوه في الحاشية: فيه إيماء إلى الاكتفاء بالتزكية بواحد.
كذا قال، وفيه غموض.
وقد استدل به المصنف على أن أقل ما يكتفى به في الشهادة اثنان كما سيأتي في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.
قال الداودي: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفسقة لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة لأن شهادة العدو لا تقبل.
وفي الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر.
ونقل الطيبي عن بعض شراح " المصابيح " قال: ليس معنى قوله " أنتم شهداء الله في الأرض " أن الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم، ولا العكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرا رأوه منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنة، وبالعكس.
وتعقبه الطيبي بأن قوله " وجبت " بعد الثناء حكم عقب وصفا مناسبا فأشعر بالعلية.
وكذا قوله " أنتم شهداء الله في الأرض " لأن الإضافة فيه للتشريف لأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية للأمة بعد أداء شهادتهم، فينبغي أن يكون لها أثر.
قال: وإلى هذا يومئ قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) الآية.
قلت: وقد استشهد محمد بن كعب القرظي لما روى عن جابر نحو حديث أنس بهذه الآية، أخرجه الحاكم.
وقد وقع ذلك في حديث مرفوع غيره عند ابن أبي حاتم في التفسير، وفيه أن الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم " ما قولك وجبت " هو أبي بن كعب.
وقال النووي: قال بعضهم معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل - وكان ذلك مطابقا للواقع - فهو من أهل الجنة، فإن كان غير مطابق فلا، وكذا عكسه.
قال: والصحيح أنه على عمومه وأن من مات منهم فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا إلهام يستدل به على تعيينها، وبهذا تظهر فائدة الثناء انتهى.
وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا " ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون " ولأحمد من حديث أبي هريرة نحوه وقال " ثلاثة " بدل أربعة وفي إسناده من لم يسم، وله شاهد من مراسيل بشير بن كعب أخرجه أبو مسلم الكجي.
وأما جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر المشار إليها أولا في آخر حديث أنس " إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر " واستدل به على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر للحاجة ولا يكون ذلك من الغيبة.
وسيأتي البحث عن ذلك في " باب النهي عن سب الأموات " آخر الجنائز، وهو أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة، وأن أقل أصلها اثنان.
وقال ابن العربي: فيه جواز الشهادة قبل الاستشهاد، وقبولها قبل الاستفصال.
وفيه استعمال الثناء في الشر للمؤاخاة والمشاكلة، وحقيقته إنما هي في الخير.
والله أعلم.