*3* باب الِاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي) كأنه يشير بذلك إلى أن اللازم من قول من قال أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله كما هو منقول في رواية عن مالك وعن الشافعي أيضا، ومن أطلق أن التمتع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج كما نقل ابن عبد البر فيه الاتفاق فقال لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج أن من أحرم بالعمرة في ذي الحجة بعد الحج فعليه الهدي، وحديث الباب دال على خلافه، لكن القائل بأن ذا الحجة كله من أشهر الحج يقول إن التمتع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج قبل الحج فلا يلزمهم ذلك.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ وَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلْتُ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَرْدَفَهَا فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ
الشرح:
قوله: (خرجنا موافين لهلال ذي الحجة) أي قرب طلوعه، وقد تقدم أنها قالت " خرجنا لخمس بقين من ذي القعدة " والخمس قريبة من آخر الشهر، فوافاهم الهلال وهم في الطريق لأنهم دخلوا مكة في الرابع من ذي الحجة.
قوله: (لأهللت بعمرة) في رواية السرخسي " لأحللت " بالحاء المهملة أي من الحج.
قوله: (أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم، فأردفها) فيه التفات، لأن السياق يقتضي أن يقول فأردفني.
قوله: (مكان عمرتها) تقدم توجيهه وأن المراد مكان عمرتها التي أرادت أن تكون منفردة عن الحج، قال عياض وغيره: الصواب في الجمع بين الروايات المختلفة عن عائشة أنها أحرمت بالحج كما هو ظاهر رواية القاسم وغيره عنها، ثم فسخته إلى العمرة لما فسخ الصحابة، وعلى هذا يتنزل قول عروة عنها " أحرمت بعمرة " فلما حاضت وتعذر عليها التحلل من العمرة لأجل الحيض وجاء وقت الخروج إلى الحج أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة، واستمرت إلى أن تحللت، وعليه يدل قوله لها في رواية طاوس عنها عند مسلم " طوافك يسعك لحجك وعمرتك " وأما قوله لها " هذه مكان عمرتك " فمعناه العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة ثم أنشؤوا الحج مفردا، فعلى هذا فقد حصل لعائشة عمرتان.
وكذا قولها " يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج " أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة، وأما قوله في هذا الحديث " فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم " فظاهره أن ذلك من قول عائشة، وكذا أخرجه مسلم وابن ماجه من رواية عبدة بن سليمان ومسلم من طريق ابن نمير والإسماعيلي من طريق علي بن مسهر وغيره، لكن قد تقدم الحديث في الحيض من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة إلخ فقال في آخره " قال هشام ولم يكن في شيء من ذلك إلخ " فتبين أنه في رواية يحيى القطان ومن وافقه مدرج، وكذا أخرجه أبو داود من طريق وهيب والحمادين عن هشام، ووقع في الحديث موضع آخر مدرج وهو قوله قبل ذلك " فقضى الله حجها وعمرتها " فقد بين أحمد في روايته عن وكيع عن هشام أنه من قول عروة، وبينه مسلم عن أبي كريب عن وكيع بيانا شافيا فإنه أخرجه عقب رواية عبدة عن هشام وقال فيه " فساق الحديث بنحوه " وقال في آخره " قال عروة فقضى الله حجها وعمرتها، قال هشام: ولم يكن في ذلك هدي ولا صيام ولا صدقة " وساقه الجوزقي من طريق مسلم بهذا الإسناد بتمامه بغير حوالة، ورواه ابن جريج عن هشام فلم يذكر الزيادة أخرجه أبو عوانة، وكذا أخرجه الشيخان من طريق الزهري وأبي الأسود عن عروة بدون الزيادة، قال ابن بطال: قوله " فقضى الله حجها وعمرتها " إلى آخر الحديث ليس من قول عائشة وإنما هو من كلام هشام بن عروة حدث به هكذا في العراق فوهم فيه، فظهر بذلك أن لا دليل فيه لمن قال إن عائشة لم تكن قارنة حيث قال: لو كانت قارنة لوجب عليها الهدي للقران، وحمل قوله لها " ارفضي عمرتك " على ظاهره، لكن طريق الجمع بين مختلف الأحاديث تقتضي ما قررناه، وقد ثبت عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر كما تقدم، وروى مسلم من حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عنها " فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أهدى عنها من غير أن يأمرها بذلك ولا أعلمها به، قال القرطبي: أشكل ظاهر هذا الحديث " ولم يكن في ذلك هدي " على جماعة، حتى قال عياض: لم تكن عائشة قارنة ولا متمتعة وإنما أحرمت بالحج ثم نوت فسخه إلى عمرة فمنعها من ذلك حيضها فرجعت إلى الحج فأكملته ثم أحرمت عمرة مبتدأة فلم يجب عليها هدي، قال: وكأن عياضا لم يسمع قولها " كنت ممن أهل بعمرة " ولا قوله صلى الله عليه وسلم لها " طوافك يسعك لحجك وعمرتك " والجواب عن ذلك أن هذا الكلام مدرج قول هشام كأنه نفى ذلك بحسب علمه، ولا يلزم من ذلك نفيه في نفس الأمر.
ويحتمل أن يكون قوله " لم يكن في ذلك هدي " أي لم تتكلف له بل قام به عنها انتهى.
وقال ابن خزيمة: معنى قوله " لم يكن في شيء من ذلك هدي " أي في تركها لعمل العمرة الأولى وإدراجها لها في الحج، ولا في عمرتها التي اعتمرتها من التنعيم أيضا، وهذا تأويل حسن والله أعلم.
*3* باب أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب أجر العمرة على قدر النصب) بفتح النون والمهملة أي التعب.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ فَقِيلَ لَهَا انْتَظِرِي فَإِذَا طَهُرْتِ فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ ائْتِينَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ
الشرح:
قوله: (وعن ابن عون) هو معطوف على الإسناد المذكور، وقد بينه أحمد ومسلم من رواية بن علية عن ابن عون بالإسنادين وقال فيه: يحدثان ذلك عن أم المؤمنين، ولم يسمها، قال فيه لا عرف حديث ذا من حديث ذا، وظهر بحديث يزيد بن زريع أنها عائشة وأنهما رويا ذلك عنها بخلاف بن يزيد.
قوله: (يصدر الناس) أي يرجعون.
قوله: (بمكان كذا وكذا) في رواية إسماعيل " بحبل كذا " وضبطه في صحيح مسلم وغيره بالجيم وفتح الموحدة، لكن أخرجه الإسماعيلي من طريق حسين بن حسن عن ابن عون وضبطه بالحاء المهملة يعني وإسكان الموحدة، والمكان المبهم هنا هو الأبطح كما تبين في غير هذا الطريق.
قوله: (على قدر نفقتك أو نصبك) قال الكرماني " أو " إما للتنويع في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإما شك من الراوي، والمعنى أن الثواب في العبادة يكثر بكثرة النصب أو النفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة قاله النووي انتهى.
ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن منيع عن إسماعيل " على قدر نصبك أو على قدر تعبك " وهذا يؤيد أنه من شك الراوي، وفي روايته من طريق حسين بن حسن " على قدر نفقتك أو نصبك " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه الدارقطني والحاكم من طريق هشام عن ابن عون بلفظ " أن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك " بواو العطف، وهذا يؤيد الاحتمال الأول.
وقوله في رواية ابن علية " لا أعرف حديث ذا من حديث ذا " قد أخرج الدارقطني والحاكم من وجه آخر ما يدل على أن السياق الذي هنا للقاسم، فإنهما أخرجا من طريق سفيان وهو الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتها " إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك " واستدل به على أن الاعتمار لمن كان بمكة من جهة الحل القريبة أقل أجرا من الاعتمار من جهة الحل البعيدة وهو ظاهر هذا الحديث.
وقال الشافعي في " الإملاء ": أفضل بقاع الحل للاعتمار الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها، ثم التنعيم لأنه أذن لعائشة منها.
قال وإذا تنحى عن هذين الموضعين فأين أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحب إلي، وحكى الموفق في " المغني " عن أحمد أن المكي كلما تباعد في العمرة كان أعظم لأجره.
وقال الحنفية: أفضل بقاع الحل للاعتمار التنعيم، ووافقهم بعض الشافعية والحنابلة.
ووجهه من قدمناه أنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة إلى الحل ليحرم بالعمرة غير عائشة.
وأما اعتماره صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فكان حين رجع من الطائف مجتازا إلى المدينة، ولكن لا يلزمه من ذلك تعين التنعيم للفضل لما دل عليه هذا الخبر أن الفضل في زيادة التعب والنفقة، وإنما يكون التنعيم أفضل من جهة أخرى تساويه إلى الحل لا من جهة أبعد منه، والله أعلم.
وقال النووي: ظاهر الحديث أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر فضلا وثوابا بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليال من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعات في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر منه من التطوع، أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في " القواعد " قال: وقد كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم وهي شاقة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مطلقا.
والله أعلم.