*3* باب قَوْلُهُ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ حذف التشكيل
وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَلِمَتُهُ كُنْ فَكَانَ وَقَالَ غَيْرُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
الشرح:
قوله: (باب قوله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم - إلى - وكيلا) قال عياض: وقع في رواية الأصيلي (قل يا أهل الكتاب) ولغيره بحذف " قل " وهو الصواب.
قلت.
هذا هو الصواب في هذه الآية التي هي من سورة النساء لكن قد ثبت " قل " في الآية الأخرى في سورة المائدة (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) الآية، ولكن مراد المصنف آية سورة النساء بدليل إيراده لتفسير بعض ما وقع فيها فالاعتراض متجه.
قوله: (قال أبو عبيد كلمته كن فكان) هكذا في جميع الأصول، والمراد به أبو عبيد القاسم بن سلام، ووقع نظيره في كلام أبي عبيدة معمر بن المثنى، وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله.
قوله: (وقال غيره: وروح منه أحياه فجعله روحا) هو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: (وكلمته ألقاها إلى مريم) قوله كن فكان، وروح منه الله تبارك وتعالى أحياه فجعله روحا ولا تقولوا ثلاثة: أي لا تقولوا هم ثلاثة.
قوله: (ولا تقولوا ثلاثة) هو بقية الآية التي فسرها أبو عبيدة.
الحديث:
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ قَالَ الْوَلِيدُ حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ عَنْ عُمَيْرٍ عَنْ جُنَادَةَ وَزَادَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ
الشرح:
قوله: (عن الأوزاعي) في رواية الإسماعيلي من طريق علي بن المديني عن الوليد " حدثنا الأوزاعي".
قوله: (عن عبادة) هو ابن الصامت، في رواية ابن المديني المذكورة " حدثني عبادة " وفي رواية مسلم عن جنادة " حدثنا عبادة بن الصامت".
قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) زاد ابن المديني في روايته " وابن أمته " قال القرطبي: مقصود هذا الحديث التنبيه على ما وقع للنصارى من الضلال في عيسى وأمه، ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم، قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد؛ فإنه جمع فيه ما يخرج عنه جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم.
وقال غيره: في ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله: " عبده " وفي ذكر " رسوله " تعريض باليهود في إنكارهم رسالته وقذفه بما هو منزه عنه وكذا أمه.
وفي قوله: " وابن أمته " تشريف له، وكذا تسميته بالروح ووصفه بأنه " منه " كقوله تعالى: (وسخر لكم ما في الأرض جميعا منه) فالمعنى أنه كائن منه كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون كل ذلك وموجده بقدرته وحكمته.
وقوله: (وكلمته) إشارة إلى أنه حجة الله على عباده أبدعه من غير أب وأنطقه في غير أوانه وأحيى الموتى على يده، وقيل: سمي كلمة الله لأنه أوجده بقوله كن، فلما كان بكلامه سمي به كما يقال سيف الله وأسد الله، وقيل: لما قال في صغره إني عبد الله، وأما تسميته بالروح فلما كان أقدره عليه من إحياء الموتى، وقيل: لكونه ذا روح وجد من غير جزء من ذي روح.
وقوله: " أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة شاء " يقتضي دخوله الجنة وتخييره في الدخول من أبوابها، وهو بخلاف ظاهر حديث أبي هريرة الماضي في بدء الخلق فإنه يقتضي أن لكل داخل الجنة بابا معينا يدخل منه، قال: ويجمع بينهما بأنه في الأصل مخير، لكنه يرى أن الذي يختص به أفضل في حقه فيختاره فيدخله مختارا لا مجبورا ولا ممنوعا من الدخول من غيره.
قلت: ويحتمل أن يكون فاعل شاء هو الله، والمعنى أن الله يوفقه لعمل يدخله برحمة الله من الباب المعد لعامل ذلك العمل.
قوله: (قال الوليد) هو ابن مسلم، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم عن داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم عن ابن جابر وحده به ولم يذكر الأوزاعي، وأخرجه من وجه آخر عن الأوزاعي.
قوله: (عن جنادة وزاد) أي عن جنادة عن عبادة بالحديث المذكور وزاد في آخره، وكذا أخرجه مسلم بالزيادة ولفظه " أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء " وقد تقدمت الإشارة إليه في صفة الجنة من بدء الخلق، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بدخول جميع الموحدين الجنة في كتاب الإيمان بما أغنى عن إعادته.
ومعنى قوله: " على ما كان من العمل " أي من صلاح أو فساد، لكن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله: " على ما كان من العمل " أي يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.
(تنبيه) : وقع في رواية الأوزاعي وحده فقال في آخره: " أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل " بدل قوله في رواية ابن جابر: " من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء " وبينه مسلم في روايته.
وأخرج مسلم من هذا الحديث قطعة من طريق الصنابحي عن عبادة " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله حرم الله عليه النار " وهو يؤيد ما سيأتي ذكره في الرقاق في شرح حديث أبي ذر أن بعض الرواة يختصر الحديث، وأن المتعين عل من يتكلم على الأحاديث أن يجمع طرقها ثم يجمع ألفاظ المتون إذا صحت الطرق ويشرحها على أنه حديث واحد، فإن الحديث أولى ما فسر بالحديث.
قال البيضاوي في قوله " على ما كان عليه من العمل " دليل على المعتزلة من وجهين: دعواهم أن العاصي يخلد في النار وأن من لم يتب يجب دخوله في النار، لأن قوله: " على ما كان من العمل " حال من قوله: " أدخله الله الجنة " والعمل حينئذ غير حاصل، ولا يتصور ذلك في حق من مات قبل التوبة إلا إذا أدخل الجنة قبل العقوبة.
وأما ما ثبت من لازم أحاديث الشفاعة أن بعض العصاة يعذب ثم يخرج فيخص به هذا العموم، وإلا فالجميع تحت الرجاء، كما أنهم تحت الخوف.
وهذا معنى قول أهل السنة: إنهم في خطر المشيئة.
*3* باب قَوْلِ اللَّهِ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا حذف التشكيل
نَبَذْنَاهُ أَلْقَيْنَاهُ اعْتَزَلَتْ شَرْقِيًّا مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ فَأَجَاءَهَا أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ وَيُقَالُ أَلْجَأَهَا اضْطَرَّهَا تَسَّاقَطْ تَسْقُطْ قَصِيًّا قَاصِيًا فَرِيًّا عَظِيمًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نِسْيًا لَمْ أَكُنْ شَيْئًا وَقَالَ غَيْرُهُ النِّسْيُ الْحَقِيرُ وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ سَرِيًّا نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ
الشرح:
قوله: (باب قول الله تعالى: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) هذا الباب معقود لأخبار عيسى عليه السلام، والأبواب التي قبله لأخبار أمه مريم، وقد روى الطبري من طريق السدي قال: أصاب مريم حيض فخرجت من المسجد فأقامت شرقي المحراب.
قوله: (فنبذناه: ألقيناه) وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: (فنبذناه) قال: ألقيناه.
وقال أبو عبيدة في قوله: (إذ انتبذت) أي اعتزلت وتنحت.
قوله: (اعتزلت شرقيا مما يلي الشرق) قال أبو عبيدة في قوله: (مكانا شرقيا) مما يلي الشرق، وهو عند العرب خير من الغربي الذي يلي الغرب.
قوله: (فأجاءها: أفعلت من جئت ويقال ألجأها اضطرها) قال أبو عبيدة في قوله: (فأجاءها المخاض) مجازه أفعلها من جاءت، وأجاءها غيرها إليه، يعني فهو من مزيد جاء، قال زهير: وجاء وسار معتمدا إليكم أجاءته المخافة والـرجاء والمعنى ألجأته.
وقال الزمخشري: إن أجاء منقول من جاء، إلا أن استعماله تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء.
قوله: (تساقط: تسقط) هو قول أبي عبيدة، وضبط تسقط بضم أوله من الرباعي والفاعل النخلة عند من قرأها بالمثناة، أو الجذع عند من قرأها بالتحتانية.
قوله: (قصيا: قاصيا) هو تفسير مجاهد أخرجه الطبري عنه.
وقال أبو عبيدة في قوله: (مكانا قصيا) أي بعيدا.
قوله: (فريا عظيما) هو تفسير مجاهد وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه، ومن طريق سعيد عن قتادة كذلك، قال أبو عبيدة في قوله: (لقد جئت شيئا فريا) أي عجبا فائقا.
قوله: (قال ابن عباس: نسيا لم أكن شيئا) وصله ابن جرير من طريق ابن جريج " أخبرني عطاء عن ابن عباس في قوله: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) أي لم أخلق ولم أكن شيئا".
قوله: (وقال غيره النسي الحقير) هو قول السدي، وقيل: هو ما سقط في منازل المرتحلين من رذالة أمتعتهم، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال في قوله: " وكنت نسيا ": أي شيئا لا يذكر.
قوله: (وقال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت إن كنت تقيا) وصله عبد بن حميد من طريق عاصم قال: قرأ أبو وائل (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) قال: لقد علمت مريم أن التقي ذو نهية، وقوله نهية: بضم النون وسكون الهاء أي ذو عقل وانتهاء عن فعل القبيح وأغرب من قال إنه اسم رجل يقال له تقي كان مشهورا بالفساد فاستعاذت منه.
قوله: (وقال وكيع عن إسرائيل إلخ) ذكر خلف في " الأطراف " أن البخاري وصله عن يحيى عن وكيع، وأن ذلك وقع في التفسير، ولم نقف عليه في شيء من النسخ، فلعله في رواية حماد بن شاكر عن البخاري.
قوله: (سريا: نهر صغير بالسريانية) كذا ذكره موقوفا من حديث البراء معلقا، وأورده الحاكم في " المستدرك " وابن أبي حاتم من طريق الثوري والطبري من طريق شعبة كلاهما عن أبي إسحاق مثله، وأخرجه ابن مردويه من طريق آدم عن إسرائيل به لكن لم يقل بالسريانية وإنما قال البراء: السري الجدول وهو النهر الصغير، وقد ذكر أبو عبيدة أن السري النهر الصغير بالعربية أيضا وأنشد للبيد بن ربيعة: فرمى بها عرض السري فغـادرا مسجورة متجـاوز أقلامها والعرض بالضم الناحية، وروى الطبري من طريق حصين عن عمرو بن ميمون قال: السري الجدول، ومن طريق الحسن البصري قال: السري هو عيسى، وهذا شاذ.
وقد روى ابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر مرفوعا " السري في هذه الآية نهر أخرجه الله لمريم لتشرب منه".
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ وَكَانَتْ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ
الشرح:
حديث أبي هريرة في قصة جريج الراهب وغيره، والغرض منه ذكر الذين تكلموا في المهد، وأورده في ترجمة عيسى أنه أولهم.
قوله: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) قال القرطبي: في هذا الحصر نظر، إلا أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم الزيادة على ذلك، وفيه بعد، ويحتمل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيدا بالمهد وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد، لكنه يعكر عليه أن في رواية ابن قتيبة أن الصبي الذي طرحته أمه في الأخدود كان ابن سبعة أشهر، وصرح بالمهد في حديث أبي هريرة، وفيه نعقب على النووي في قوله: إن صاحب الأخدود لم يكن في المهد، والسبب في قوله هذا ما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والبزار وابن حبان والحاكم " لم يتكلم في المهد إلا أربعة " فلم يذكر الثالث الذي هنا وذكر شاهد يوسف والصبي الرضيع الذي قال لأمه وهي ماشطة بنت فرعون لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار " اصبري يا أمه فإنا على الحق".
وأخرج الحاكم نحوه من حديث أبي هريرة، فيجتمع من هذا خمسة.
ووقع ذكر شاهد يوسف أيضا في حديث عمران بن حصين لكنه موقوف، وروى ابن أبي شيبة من مرسل هلال بن يساف مثل حديث ابن عباس إلا أنه لم يذكر ابن الماشطة.
وفي صحيح مسلم من حديث صهيب في قصة أصحاب الأخدود " أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر، ومعها صبي يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمه اصبري فإنك على الحق " وزعم الضحاك في تفسره أن يحيى تكلم في المهد أخرجه الثعلبي.
فإن ثبت صاروا سبعة.
وذكر البغوي في تفسيره أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد.
وفي " سير الواقدي " أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد.
وقد تكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة وقصته في " دلائل النبوة للبيهقي " من حديث معرض بالضاد المعجمة، والله أعلم.
على أنه اختلف في شاهد يوسف: فقيل كان صغيرا، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسنده ضعيف، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير.
وأخرج عن ابن عباس أيضا ومجاهد أنه كان ذا لحية.
وعن قتادة والحسن أيضا كان حكيما من أهلها.
قوله: (وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج) بجيمين مصغر، وقد روى حديثه عن أبي هريرة محمد بن سيرين كما هنا، وتقدم في المظالم من طريقه بهذا الإسناد، والأعرج كما تقدم في أواخر الصلاة، وأبو رافع وهو عند مسلم وأحمد، وأبو سلمة وهو عند أحمد، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة عمران بن حصين، وسأذكر ما في رواية كل منهم من الفائدة.
وأول حديث أبي سلمة " كان رجل في بني إسرائيل تاجرا، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى.
فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، وكان يقال له جريج " فذكر الحديث، ودل ذلك على أنه كان بعد عيسى ابن مريم، وأنه كان من أتباعه لأنهم الذين ابتدعوا الترهب وحبس النفس في الصوامع.
والصومعة بفتح المهملة وسكون الواو هي البناء المرتفع المحدد أعلاه، ووزنها فوعلة من صمعت إذا دققت لأنها دقيقة الرأس.
قوله: (جاءت أمه) في رواية الكشميهني " فجاءته أمه " وفي رواية أبي رافع " كان جريج يتعبد في صومعته فأتته أمه " ولم أقف في شيء من الطرق على اسمها.
وفي حديث عمران بن حصين " وكانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فيكلمها، فأتته يوما وهو في صلاته " وفي رواية أبي رافع عند أحمد " فأتته أمه ذات يوم فنادته قالت: أي جريج أشرف علي أكلمك، أنا أمك".
قوله: (فدعته فقال أجيبها أو أصلي) زاد المصنف في المظالم بالإسناد الذي ذكره هنا " فأبى أن يجيبهما " ومعنى قوله أمي وصلاتي أي اجتمع عليه إجابة أمي وإتمام صلاتي فوفقني لأفضلهما.
وفي رواية أبي رافع " فصادفته يصلي، فوضعت يدها على حاجبها فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت.
ثم أتته فصادفته يصلي فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني، فقال مثله " فذكره.
وفي حديث عمران بن حصين أنها جاءته ثلاث مرات تناديه في كل مرة ثلاث مرات.
وفي رواية الأعرج عند الإسماعيلي " فقال أمي وصلاتي لربي، أوثر صلاتي على أمي، ذكره ثلاثا " وكل ذلك محمول على أنه قاله في نفسه لا أنه نطق به، ويحتمل أن يكون نطق به على ظاهره لأن الكلام كان مباحا عندهم، وكذلك كان في صدر الإسلام، وقد قدمت في أواخر الصلاة ذكر حديث يزيد بن حوشب عن أبيه رفعه " لو كان جريج عالما لعلم أن إجابة أمه أولى من صلاته".
قوله: (فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات) في رواية الأعرج " حتى ينظر في وجوه المياميس " ومثله في رواية أبي سلمة وفي رواية أبي رافع " حتى تريه المومسة " بالإفراد، وفي حديث عمران بن حصين " فغضبت فقالت: اللهم لا يموتن جريج حتى ينظر في وجوه المومسات " والمومسات جمع مومسة بضم الميم وسكون الواو وكسر الميم بعدها مهملة وهي الزانية وتجمع على مواميس بالواو، وجمع في الطريق المذكورة بالتحتانية، وأنكره ابن الخشاب أيضا ووجهه غيره كما تقدم في أواخر الصلاة وجوز صاحب " المطالع " فيه الهمزة بدل الياء بل أثبتها رواية، ووقع في رواية الأعرج " فقالت أبيت أن تطلع إلى وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة".