وقائله هو أبو محمد بن حزم وفساده ظاهر.
قال السبكي: ونساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة متساويات في الفضل، وهن أفضل النساء لقول الله تعالى: (لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) الآية، ولا يستثنى من ذلك إلا من قيل إنها نبية كمريم، والله أعلم.
ومما نبه عليه أنه وقع عند الطبراني من رواية أبي يونس عن عائشة أنها وقع لها نظير ما وقع لخديجة من السلام والجواب، وهي رواية شاذة، والعلم عند الله تعالى.
قوله: (وقال إسماعيل بن خليل) كذا في جميع النسخ التي اتصلت إلينا بصيغة التعليق، لكن صنيع المزي يقتضي أنه أخرجه موصولا، وقد أخرجه أبو عوانة عن محمد بن يحيى الذهلي عن إسماعيل المذكور، وأخرجه مسلم عن سويد بن سعيد والإسماعيلي من طريق الوليد بن شجاع كلاهما عن علي بن مسهر.
قوله: (استأذنت هالة بنت خويلد) هي أخت خديجة، وكانت زوج الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس والد أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكروها في الصحابة وهو ظاهر هذا الحديث، وقد هاجرت إلى المدينة لأن دخولها كان بها أي بالمدينة، ويحتمل أن تكون دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت عائشة معه في بعض سفراته، ووقع عند المستغفري من طريق حماد بن سلمة عن هشام بهذا السند " قدم ابن لخديجة يقال له هالة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم في قائلته كلام هالة، فانتبه وقال: هالة هالة " قال المستغفري: الصواب هالة أخت خديجة انتهى.
وروى الطبراني في " الأوسط " من طريق تميم بن زيد بن هالة عن أبي هالة عن أبيه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد فاستيقظ فضمه إلى صدره وقال: " هالة هالة " وذكر ابن حبان وابن عبد البر في الصحابة هالة بن أبي هالة التميمي، فلعله كان لخديجة أيضا ابن اسمه هالة والله أعلم.
قوله: (فعرف استئذان خديجة) أي صفته لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك، وقوله: " ارتاع " من الروع بفتح الراء أي فزع، والمراد من الفزع لازمه وهو التغير.
ووقع في بعض الروايات " ارتاح " بالحاء المهملة أي اهتز لذلك سرورا، وقوله "اللهم هالة " فيه حذف تقديره اجعلها هالة، فعلى هذا فهو منصوب، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه هالة وعلى هذا هو مرفوع، وفي الحديث أن من أحب شيئا أحب محبوباته وما يشبهه وما يتعلق به.
قوله: (حمراء الشدقين) بالجر، قال أبو البقاء: يجوز في حمراء الرفع على القطع والنصب على الصفة أو الحال، ثم الموجود في جميع النسخ وفي مسلم " حمراء " بالمهملتين، وحكى ابن التين أنه روي بالجيم والزاي ولم يذكر له معنى، وهو تصحيف والله أعلم.
قال القرطبي: قيل: معنى حمراء الشدقين بيضاء الشدقين، والعرب تطلق على الأبيض الأحمر كراهة اسم البياض لكونه يشبه البرص، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة يا حميراء.
ثم استبعد القرطبي هذا لكون عائشة أوردت هذه المقالة مورد التنقيص، فلو كان الأمر كما قيل لنصت على البياض لأنه كان يكون أبلغ في مرادها.
قال: والذي عندي أن المراد بذلك نسبتها إلى كبر السن، لأن من دخل في سن الشيخوخة مع قوة في بدنه يغلب على لونه غالبا الحمرة المائلة إلى السمرة، كذا قال، والذي يتبادر أن المراد بالشدقين ما في باطن الفم فكنت بذلك عن سقوط أسنانها حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، وبهذا جزم النووي وغيره.
قوله: (قد أبدلك الله خيرا منها) قال ابن التين: في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة دليل على أفضلية عائشة على خديجة إلا أن يكون المراد بالخيرية هنا حسن الصورة وصغر السن انتهى.
ولا يلزم من كونه لم ينقل في هذه الطريق أنه صلى الله عليه وسلم رد عليها عدم ذلك، بل الواقع أنه صدر منه رد لهذه المقالة، ففي رواية أبي نجيح عن عائشة عند أحمد والطبراني في هذه القصة " قالت عائشة فقلت أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير " وهذا يؤيد ما تأوله ابن التين في الخيرية المذكورة، والحديث يفسر بعضه بعضا.
وروى أحمد أيضا والطبراني من طريق مسروق عن عائشة في نحو هذه القصة " فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبدلني الله خيرا منها آمنت بي إذ كفر بي الناس " الحديث، قال عياض قال الطبري وغيره من العلماء الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها ولا عقوبة عليهن في تلك الحالة لما جبلن عليه منها، ولهذا لم يزجر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة عن ذلك.
وتعقبه عياض بأن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها، فلعلها لم تكن بلغت حينئذ.
قلت: وهو محتمل مع ما فيه من نظر، قال القرطبي: لا تدل قصة عائشة هذه على أن الغيرة لا تؤاخذ بما يصدر منها، لأن الغيرة هنا جزء سبب، وذلك أن عائشة اجتمع فيها حينئذ الغيرة وصغر السن والإدلال، قال فإحالة الصفح عنها على الغيرة وحدها تحكم، نعم الحامل لها على ما قالت الغيرة لأنها هي التي نصت عليها بقولها " فغرت " وأما الصفح فيحتمل أن يكون لأجل الغيرة وحدها، ويحتمل أن يكون لها ولغيرها من الشباب والإدلال.
قلت: الغيرة محققة بتنصيصها، والشباب محتاج إلى دليل، فإنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي بنت تسع وذلك في أول زمن البلوغ، فمن أين له أن ذلك القول وقع في أوائل دخوله عليها وهي بنت تسع.
وأما إدلال المحبة فليس موجبا للصفح عن حق الغير، بخلاف الغيرة فإنما يقع الصفح بها لأن من يحصل لها الغيرة لا تكون في كمال عقلها، فلهذا تصدر منها أمور لا تصدر منها في حال عدم الغيرة، والله أعلم.
*3* باب ذِكْرُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حذف التشكيل
الشرح:
قوله: (باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي) أي ابن جابر بن مالك من بني أنمار بن أراش، نسبوا إلى أمهم بجيلة، يكنى أبا عمرو على المشهور، واختلف في إسلامه والصحيح أنه في سنة الوفود سنة تسع، ووهم من قال إنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما لما ثبت في الصحيح " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له استنصت الناس " في حجة الوداع وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بأكثر من ثمانين يوما، وكان موت جرير سنة خمسين وقيل: بعدها.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ
الشرح:
قوله: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته فاستأذنت عليه، وليس كما حمله بعضهم على إطلاقه فقال كيف جاز له أن يدخل على محرم بغير حجاب؟ ثم تكلف في الجواب أن المراد مجلسه المختص بالرجال، أو أن المراد بالحجاب منع ما يطلبه منه.
قلت: وقوله: " ما حجبني " يتناول الجميع مع بعد إرادة الأخير.
قوله: (ولا رآني إلا ضحك) في رواية الحميدي عن إسماعيل " إلا تبسم في وجهي " وروى أحمد وابن حبان من طريق المغيرة بن شبيل عن جرير قال: " لما دنوت من المدينة أنخت ثم لبست حلتي فدخلت، فرماني الناس بالحدق، فقلت: هل ذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم، ذكرك بأحسن ذكر فقال: يدخل عليكم رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة ملك".
الحديث:
وَعَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ أَوْ الْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ قَالَ فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ قَالَ فَكَسَرْنَا وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ
الشرح:
قوله: (وعن قيس) هو موصول بالإسناد المذكور.
قوله: (ذو الخلصة) بفتح المعجمة واللام والصاد المهملة وحكي إسكان اللام.
وقوله: " اليمانية " بتخفيف الياء وحكي تشديدها، وقوله: " أو الكعبة الشامية " استشكل الجمع بين هذين الوصفين، وسيأتي جوابه مع شرح هذه القصة في أواخر المغازي مع الكلام على قوله الكعبة اليمانية أو الكعبة الشامية إن شاء الله تعالى.