ما مدى توافق أو اختلاف الطب الذي كان سائدًا في جزيرة العرب على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع ما يسمى بـ"الطب النبوي"؟ ثم ما موقعه من "الطب الحديث"؟ هذا التساؤل ليس سهلاً، ويحمل على التردد كثيرًا، لحساسية الموضوع أولاً؛ ولأنني أتبنى رأيا مختلفًا في هذا الموضوع ربما يثير الكثير من الانتقادات.
ولعل البحث المستنير للدكتور الأشقر (أحاديث "الطب النبوي".. هل يُحتج بها؟) فتح المجال أمامي وأمام كثيرين غيري -ممن يضيق صدرهم ولا ينطلق لسانهم- لمناقشة موضوع "الطب النبوي" من الناحية العلمية بلا خوف ولا تردد. الحياة في الجزيرة العربية قبل وبعد البعثة
منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشاءت إرادة المولى عز وجل أن يرسل نبيه الخاتم في مكان كان من أكثر الأماكن على ظهر الأرض وحشة وقسوة، ولقوم كانوا من أكثر خلق الله شرا في أرضه، كانوا أصحاب جهل وجاهلية؛ يعبدون الأصنام، ويشربون الخمر، ويئدون البنات، ويتقاتلون عقودا من أجل شربة ماء أو نحلة طائشة أو هفوة صغيرة. ولم يكونوا أصحاب حضارة ولا أصحاب علم.. وسرت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء الناس كما تسري النار في الهشيم؛ فأضحوا -بحمد من الله- أمة واحدة ذات دين قويم وخلق رفيع، وانتشرت هذه الدعوة حتى عمت مشرق الأرض ومغربها، ورحل عنهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وقال لهم ربهم في محكم كتابه الكريم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) [المائدة:3].
هذا ما كان من أمر الدين، أما أمور الدنيا فتكاد تكون كما هي لم يتغير فيها شيء، ولم يتبدل منذ جاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد عليها قومه إلى أن رحل عنهم.
جاءهم وهم يأكلون الثريد والتمر والبر والعسل، ويشربون حليب النوق والضأن، ويعيشون في بيوت من الشعر الحيواني والحجارة، ويحاربون بالسيف والرمح، ويركبون الدواب، ويتداوون بالكي والحجامة والعسل والحبة السوداء وألبان الإبل وأبوالها ودهن الحيوانات. ورحل عنهم وهم كما جاءهم لم يتغير في أمور معيشتهم شيء يذكر، إلا بعد أن فتح الله عليهم أركان المعمورة.
هكذا عاش النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة كما يعيشون، وعاش معهم بعد البعثة كما يعيشون. وتولى أمر الدين والدعوة بوحي من ربه، ولكنه ترك للناس أمور دنياهم إلا ما له علاقة بأمور الدين، وكان يجتهد في أمور الدنيا كما يجتهد أصحابه، فيصيب ويخطئ، وكان يشير على أصحابه، وكان أصحابه يشيرون عليه، ولعل ما حدث في غزوة بدر وغزوة الخندق خير دليل على أخذه برأي أصحابه في أمور خطيرة تتعلق بالجهاد ومستقبل الدعوة. ولعل حديث "تأبير النخل" خير دليل على اعتراض أصحابه عليه في أمر من أمور الدنيا، ولم يستنكف خير خلق الله من أن يقر بخطئه في هذا الأمر؛ حين قال: "إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم عن الله -عز وجل- فلن أكذب على الله". أي أن ما حدثهم به بشأن عدم تلقيح النخل كان اجتهادًا منه وليس وحيًا من عند الله، بل إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فضل أصحابه على نفسه في أمور الدنيا فقال لهم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".